أنطرح الولد أرضا ، وأخذ يلملم نفسه ويجمع بقايا العيش الناتج من الخطف ، وقطرات عرقه الساخن المختلطة بطين الأرض تتساقط علي وجهه وعلي قفص العيش الفارغ. السابعة صباحا، داعبت وجهي نسائم منعشة وأنا منتظرة علي رصيف محطة الجيزة القطار المتوجه إلي أسيوط، المحطة تعج بالمسافرين، الصعايدة، الفلاحين، الأجانب، القاهريين، الحقائب والأمتعة المختلفة الأشكال والألوان ملقاة علي الأرض، النساء الفلاحات يجرجرن أطفالهن وهن يحملن علي رؤوسهن أطنان من البيض والزبدة والجبن متمنيات أن يكون يومهن مليئا بالخير والرزق، الأفندية يحملون شنطا أنيقة، وحقائب سفر نظيفة، وبعضهم يحمل علي كتفه شنطة الكمبيوتر المحمول، نداء الباعة، صراخ الأطفال، نداء الحمالين العجائز وهم ينوؤن بحملهم من أجل الحصول علي الإكرامية المعتادة، أصوات من هنا وهناك، رنات التليفونات المحمولة في كل مكان، صعدت القطار وتوجهت إلي مقعدي، وجلست انظر من النافذة، وبعد تحرك القطار بخمس دقائق، بدأت الحياة تدب من حولي، لكني تمنيت أن أهرب من المكان بأسرع ما أستطيع، التليفونات المحمولة ترن وتصحبها قراءة قرآن، البعض من الركاب يتلون القرآن بصوت عال، والبعض الآخر فتح الراديو علي إذاعة القرآن، تحول القطار إلي مباراة صوتية، واندفع من باب عربة القطار إلي الداخل رجل قصير نحيل يرتدي جلبابا كله بقع وشحم وزيت ويرتدي علي رأسه طاقية قماش وأخذ يصرخ بصوت محشرج ويمطر الناس بمواعظ عن الآخرة والنار ويطلب منهم المساعدة في جمع تبرعات لبناء جامع، انكمشت في مقعدي لمدة دقائق ثم استجمعت شجاعتي وحاولت أن أستسمح كل فريق أن يخفض الصوت، نظروا إلي شذرا ولسان حالهم يقول، أعوذ بالله تريد منا أن نخفض صوت كلام الله، وهي متبرجة وغير محجبة، تصلبت في مقعدي، وألقيت بالكتب والمجلات والروايات التي كنت أحملها معي، خمس ساعات حبيسة إرهاب من يدعون أنهم يقومون بسماع كلام الله، نزلت من القطار، الصداع يملأ رأسي وأنا أردد بصوت عال، مولد وصاحبه غايب، نظر بعض الناس إلي، وتجمهر حولي آخرون وهم يتمتمون "يا حول الله يا رب، الست دماغها اتلحس". الجوع.. يا أولاد ال.... أثناء توجهي إلي ميكانيكي السيارات في إحدي المناطق المكتظة بالسكان لأصلح سيارتي العجوز التي ما زلت أتمسك بها حتي الآن، ولم تعد تحتمل السير في شوارع قاهرة المعز، رأيت عجلة يركبها ولد لم يتجاوز عمره عشر سنوات ويحمل فوق رأسه قفص عيش بلدي وواضح انه حصل عليه فورا من الفرن البلدي الذي في نفس الشارع الذي أسير فيه، فجأة رأيت أربعة رجال يجرون وراء العجلة محاولين اللحاق بها، وبعد فترة قصيرة تمكنوا من الإمساك بالعجلة، وشدوا قفص العيش من الولد وخطفوا العيش وكل رجل نجح في أن يجمع قدرا كبيرا منه بين راحة يديه، ولم يكتفوا بذلك بل انهالوا علي الولد ضربا بأرجلهم، وسبه بأفظع الشتائم "ولادنا جعانين ومش عارفين نأكلهم"، "هنموت من الجوع يا اولاد الكلب". أنطرح الولد أرضا ، وأخذ يلملم نفسه ويجمع بقايا العيش الناتج من الخطف ، وقطرات عرقه الساخن المختلطة بطين الأرض تتساقط علي وجهه وعلي قفص العيش الفارغ. نظرت إلي المشهد كالهاربة وكأن جنزير حديد طوق خاصرتي، واقتحمت رأسي تساؤلات شتي؟ لماذا انفصل القمر عن الأرض، وأحاطت بنا الجبال وغمرتنا البحار؟ ما عدد الذين ماتوا في الثورة العرابية؟ وهل عرابي خائن؟ لماذا انتفض الشعب في 17، 18 يناير وهل هي انتفاضة حرامية؟ ام انتفاضة جوعي؟ إرادة الحياة؟ هل تكفي لسد رمق الجوع؟ عبث، عبث، الديمقراطية، المواطنة، المشاركة، الإرهاب، الهزيمة، الإصلاح،...... الخ ماذا تعني؟ أفقت علي أصوات عمال ورشة يرفعون موتور خردة، وباعة جائلين وعربات تجعجع، ورائحة زيت محروق، وأطفال عائدين من المدارس وزيطة وزمبليطة. وارتفع صوت عال من آخر الشارع "ده يوم القيامة يا ولاد" انتوا سمعتوا عن الراجل اللي سم عياله بنفسه علشان العيش والفول، صمت مخيف، أفكار تتوهج كوميض خافت ثم تختفي إلي الأبد، دارت عيني علي جدران الشارع كلام وشعارات مكتوبة، "الإسلام هو الحل"، "الحجاب عفة وطهارة"، "صلي قبل أن يصلي عليك". أوقفت سيارتي وأخذت اخبط علي الدركسيون وبدأت اصرخ ولكن صوتي انحبس.