لم تكن هجمات الحادي عشر من سبتمبر مجرد ضربة وجهت للقوة العظمي الوحيدة في الصميم فحسب، بل غدت مفصلا تاريخياً ومنعطفاً أفرز الكثير من الظواهر، ولم تسبب تلك الهجمات أضراراً علي صعيد الأرواح والممتلكات فقط، بل برزت فيما بعد أضرار أخري من بينها الشعور الوطني المتعجرف في أمريكا، والسياسة الخارجية العدوانية، والنظام الدولي المرعب الجديد. ولم تنته آثار تلك الأحداث عند هذا الحد، بل أخذت تفرز ظواهر أخري قد تكون أصغر حجماً لكنها ليست أقل ضرراً وإزعاجاً، من بينها ردة الفعل السمجة التي باتت تظهر علي صعيد الكتب والتحليلات. والمقصود بهذا هو موجة الكتب المملة التي يمكن تسميتها بكتب "الحادي عشر من سبتمبر" أو كتب "النظام الدولي الجديد" التي ينشرها من باتوا يعرفون ب "نقاد الثقافات" و"مؤرخو الأفكار" الذين يقدمون تفسيراتهم الشخصية لما حدث في الحادي عشر من سبتمبر. مثل هذه الكتب نقدم للقاريء الكثير من الإدراك المتأخر والقليل من المعرفة، وتحاول أن تضع تلك الأحداث ضمن اتجاهات تاريخية واسعة ما كانت خافية علي أحد بمن في ذلك مؤلفو تلك الكتب وقراؤها. ينتمي مؤلف الكتاب بول بيرمان إلي مجموعة نادرة من المعلقين، فهو ليبرالي مؤيد للحرب علي العراق، وهو يقر بضيق الدائرة التي ينتمي إليها عندما يقول "لم يكن في البلاد كلها، أثناء حرب الخليج الأولي، أكثر من خمسة عشر أو عشرين شخصاً يشاركونني موقفي كيساري ومؤيد للحرب في الوقت نفسه! في كتابه "الإرهاب والليبرالية" يقدم بيرمان تحليله الخاص بتلك الاتجاهات في التاريخ القريب التي قادت إلي وقوع أحداث سبتمبر بهدف وضع "بيان" لما يدعوه ب "الإجراء التقدمي "ضد الإرهاب والديكتاتورية" أو بكلمة أخري "التدخل الأمريكي الليبرالي" أي أنه يريد أن يدعو إلي "الحرب علي الإرهاب" بأجندة يسارية أخلاقية. تتميز الطريقة التي يعتمدها المؤلف لتحقيق ذلك بدرجة عالية من الذكاء. فهو هنا يشرح وينتقد ظاهرة سياسية لا يملك أي ليبرالي إلا أن يعارضها ويؤيد بيرمان ألا وهي ظاهرة الشمولية. ثم يجادل بأن "الإرهابيين الإسلاميين" والبعثيين الاشتراكيين هم التجسيد المعاصر للشمولية. فالاثنان، كما يري بيرمان يعتمدان مفهوماً تقديسيا للموت والقتل، وموقفا عدميا رومانسيا يكاد يكون اسطوريا في تمجيده للانتحار والتضحية والتدمير، وهو الموقف الذي يشترك فيه تنظيم القاعدة المعاصر مع أنظمة دول المحور الزائلة. فالطرفان يساهمان في إغناء تقاليد "الحركات الجماهيرية المهووسة بالموت" التي كتبت تاريخ العالم خلال السنوات المائة الماضية. ويري بيرمان أن الصراع الذي تخوضه الولاياتالمتحدة وحلفاؤها اليوم هو الصراع نفسه الذي ظل محتدماً عبر القرن الماضي بين الليبرالية والشمولية. كما أن العالم الإسلامي هو الحلبة التي تدور عليها تلك الحرب في المرحلة الراهنة، وبالتالي فهو ليس سبب تلك الحرب أو مصدرها. ولهذا السبب ينبغي لحرب الرئيس الأمريكي جورج بوش أن تستمر علي أن يكون ذلك من أجل الأسباب الصحيحة وخدمة للقضية الليبرالية العظمي. ثمة أوجه محقة في تفسير بيرمان للأحداث، لكنه لا يقدم لنا الكثير من المساعدة لفهم وموضوعية وتفسير إطار الأحداث والآراء التي يقدمها إذ يكتفي بتقريرها. وكتابه "الإرهاب والليبرالية" عبارة عن عرض لأفكاره الخاصة وليس دفاعاً منطقياً ومتماسكاً عنها. أما طريقته في التدرج بمواضيعه فتقوم علي إطلاق التعميمات والإدعاءات "الشمولية" مرفقة