بينما تجددت المواجهات بين النظام والمعارضة في إيران مؤخرا علي خلفية حدثين مهمين، تمثل أولهما في التعبئة النفسية التي تصاعدت وتيرتها في أعقاب جنازة المرجع الشيعي حسين منتظري، الأب الروحي لدعوة تغيير مبدأ ولاية الفقيه من ولاية مطلقة إلي أخري دستورية مقيدة، في حين تجلي ثانيهما في مناسبة عاشوراء، التي تعتبر طقسا دينيا شعبيا لا تحتاج الجماهير فيه إلي رخصة لإقامة تجمعات عامة كتلك التي لا تتورع السلطات الإيرانية عن السماح للحركات الاحتجاجية والقوي المعارضة بتنظيمها، عادت مجددا أدبيات الثورة الإسلامية الأولي لتفرض نفسها بقوة علي مسرح الأزمة السياسية الراهنة التي تعصف بالنظام الإيراني لتؤكد، بما لا يدع مجالا للشك، علي أن الشعب الإيراني لم يتحرر بعد من سطوة رجال الدين وحكمهم الثيوقراطي بالقدرالذي يعينه علي تعاطي السياسة واحترافها. فلقد تبودلت خلال المواجهات العنيفة بين النظام وقوي المعارضة الإيرانية مصطلحات دينية سياسية الدلالة بعد أن طغت بشكل بارز علي لغة الخطاب السياسي لكلا الطرفين، ومن بين أبلغ تلك الإصطلاحات التي شاعت في هذا المضمار علي سبيل المثال وليس الحصر، "المنافقون" و"رءوس الفتنة" لوصف المعارضة وزعمائها، كما ظل الخطاب عبر منابر المساجد يوم الجمعة ملمحا مهما. وفي وقت سابق قال ممثل للزعيم الإيراني آية الله علي خامنئي إن زعماء المعارضة "أعداء الله" ويجب إعدامهم بموجب الشريعة الإسلامية. كما حذر قائد الشرطة الإيرانية أتباع موسوي من أنهم سيلقون معاملة قاسية إذا لم يوقفوا مظاهراتهم غير المشروعة واعتبر رجل الدين المتشدد أحمد علم الهدي أن "أعداء المرشد، استناداً إليالقرآن، ينتمون إلي "حزب الشيطان". وقال علم الهدي وهو عضو في مجلس خبراء القيادة خلال تظاهرة طهران مخاطباً من أسماهم "رؤوس الفتنة": اذا لم تعلنوا "التوبة"، فإنكم إذن "محاربون لله ولرسوله"، وسيتصدي لكم الشعب والنظام بناءً علي ذلك"، والحرابة حدّها القتل وفقاً للشريعة. وشدد علم الهدي علي أن حربنا في العالم هي حرب ضد معارضي حكم المرشد، معتبراً ان معارضة ولاية الفقيه هي بمثابة معارضة مبدأ الإمامة والقرآن والإسلام. وبدوره، دعا رئيس مجلس صيانة الدستور الإيراني أحمد جنتي لاعتقال زعماء الإصلاحيين وإعدامهم باعتبار أنهم "مفسدون في الأرض" وعملاء يتلقون تمويلا من الخارج. كما دعا باستمرار احتجاز من وصفهم بالمشاغبين, قائلا إنهم سيواصلون أعمالهم "الشيطانية" فور الإفراج عنهم. وتحدثت وكالتا الأنباء الرسمية الإيرانية "إرنا" و"مهر" عن مشاركة ملايين الأشخاص في التظاهرات، تنديداً بانتهاك "قيم عاشوراء وحرماتها". ومن جانبه، أكد قائد الشرطة الجنرال اسماعيل احمدي مقدم ان الشرطة أظهرت رأفة خلال التعامل مع الاحتجاجات السابقة، لكن نظراً لأن هذه الأحداث الجارية تسعي لإطاحة النظام، لن يكون هناك رحمة و سنتخذ إجراءات قاسية. مرحلة التسامح انتهت وسيتم سحق أي شخص يشارك في تظاهرات كما ان القضاء سيتصدي لهم بحزم أكبر". واعتبر أن بعض المحتجين خلال الأحد الدامي هم "أعداء لله" وسيواجهون بحزم. وفي تأس منه بالإمام الخميني، أعلن موسوي في أول رد له علي الاشتباكات الأخيرة بين أنصاره وقوات الأمن: "لا يداخلني أي تردد في أن أكون واحدا من "الشهداء" من أجل تحقيق الحقوق الدينية والوطنية للشعب". حتي الزعيم المعتدل هاشمي رافسنجاني لم يسلم من حرب الإتهامات ذات الصبغة الدينية أوصاف مسيئة في العرف الإيراني أو الإسلامي (وصف من المحافظين "بمعاوية العصر"، "زعيم الفتنة"، "قارون العصر"، وإستبعده المرشد مؤخرا من دائرة مستشاريه المقربين. وفي حال استمرار الأزمة مفتوحة فإن أوساطا قريبة من المحافظين ومن السلطة تقول بأن السلطات لن تلجأ إلي القوة أبدا، وأنها ستستعمل الشارع والفتوي ورجال الدين في مواجهة المحتجين وأن الأكثرية معها، وأن هناك تحضيرات تجري علي قدم وساق للجوء إلي هذا الخيار. ويبدو أن حضور الدين في الأزمة الإيرانية قد إستغل من قبل النظام لإحتواء تلك الأزمة وتقليم أظافر المعارضة للخروج منتصرا، وليس أدل علي ذلك رفسنجاني، الذي يعتبر القيادة الثورية المؤهلة لتحريك وقيادة أي فعل