ست أدري هل كان أستاذنا الدكتور بطرس غالي أطال الله في عمره وأبقاه علي حق عندما كان يلفت نظرنا إلي أن أمريكا كدولة كبري مشغولة بقضايا كثيرة في العالم.. والنظر إليها علي أنها مهتمة أكثر بقضية الشرق الأوسط هو أمر خاطئ. وكان يقول ويشدد: إن العالم أكبر وأوسع من أن يتم اختزاله في القضية الفلسطينية وكفي! ولاشك أن د. بطرس غالي كان يلاحظ أننا نظل في حالة ترقب للتحركات الأمريكية طوال الوقت ننتظر منها أن تهتم بالشرق الأوسط: سلامه، ونفطه، وأوضاعه الديمقراطية فيه، وعلاقة الحكام بالمحكومين، وتوزيع الثروات.. إلي آخر هذه القائمة من القضايا التي تشغل بالنا في المنطقة. وأذكر أنه قال إن نفس النظرة العربية لأمريكا هي ذاتها التي ينظر بها العرب إلي الأممالمتحدة.. فهم ينتظرون منها أن تهتم فقط بالأوضاع في الشرق الأوسط.. وهذا أمر مستحيل هكذا كان يقول د. بطرس غالي فهناك أوضاع صعبة في أفريقيا السمراء، وفي أمريكا اللاتينية وآسيا.. ومنها شعوب تكاد تموت بسبب الصراعات والحروب الأهلية، والانفلات الأمني، والصراع علي مقاعد السلطة، ومراكز الثروات والموارد.. وبالتالي علي الأممالمتحدة أن تكرس جهودها لانقاذ شعوب هذه المناطق من عمليات القتل العشوائي والابادة الجماعية التي تتعرض لها. أقول: هذا ما كان استاذنا د. بطرس غالي يقوله لنا.. لكن يبدو من خلال مراقبة للأحداث أن الأمور قد تغيرت، فأمريكا وتحديداً السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية لا اهتمام لها سوي بملف إيران النووي.. فكل تصريحاتها تصب في اتجاه المعارضة الشديدة لهذا الملف وتحركاتها في العالم لا هدف لها سوي التجييش والتعبئة ضد إيران النووية فقبل أيام كانت مباحثات أمريكية صينية احتل فيها ملف إيران النووي مكان الصدارة.. وقبل ذلك كانت زيارات لها في البلقان وروسيا، والشرق الأوسط، ومنطقة الخليج.. وحده الملف النووي الإيراني هو شغلها الشاغل إلي حد أن "لوموند ديبلوماتيك" وصفتها ذات مرة بأنها وزيرة للملف النووي الإيراني وليست للخارجية! مصير مجاهدي خلق! .. كان طبيعياً أن تدور الدوائر اليوم علي جماعة "مجاهدي خلق" المعارضة لنظام الملالي في إيران.. ومن عجب أنها عندما تأسست في البداية كانت معارضة لنظام الشاه.. تم تحولت ضد الخوميني وثورته.. ولقد احتضنها صدام حسين في زمانه واستخدمها كرأس حربة في معركته الشرسة ضد إيران والتي امتدت نحو ثماني سنوات عجاف لم يحصد منها الشعب العراقي سوي الحنظل.. وكان انشأ لها معسكرا أطلق عليه اسم "أشرف" ومول قيادات هذه الجماعة وأشهرهم مسعود رجوي وأغرق عليهم جميعاً أموالاً طائلة، وكنت ألتقي بنفر منهم في العاصمة الفرنسية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وزرت القصور التي كانوا يملكونها في ضواحي باريس.. ولم نكن نسمع منهم سوي شيء واحد هو الاصرار علي قلب "نظام الملالي" كما يسمونه.. وأشهد أن حياتهم كانت "لاذوردية" مخملية فأموال الشعب العراقي كانت تحت تصرفهم بأمر من صدام. .. ونعم هؤلاء في فترة لاحقة بتسهيلات ضخمة قدمها الغرب لهم بغرض تقوية شوكتهم لتكون دائماً في حلق إيران.. فتقدم المئات منهم بطلبات اللجوء