بشعارات لا خلاف عليها وجذابة. يضاف إلي ذلك أن بيرمان، في المقام الأول، مؤرخ رديء، ينساق باستمرار إلي استخدام الكليشيهات المملة حول الماضي، وهو أمر لا يعزز ثقة القاريء في سلامة الآراء المتعجلة التي يطلقها. لكن بيرمان يبذل محاولة جادة لإظهار الصلات التي تربط ما بين شمولية منتصف القرن العشرين والإسلاميين الذين يري أنهم قد ورثوا تلك الشمولية اليوم. ونجده هنا يشير إلي تأثير ستالين علي الأعضاء المؤسسين لحزب البعث، وإلي الترحيب الذي يلاقيه أعضاء الأحزاب النازية في أرجاء معينة من العالم العربي. لكنه يخلص من ذلك إلي استناج غير مقنع يفيد بأن الأنظمة الفاسدة تشابه الأنظمة الفاسدة الأخري وتعجب بها. العلاقة الأخري التي يجدها بيرمان بين الأيديولوجية الفاشية وأيديولوجية "الإرهاب الإسلامي" تقدم ضمن مناقشة مطولة لأعمال المفكر الإسلامي سيد قطب. وليس من الواضح تماما ما الذي يسعي بيرمان إلي إثباته من الإشارة إلي أعمال قطب التي يحيرنا رأيه فيها، فهو من ناحية لا يخفي إعجابه بها، ومن ناحية ثانية يستمر في إدانتها بكل قوة. فبيرمان يقول إن كتابات قطب متأنقة، ورحبة، وقد أسيء فهمها. ويري أن المباديء النبيلة التي نادي بها قطب قد شوهت وأحيلت إلي أيديولوجية للقتل. ويشير بشكل خاص في هذا المجال إلي أدعاء قطب بأن التقسيم الغربي للعالم إلي "قدسي" و"دنيوي" ليس سوي "شيزوفرينيا شائنة" تنبغي محاربتها عن طريق الجهاد الإسلامي الذي سيعيد كل شيء إلي الله. وإلي هذه الفكرة حول "شيزوفرينيا" الغرب يعود التناحر الراهن بين الإسلاميين المعاصرين والليبرالية، تماما كما كانت عليه الحال مع الشمولية. ولا يفوت المؤلف هنا أن يشير إلي أن أسامة بن لادن كان تلميذا لسيد قطب. لكنه يذكر أيضاً أن طروحات قطب رغم كل ما حفلت به من عنف، كانت بعيدة عن الفاشية. ولاشك أن مناقشة بيرمان لأفكار سيد قطب شيقة ومفيدة لكنها، في نهاية المطاف، لا تعزز نظريته المركزية القائلة بأن "الإرهاب الإسلامي" والشمولية ليسا سوي وجهين مختلفين لنفس العملة المعادية الليبرالية. صحيح أن الطرفين قد حملا العديد من الآراء المناوئة لليبرالية ومن بينها فكرة "الشيزوفرينيا" التي سبقت الإشارة إليها، لكن ذلك لم يقتصر عليهما وحدهما بل شاركهما فيه حتي الكثير من الليبراليين كما يتجلي في حالة بيرمان نفسه. أما السبب الذي يدفع بيرمان إلي تأييد تلك السياسة فهو اشتراكه مع الرئيس بوش وشلته من المحافظين في إيمانهم بأن ما يصلح لأمريكا يجب أن يصلح للعالم أجمع، بغض النظر عن كل الكلام عن "الحريات" الذي يغلفون به هذه القناعة. يوجز المؤلف هذا الرأي الذي يجمعه ببوش ورفاقه بالتساؤل "هل الحريات الغربية حكر علي الغربيين؟" ثم يضيف موضحاً "ما من أحد يعتقد أن نفط الشرق الأوسط حكر علي الشرق أوسطيين" لكن بيرمان بهذا لا يمثل الليبراليين الذين تعتقد غالبيتهم العظمي أنه حين يتعلق الأمر بالحريات أو مصادر الطاقة فإن أفضل ما يمكن أن يحدث هو أن تقوم الدول المعنية بإجراءات صائبة وخلاقة لاستثمار مواردها الخاصة علي أكمل وجه. وختاماً، فإن كان هناك فضيلة يمكن نسبتها لكتاب بيرمان فهي كشفه لمأزق الليبرالية العالمية الممزقة بين الدعوة العالمية لنشر الحريات والديمقراطية، والحيرة إزاء الاختطاف الراهن للشعار الليبرالي من قبل المحافظين الجدد الذين يزعمون أنهم يريدون نشر الليبرالية بالقوة العسكرية والإمبريالية إن لزم الأمر!!