ثوري حقيقي في إيران هذه الأيام، فما زال يمسك بالعصا من المنتصف محاولا الإبقاء علي أكبر مساحة ممكنة من التوافق مع المرشد برغم سخطه علي نجاد وإدعاء مراقبين إيرانيين وجود صراع بينه وبين خامنئي. فلقد سعي رفسنجاني إلي إلتماس حل سلمي للأزمة من خلال مؤسسات النظام الرسمية بدعوته المحتجين من خلال مجلس تشخيص مصلحة النظام، إلي التعاون مع مجلس صيانة الدستور لوضع نهاية للأزمة. وفي خطبة الجمعة التي ألقاها بجامعة طهران مؤخرا، تجنب رفسنجانيالإشارة صراحة إلي المرشد الأعلي وإكتفي بتكييل إنتقاداته لمجلس صيانة الدستور برغم إعلانه أن البلاد تمر بأزمة حقيقية وتلميحه إلي إهتزاز ثقة الجماهير في النظام علي خلفية أزمة الإنتخابات الرئاسية الأخيرة. وإذا كان البعض يري في مواقف رفسنجاني محاولة حذرة وقلقة لزحزحة الإيرانيين ونظامهم السياسي من دوامة الدين إلي دائرة السياسة، فإن حرص الرجل علي تلافي الإصطدام بالمرشد الأعلي للثورة والمؤسسات الموالية له كالأجهزة الأمنية والجيش من جهة، علاوة علي مواصلته اللعب من جهة أخري علي وتر وحدة الجمهورية الإسلامية واستقرار نظام ولاية الفقيه. وفي ذات السياق، بدأت قيادات المعارضة تتراجع تدريجيا مع زيادة النظام في معدلات البطش والتنكيل وإصراره علي عدم التراجع أو الإذعان من جهة وتوظيفه الدين في إدانة خصومه وامعارضيه من جهة أخري. فمن جانبه، أطلق رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني تصريحات وصفت بأنها توددية لخامنئي حينما أعلن أن خامنئي هو الأصلح لقيادة إيران، ويترافق ذلك مع بدء إجراءات قضائية بحق اثنين من أبناء رفسنجاني هما مهدي وفائزة هاشمي علي خلفية اتهامات بالفساد. وفي المشهد السياسي أيضاً شخصيات تتّبع سياسة تقول: شئنا أم أبينا فإن زمام السلطة التنفيذية اليوم في يد أحمدي نجاد الذي أصبح حكم رئاسته نافذاً وأدي اليمين القانونية وحصلت حكومته علي ثقة مجلس الشوري المنتخب، ولذلك فإن مصلحة إيران تقتضي القبول بهذا الواقع وإلا فإن المجتمع الإيراني سيدفع ليكون مجتمعاً أمنياً يتساوي فيه الغالب والمغلوب. ويتزعم هذا التيار قائد الحرس الثوري السابق محسن رضائي الذي حذر من أن حالة عدم الهدوء وصلت إلي حد الخطر وعلي الجميع أن يعلن وفاءه للقيادة ضمن مشروع أعلن عنه مؤخراً ويحمل شعار الاستقلال، الحرية، الجمهورية الإسلامية. وفي ذات السياق، قدم المرشح الإصلاحي الخاسر في الإنتخابات الرئاسية الأخيرة مير موسوي مبادرة للمصالحة مع النظام وتسوية الأزمة مكونة من خمسة بنود أبرزها دعوة لإصلاح النظام الإنتخابي والإفراج عن المعتقلين, والكف عن حملة التهديد بالقتل والاعتقال ضد أنصار المعارضة, وكفالة حرية الصحافة, وحق الشعب في تنظيم التجمعات القانونية. وقد عزز من فرص نجاح النظام الإيراني في تجاوز أزمته تفتت المعارضة بمعني أن "الخضر" ليسوا كياناً واحداً بل هم خليط من متدين وعلماني، مؤمن بولاية الفقيه ومعارض لها، قائل بشعار الموت لأمريكا وباحث عن دفن الشعار إلي الأبد، داع الي دعم القضية الفلسطينية وباحث عن التخلص من عبئها المادي والسياسي، كما أن أنصار موسوي يكبرون ليلاً من سطوح منازلهم فإن أنصار آخرين يبحثون عن مستقبل لا يحمل صفة إسلامية لجمهوريتهم الإيرانية، وفي صفوف أنصار موسوي من ليسوا بأنصار، ولا شك في أن شعاراً يقول: نه كروبي، نه موسوي، زنده باد بهلوي، ويعني لا لكروبي، لا لموسوي، يحيا بهلوي، قد وصل إلي أسماع موسوي عندما هتف به معارضون اتشحوا بالأخضر. لذلك، ليس مجازفة أن يتحدث بعض علماء الاجتماع الإيرانيين عن "الخضر" في إيران بوصفهم حركة تفتقد إلي أطر مرجعية واضحة كما تفتقد إلي الزعيم. ومثلما استخدم الدين في إيران قبل العام 1979 لإشعال فتيل الثورة وإضفاء الشرعية علي نظام حكم ثيوقراطي تمخضت عنه تلك الثورة، ليأبي أن يبقي رغم العواصف والتحديات ويصر علي أن يمضي كالمعتاد بكثير من الدين ويتجمل بقليل من السياسة، إنما يكرس من حالة التيه الإيراني في غياهب الصراع المتنامي بين الدين، الذي يصر علي الاحتفاظ بهيمنته إلي آخر مدي، والسياسة التي تحاول أن تجد لها مكانا في بيئة لا تزال غير مواتية.