مؤتمران متتاليان في الرياض وبيروت كلاهما عن واقع النشر في الوطن العربي، هذا ما يدعوني إلي طرح قضايا النشر في الوطن العربي، والسؤال الذي أطرحه في عنوان مقالي هذا، قد يبدو مستغرباً من البعض ومستهجناً من البعض؟ ومثار تعجب من آخرين؟ لكن الحقيقة المرة التي أريد أن أصدم بها القارئ أنه لا توجد صناعة نشر في الوطن العربي، بل يوجد لدينا طباعون للكتب، وهيئات ودور تعيش علي ميراث قديم، أو بالدفع المستمر من دعم الدولة، أو تقتات علي نشر الكتاب الجامعي، أو تستغل حفنة مما تبقي من أسماء عربية لامعة في عالم الكتابة، دون أن تخرج أجيالا جديدة. حقيقة الأمر أنه لا يوجد ناشر يحمل هذه الصفة بصدق سوي عدد قليل من دور النشر، وغير ذلك ناشرين ينشرون دون خطط مسبقة، ودون وعي بما ينشرون ولماذا ينشرون سوي من أجل المكسب المادي؟ وإن قل سارعوا بالشكوي من ركود صناعتهم؟ لأن بضاعتهم لا إقبال عليها من الجمهور. إحدي هذه الدور تنشر ما يعرف بالكتاب الإسلامي، فإذا ركد تتحول فجأة ودون مقدمات لنشر كتب عن الزينة والجمال والتخسيس والمطبخ وإصلاح السيارات، بل تري إحدي الهيئات المختصة بنشر الكتب تنشر مقالات لا تقرأ لصحفي أو صحفية من باب المجاملة في هيئة كتاب، ليحصل علي حفنة من الأموال، ليتحول بعدها بوق دعاية لهذه الهيئة. بل الطامة الكبري حين تهدر الأموال الطائلة في موسوعات كل ما فيها من معلومات تقادم عليه الزمن، وليقع كل من اشتراها في مطب معلومات تغيرت وتواريخ لم تعد صحيحة، بل نري إحدي دور النشر تستجدي دولة خليجية بطبع مطبوعات تروج لسياساتها. عجبا إذاً حين نري ناشرا يتعرض لمؤلف بإذلاله لكي ينشر له كتابا، بل يدفعه لكي يشاركه في تكاليف طباعته. بعد كل هذا هل مازال لدي القارئ شك أن لدينا صناعة نشر؟ هذا السؤال بحاجة فعلية إلي إجابة حقيقية تشخص الوضع الراهن في الوطن العربي وتقدم الحلول لتردي هذا الوضع واستمرارية ترديه بصورة مذهلة يوماً بعد يوم. إن تحميل جهة بعينها المسئولية أمر فيه اختزال للمشكلة في طرف واحد دون بقية الأطراف، لكن هذه الأطراف لابد وأن نتعرف عليها، وهي كما يلي: هيئات الكتب الرسمية، اتحاد الناشرين العرب، اتحاد الكتاب العرب، الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، كليات الفنون الجميلة والتطبيقية، دور النشر العامة والخاصة، غرف صناعة الطباعة والمطابع، ووزارات المالية، وزارات الصناعة لمسئوليتها عن صناعة الورق. وإحقاقاً للحق فإن هناك في وسط هذا الكابوس المظلم وهذه الحقيقة المفجعة، تجارب نشر تستحق أن نشيد بها لأن النقد لمجرد النقد لا جدوي منه، وإبراز بعض الضوء الشارد واجب، ففي الهيئة العامة للكتاب نجحت سلسلة تاريخ المصريين في سد فراغ كبير في التاريخ المصري، وقدمت مؤرخين شبابا للساحة الثقافية المصرية والعربية، حتي أضحت مرجعاً لا غني عنه لأي باحث، خاصة مع بيعها بسعر زهيد، وما جعلنا نستثنيها هنا هو وجود منهج علمي واضح في اختيار موضوعاتها بغض النظر عن ماهية المؤلف؟ هناك المشروع القومي للترجمة الذي ينفذه المجلس الأعلي للثقافة، فتنوع اللغات المترجم منها إلي العربية، وتنوع الموضوعات المترجمة، والحرص علي الجدية في كل ما ينشر، دفع هذا المشروع لكي يحتل مكانه مرموقة علي الساحة الثقافية العربية. بل نجح المشروع في تخريج جيل جديد من المترجمين الشباب سيكون لهم أثر كبير في السنوات القادمة، والمدقق في المشروع يجد أنه يتطور عاماً بعد آخر، وها هو ينشر خلال العامين المنصرمين كتباً في العلوم التطبيقية وليس فقط في الإنسانيات. تجربة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت سواء في سلسلته الرائعة عالم المعرفة التي تعد أفضل ما ينشر علي مستوي الوطن العربي، أو سلسلة روائع الأدب العالمي التي بدأت بروائع المسرح العالمي، كما أن حرص القائمين علي برامج النشر في الكويت علي الدقة واختيار الموضوعات بعناية فائقة، جعل سلاسل النشر الكويتية ذات مصداقية عالية. تعد صناعة الكتاب عملية معقدة ومركبة في مجملها، تتطلب من أي دار نشر أن تعمل وفق آليات هذه الصناعة، بصورة منضبطة وسليمة، فهناك مرحلة تحدد فيها الدار مجالها كناشر.. وهل هي ناشر متخصص أم ناشر عام أم ناشر يجمع الاثنين معاً وهو ما تمثله كبريات دور النشر الدولية. تلي هذه المرحلة تحديد دور مستشار النشر، وهو في الوطن العربي عملة نادرة، من المفترض فيه أن يكون مثقفا وقارئا ملما بحركة النشر، لدية خبرة بكافة مراحل صناعة الكتاب، يستطيع أن يقيم العمل المقدم له بصورة سليمة، دوره هنا ليس دور المتلقي بل دور المقيم الذي يطلب إدخال تعديلات علي المادة المقدمة له، وهو يوجه المؤلف لكي يجعل من كتابه مادة شيقة مقروءة، أو مادة علمية رزينة، ويوجه بعد ذلك مصمم الكتاب، ويحدد الجمهور المستهدف منه، والكمية المفترض طباعتها، ولكي نخضع المؤلف لرأي مستشار النشر وما يطلبه من تعديلات وإضافات أو اختصارات، فلابد أن نضمن حقوق المؤلف، وهي غالباً حقوق مهدده في مصر، بل يتعدي دور مستشار النشر ذلك في دور النشر الكبري إلي أن يطلب من مؤلف أو عدة مؤلفين الكتابة في موضوعات بعينها يري أنها ستكون أكثر رواجاً، أو أن حركة النشر تفتقدها بشدة. وفي كثير من الأحيان يسعي إلي كتاب محددين لكي ينفذ من خلالهم خطة نشر يري أنها هي التي ستحقق للدار التي يعمل بها أرباحاً معقولة، مثل هذه النوعية من المستشارين، فضلاً عن خطط تسويق الكتب المدروسة هي التي تحقق في الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان مبيعات للكتب بالملايين، لأن الناشر هنا يعتبر عملية النشر صناعة متكاملة، بل نري بعض الناشرين في الغرب يدفعون جزءا من حقوق كتابهم مقدماً لأنهم يرغبون في نشر مؤلف يعده هذا الكاتب. هذا يقودنا إلي العلاقة بين الناشر والمؤلف في الوطن العربي، فدائماً ما نتحدث عن حقوق النشر، لكن دائماً ما ننسي حقوق المؤلف، ذلك الإنسان الذي يبذل من جهده ووقته لكي يبدع لنا مؤلفا، لا ينال عنه ما يوازي جهده من المال، بل يسعي بعض الناشرين إلي اعتبار مجرد النشر لمؤلف ما، أن النشر في حد ذاته مكسب له ، بل يضطر بعض المؤلفين إلي الدفع للناشرين لكي ينشروا لهم. من هنا يجب إخراج قانون لحفظ حقوق المؤلف، كما أخرج قانون يحكم حقوق المطربين والملحنين، هذا القانون سيكون بداية لنهوض حقيقي بصناعة الكتاب، وتكون هناك علاقة عقدية محددة، يحمي فيها القانون حقوق الطرفين الناشر والمؤلف، يلتزم خلالها