من هنا ذهبت، بدعوة كريمة منه، لمشاهدة أحدث أفلامه "الديكتاتور"، الذي كتب قصته خالد سرحان وصاغ السيناريو ميشيل نبيل، وأتصور أن فيهما خالد وميشيل تكمن نقطة ضعف الفيلم الذي لا تدري إن كان "فانتازيا سياسية" أو "واقعية سينمائية" أو ينتمي إلي السينما الرمزية، التي تحتمل الاسقاطات والايحاءات السياسية! بالطبع كان لضعف خبرة ميشيل نبيل في كتابة السيناريو دخل كبير فيما حدث، لأن الفكرة براقة للغاية، بل يمكن القول إنها كانت قادرة علي أن تصنع فيلما ينضم إلي مصاف الأفلام المهمة ورفيعة الشأن في تاريخ السينما المصرية لو أن كاتبا مثل وحيد حامد تصدي لتحويلها إلي فيلم سينمائي، فأي كاتب هذا الذي يبدد فكرة طازجة كالتي ينطلق منها الفيلم، الذي يتحدث عن الدولة التي يحكمها طاغية أو "ديكتاتور" كل ما يهمه في الدنيا أن يستيقظ ليجد نفسه علي "كرسي الحكم" بينما ترك ولداه "حكيم" و"عزيز" ليعيثا فسادا في البلد كل علي طريقته؟ يخطيء من يظن أن الفيلم يتحدث عن دولة وهمية اسمها "بمبوذيا"، فكل من اتيحت له فرصة مشاهدة الفيلم أيقن انه أمام دولة يعرفها تمام المعرفة، وأن "الديكتاتور"، ليس غريبا عليه بل رآه وتابع خطبه في أكثر من مناسبة، مثلما استمع إلي حكايات ونوادر تصل إلي حد الأساطير عن الشابين اللذين حكما البلد في حياة أبيهما، فالمتابع لفيلم "الديكتاتور"، يراه نسخة طبق الأصل مما يجري في دول العالم الثالث من سفارات تحولت في بعض الأحيان إلي "مواخير"، لارضاء ابن الحاكم، ورموز ثقافية وسياسية ارتضت لنفسها أن تصبح "بطانة" أو "حاشية"، للابن المدلل أو الشقيق المرفه. لكن كيف يمكن لفكرة مثل هذه أن تتحول إلي سيناريو أخاذ يخطف العقول قبل الأبصار؟ هنا، بكل أسف، تكمن أزمة فيلم "الديكتاتور"، الذي حاول مخرجه إيهاب لمعي أن "يصنع من الفسيخ شربات"، لكنه لم يفلح، وضاعت محاولاته هباء لينطبق عليه المثل الشعبي "إيه تعمل الماشطة في الوش العكر" أو حسبما ينبغي أن يكون "ايه يعمل المخرج في السيناريو المهلهل"؟ يبدأ فيلم "الديكتاتور" بتعليق صوتي علي لسان "الراوي"، يؤكد علي أهمية "بمبوذيا"، البلد العريق نبع الحضارة، وصاحبة الموقع المتميز الذي جعلها مطمعا للغزاة "لاحظ انه يتحدث عن دولة "بمبوذيا"! ثم ينتقل إلي شعب "بمبوذيا" الذي دفع من دم شبابه ثمن الحرية "مازال الحديث عن "بمبوذيا"! وفي محاولة للتمويه علي الرقابة، التي تبنت موقفا متشددا حيال السيناريو قبل تصويره فأضفت عليه أهمية لا يستحقها، وربما الالتجاء إلي السخرية اللاذعة التي فشل السيناريو في توظيفها، وبدا مترددا وهو يعتمد عليها، يقول الراوي: "بمبوذيا"، علمت العالم أصول الديمقراطية، وحقوق الإنسان، حتي صارت مثلا يحتذي في تداول السلطة. بداية مشجعة للغاية، خصوصا أن المخرج نجح بعدها مباشرة في توظيف الصورة "الحاكم الذي يسير علي نهج هتلر وموسوليني". والحوار "المذبحة التي ارتكبها ضد معارضيه في موقعة "الصينية"، الشهيرة في أعقاب محاولة اغتياله وأيضا "الكابوس الذي يؤرق مضجعه كل ليلة بأن هناك انتخابات رئاسية نزيهة تلوح في