السياسي، وحصلوا علي تراخيص وامتيازات ورواتب في فرنسا وبريطانيا وإسبانيا.. وكذلك أمريكا التي ساندت مجاهدي خلق بسبب خلافاتهم الدائمة والعميقة مع الخوميني وثورته منذ حادث الرهائن الشهيرة في السفارة الأمريكية داخل طهران والذي استمر علي حاله لمدة 444 يوماً! واليوم تنكرت العراق لمجاهدي خلق، وداهمت قوات من الجيش والبوليس "بالتعاون مع القوات الأمريكية في العراق" معسكر أشرف في بغداد، وانهالت ضرباً علي عناصر مجاهدي خلق، وبات الأمر مرشحا للتصعيد وربما للانفلات الامني.. ليصبح صديق الأمس عدو اليوم! وقبل ذلك كانت الدول الأوروبية قررت طرد أعضاء مجاهدي خلق من أراضيها واعتبارهم عناصر غير مرغوب فيها، بل وإدراج اسم الجماعة ثانية علي قوائم الارهابيين.. وهكذا دارت الأيام دورتها ووجدت مجاهدي خلق نفسها "وراء القضبان" متهمة بشتي الاتهامات.. وهو بلاشك درس لكل من يبيع نفسه خدمة للآخرين.. وضد بلده! قنبلة وليد جنبلاط .. "لا صداقات ولا عداوات دائمة.. وحدها المصالح هي الدائمة" هذا هو الدرس الأول في السياسة بشكل عام، لذلك لم يستهجن الكثيرون القنبلة التي فجرها السيد وليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان وأحد الأرقام الصعبة في المعادلة السياسية اللبنانية عندما انتقد سلوكه السياسي في المرحلة السابقة، مشيراً إلي أنه ليس من المعقول أو المقبول أن يظل اسيراً لمواقفه التي اتخذها سواء بالتحالف مع مجموعة الأغلبية المعروفة باسم 14 آذار أو بالتحالف مع الإدارة الأمريكية السابقة إدارة جورج دبليو بوش ورفاقه من المحافظين الجدد.. والحق ان الرجل لم يخجل من أن يقول إنه يعتبر هذا الموقف تحديداً نقطة سوداء في تاريخه!وليس من شك في أننا في المنطقة العربية قد اعتدنا من الزعيم الدرزي شططاً في المواقف ومفاجآت مذهلة إلي حد أن البعض يضع أيديه علي قلبه خوفاً عندما يعلم أن وليد جنبلاط سوف يتحدث بعد طول صمت.. كما هو حاله الآن! فكلنا يعلم أنه منذ اتخذ موقفاً "ناقداً" لحزب الله وتزعم تيار التحامل عليه، وإعادة النظر في سلاحه.. وهو الموقف الذي أثار كثيراً من الشجون في حينه، لم يخرج وليد جنبلاط من جحره! إلا بهذا الموقف الذي قلب موازين كثيرة في بلاد الأرز.. فهو عندما يشدد علي العودة بحزبه إلي الثوابت والأصول التي تأسس عليها "وهي الثوابت اليسارية والعربية والنقابية".. وألا يتمادي في الانحياز إلي الفرز الطائفي في البلاد، وأن يضع في اعتباره مجدداً جملة المتغيرات اللبنانية والإقليمية مثل الحوار السعودي السوري، والحوار السوري الأمريكي، بمشاركة أوروبية، إنما يعلن دون مواربة أنه بصدد وضع استراتيجية جديدة تحدد توجهاته السياسية والتحالفية.. صحيح أن اندفاعه مع تيار الأغلبية كان من أجل موضوع المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس الحريري.. لكن بعد افتضاح أكذوبة الضباط الأربعة الذين برأتهم المحكمة وفي ضوء العدوان الإسرائيلي المتكرر علي سيادة لبنان ورفضه القاطع للدور المرسوم لبلاده وهو دور حرس الحدود لإسرائيل.. كان علي وليد جنبلاط أن يعيد النظر في رؤاه، وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاكمه الآخرون.