الناشر بالكشف عن حجم مبيعاته الحقيقية، إن احتدام حق المؤلف سيجعل منه مبدعا يحترم جمهوره المخاطب، وسيجعل لنا حقوقاً نحاسبه من خلالها علي ما ينشره ويبدعه. هنا نري أن دور اتحاد الكتاب العرب غائب ، فهو لا يؤدي دوره في حماية المؤلف بل إن هناك حقيقة يجب إقرارها أن نصف أعضاء الاتحاد ليسوا بكتاب، انضموا إليه من خلال المحسوبية والواسطة لدي لجنة القيد، وهناك مفهوم خاطئ، وهو اعتبار عضوية الاتحاد قاصرة علي الأدباء وكتاب السيناريو، وهناك مبدعون في غير هذين المجالين، لديهم مؤلفات رائجة وقراء كثر، إما رفضت عضويتهم للاتحاد أو اعتبروا أعضاء منتسبين، وتوقفوا عن سداد اشتراكاتهم للاتحاد، فمتي يدافع الاتحاد عن الكتاب؟ وهل الاتحاد في ظل رئاسة الكاتب الكبير محمد سلماوي سيكون هو الحصن الذي يأخذ علي عاتقه البحث عن حقوقه لدي الناشرين، وحقوق المؤلفين؟ هل سيسعي الاتحاد لضم الكتاب إليه؟ هل سيصحح دوره ومفهوم هذا الدور؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة. ما سبق يقودنا أيضاً إلي تصنيف ما ينشر من كتب، وسنجده كما يلي: - مطبوعات بهدف تلبية رغبات قراء بعينهم، وهي كتب الخدمات كالمطبوعات التي تتناول الأمراض الطبية وعلاجها بطريقة بسيطة، كتب الديكور والأزياء والموضة، كتب الحاسب الآلي وبرامجه. - مطبوعات بهدف الاستخدام الجامعي، وتعيش عليها نسبة كبيرة من دور النشر المصرية. - مطبوعات للنشر العام الثقافي والعلمي والأدبي وهي تمثل النسبة الأقل بين كل ما سبق علي عكس العالم كله.. ومنها المطبوعات السياسية كالمذكرات والكتب التي تحلل الأحداث السياسية. - بين كل ما سبق تقف السلاسل الشهرية أو الأسبوعية، وأبرزها في مصر "إقرأ وتاريخ المصريين وكتاب الهلال وكتاب اليوم" وقديماً المكتبة الثقافية. - هناك قضية سأطرحها هنا، هل الكتاب وسيلة تسلية وترفيه وتثقيف وتعليم، معظم الناشرين لم يدركوا أن هناك منافسة شرسة للكتاب، لذا لم يهتموا كثيرا بإخراجه حتي ظنوا أن الإخراج الجيد يقتصر علي الكتالوجات وكتب الفنون والأطفال، وأهملوا شكل الكتاب العادي في حد ذاته، فلم يصبح سلعة جذابة تلفت الانتباه؟ إن هناك الكتاب الفاخر والكتاب الشعبي والطبعة الفاخرة والطبعة الشعبية. حقيقة الأمر إن معظم دور النشر لا تعرف مثل هذه التصنيفات لأن دورها هو إخراج الكتاب، ولا يوجد لديها من يقوم بدراسة تسويق الكتاب والبحث عن رغبات القراء، فالكتاب المصور الذي يشاهد ويقرأ من قبل العائلة في المساء غير متوافر في سوق الكتاب العربي، فضلاً عن أن المؤسسات الاقتصادية لا تدعم صناعة الكتاب فالبنوك والشركات لا تعتبر الكتاب ضمن قوائم اهداءاتها للعملاء كما يحدث في الغرب، كما انه علي الجانب الآخر فان الصفحات المتخصصة في عروض الكتب وبرامج التلفاز المتخصصة في عروض الكتب في مجملها إما خبرية أو تميل إلي المجاملة، فضلاً عن أن روح النقد ظلت بعيدة عن عروض الكتب، هذه الروح تبين للقارئ لماذا هذا الكتاب متميز عن غيره أو لماذا أعد له الصحفي ملخصا للقارئ؟ إن طرح التساؤلات ومحاولة الإجابة عليها هي التي ستخلق اهتماماً بأي كتاب، كما أن اختفاء ظاهرة نشر كتب بأكملها في الصحف قبل نشرها تساعد كثيراً علي رواجها.