الأفق"، ناهيك عن ثورة التطهير التي وصفت بأنها بيضاء، بينما لا تخلو من تصفية واغتيالات، فكل شيء في الفيلم يحمل دلالة واسقاطا وصل إلي حد توظيف "إنفلونزا الطيور"، و"الخنازير"، لتصبح "إنفلونزا الصقور" التي قصد بها التخلص من "الصقور" التي تحوم حول كرسي الحكم، وتستهدف اسقاط النظام، ومن ثم وجب اصطيادهم حتي لو أدي الأمر إلي تطهير البلاد من كل الصقور حتي من حمل الاسم فقط بحجة "الحفاظ علي سلامة البلد، وصحة الشعب"، وهي المقولة نفسها التي يتردد صداها في كل مناسبة لكن الجديد هذه المرة أن هناك من يتحدث عن "صحة الشعب"! مرة أخري كيف ينتهي فيلم يملك المقومات لأن يصبح وثيقة سينمائية تحذر من مغبة الطغيان وتدين كل "ديكتاتور" إلي المصير الذي تحول فيه فيلم "الديكتاتور" إلي وسيلة تعذيب تتفوق علي أكثر الوسائل وحشية في النظم الديكتاتورية؟ لقد انزلق الفيلم إلي درك سقيم، بسبب السيناريو الضعيف، وانقلب إلي شيء هزلي دخل خلاله، وأدخلنا، في متاهة حول "المرضعة" ذات "الصدر الأعظم"، التي ينبغي أن ترضع الطفلين "حكيم" و"عزيز"، عقب وفاة أمهما، والوزير الذي يبلغ من العمر سبعين عاما، وينظر إليه الحاكم بوصفه "عيل" لأنه أي الحاكم بلغ من العمر عتيا، ومازال علي سدة الحكم، والنزاع المتهافت والساذج بينه وبين ابنه "حكيم"، الذي يبيع البلد لأنه باع "الماج" الذي يحمل صورته، والقرار الذي لا يمكن أن يتخذه "ديكتاتور"، بابعاد ابنه "عزيز" عن البلاد، بحجة أنه "ماجن"، و"عابث"، وزير نساء، وهي التكئة الدرامية التي أراد الفيلم من خلالها أن يتحايل علي الرقابة التي اشترطت ألا تشير الأحداث من قريب أو بعيد أنها تجري في مصر، فكان الرحيل إلي مصر دراما من خلال "عزيز" الذي تم ترحيله، أو نفيه، إليها وكأنه في بعثة دراسية، فما كان منه فور وصوله سوي أن راح يواصل مجونه، وقرب إليه "القواد"، شرف الكبريت إدوارد بينما أوكل للملحق العسكري ونظيره الاقتصادي مهمة "تحضير الفطار" أما المستشار الثقافي فأسند إليه مهمة أخطر تتمثل في لملمة قطع الملابس الداخلية التي يتركها أو تتركها "العاهرة" بعد "ليلة حمراء"! مباشرة، في الكتابة، واصرار علي لي عنق الدراما للإضحاك تارة، ولفت الأنظار إلي جرأة مصطنعة تارة أخري، والنتيجة ارتباك وفوضي وتلعثم وتخبط في كل الاتجاهات، فهناك حديث بلا معني عن شراء الصحفيين الذين يتظاهرون أمام القراء والمعجبين بالشرف والنضال والثورية، ويتساوي الواحد منهم في "الظرف"، الذي يتسلمه من سكرتيرة "ابن الرئيس" مع القواد "شرف الكبريت" هل لاحظت فجاجة الاسم والمعني المباشر من ورائه؟ وهو التخبط نفسه الذي يدفع كاتب السيناريو لنسج علاقة شديدة الركاكة والسذاجة في آن واحد حول مدرسة التاريخ مايا نصري التي يعجب بها "ابن الرئيس"، في إحدي زياراته الرسمية في مصر، والتي لا تجد لها مبررا، فيقع في غرامها من أول نظرة، وعندما تستعصي عليه يعينها كمستشارة بينما لا تحرك من جانبها ساكنا، وكأنها "بقرة" تسالق إلي المذبح، وتتناسي تماما كل مبادئها التي كانت تتغني بها منذ مشهد واحد، والحجة في تبرير هذا الخضوع والخنوع "الخوف من الاحالة للتحقيق بتهمة إساءة العلاقات بين مصر وبمبوذيا"؟! نصل إلي نقطة الذروة، التي يفترض انها تأخذ الفيلم إلي منحي آخر، وهي اللحظة التي يحدث فيها انقلاب يطيح بالحاكم "الديكتاتور"، حسن حسني وابنه "البياع"، خالد سرحان في دور "حكيم" و"عزيز"، وإذ بها تزيد من سذاجة الفيلم وتفاهته، حيث يصطحبهما "أشعث"، ضياء الميرغني إلي وكره أو عشته النائية، ويبدأ في تعذيبهما بسادية بحجة انهم "ياما مصوا دم الشعب" وأحالوا أبناء الشعب إلي جواسيس يبيع فيهم الابن أخيه وأمه وأبيه، ولا تملك سوي أن ترثي علي لغة الحوار في الفيلم، التي تتأرجح بين الخطابة والعبارات الانشائية التي تجاوزتها "النشرات الحزبية"، منذ زمن طويل، وأيضا "العنترية الساذجة"، التي لا تنطلي علي أحد، وربما لهذا السبب اكتشف كاتب السيناريو أنه في ورطة بعدما تشعبت في يديه الخطوط، وعبثا حاول اغلاقها بأي شكل فاختار التعسف الدرامي حلا، وفجأة وبلا مبرر يعقل يتم اعادة "الديكتاتور" الي الحكم من باب "الديكتاتور اللي نعرفه احسن من الطاغية اللي ما نعرفوش""!" وبعد رحلة تشرد وهمية ومزيفة لا تقنع ساذج يعود "عزيز" الي غيه وفساده، ويتخلي عن الفتاة التي احبته، وخطبته لنفسها، ولا تسأل كيف وهي المناضلة التي تعلم تلاميذها دروس التاريخ وتحرضهم علي كراهية الطغاة مثل هتلر وموسوليني ونيرون، فالمنطق في هذا الفيلم غائب، والاغنية مقحمة و"محشورة" و"خارج السياق" مثلها في ذلك مثل "عربية الفول" و"الكهربا اللي ما كانتش تصل الي الاقاليم حتي لا يستخدمها الاهالي في تعذيب الحاكم وابنه حكيم"! هل اخطأت عندما القيت بالمسئولية كلها علي كاتب شاب يخوض اولي تجاربه السينمائية بعد تجربة او اثنتين في عالم "الست كوم" وبرأت المخرج ايهاب لمعي من تحمل نصيبه الاكبر من المسئولية عن هذا الذنب الذي اقترفه باسم "الديكتاتور"؟ بالطبع لا، فهو المسئول عن اختيار سيناريو كان عليه ان يدرك مسبقا انه "لا يصلح" او "فاقد الاهلية لان يصبح سيناريو" واذا كان مجبرا علي اختياره لاي سبب من الاسباب فقد كان عليه ان "يشتغل عليه" عساه يصنع منه شيئا لكنه لم يفعل واغلب الظن ان هذا جر عليه متاعب جمة اثناء التصوير، وعلي الرغم من اختياره الصائب لمودي الامام ليضع الموسيقي التصويرية للفيلم بعد غياب طويل وتصوير ايهاب حامد والمحاولات التي بلا طائل للمونتيرة مها رشدي في لملمة اشلاء الفيلم، والاسلوب السينمائي الذي اجتهد ليعطيه مذاقا خاصا مزج خلاله بين "الفانتازيا" والكوميديا السوداء الا ان التجربة حملت من التناقضات ما جعلها غير محتملة، فالتمثيل في اسوأ حالاته، يستوي في هذا الممثل القدير والمخضرم مثل حسن حسني والشاب الذي يبحث لنفسه عن مكان "ولو بالعافية" مثل خالد سرحان وايضا مايا نصري التي اثبتت ان نجاحها في "رمضان مبروك ابوالعلمين حمودة" كان "صدفة" اما عزت ابوعوف فلا جديد تحت الشمس فالترخص مجاني والقيمة غائبة عن اختياراته وحتي النهاية جاءت مفاجئة ومبتسرة وصادمة وكأنها تحمل اعترافا واقرارا بأن الفيلم اصيب بسكتة ابداعية!