بات معروفاً حجم الخسائر التي ألحقتها حرب العراق بالاقتصاد الأمريكي لتتعدي اليوم بكثير أزمة الرهن العقاري، حيث لا يمكننا إنفاق ثلاثة تريليونات دولار علي حرب فاشلة في الخارج دون أن نستشعر الألم في الداخل. وهناك من سيتهمنا بالمبالغة في تقدير حجم الإنفاق العسكري، لكننا أجرينا حسابات دقيقة وهي كلها تخالف الاستخفاف الذي أبداه كبار معاوني إدارة الرئيس بوش عندما استبعدوا وجود مشاكل قبل الحرب علي العراق. فعندما قدر المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض، "لورنس ليندزي" بأن الصراع سيكلف ما بين 100 و200 مليار دولار، اعتبر وزير الدفاع "دونالد رامسفيلد" أن هذا التقدير مبالغ فيه وأصر مسئولو إدارة الرئيس بوش علي أن الإنفاق الحربي لن يتجاوز 50 إلي 60 مليارا. لكن في أبريل 2003، صرح "أندرو ناتسيوس"، رئيس الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، في أحد البرامج التليفزيونية بأن إعادة إعمار العراق، قد تكلف دافع الضرائب الأمريكي 1.7 مليار دولار، وعندما حاول مقدم البرنامج التشكيك في الرقم، تشبث "ناتسيوس"، الخبير في أمور إعادة الإعمار، برأيه. أما باقي المسئولين في الإدارة الأمريكية، فقد أعربوا عن أملهم في أن يتولي شركاء الولاياتالمتحدة تسديد الفاتورة تماماً مثلما حدث في حرب الخليج الثانية عام 1991، أو أن يكفل النفط العراقي ضخ الأموال المطلوبة وتعويض الخسائر الأمريكية. والنتيجة النهائية لهذا التفكير الرغبوي ونحن علي مشارف الذكري الخامسة للغزو، هي أن المغامرة العراقية ليست فقط ثاني أطول حرب في التاريخ الأمريكي بعد فيتنام، بل هي ثاني أغلي الحروب بعد الحرب العالمية الثانية. لكن لماذا يبدو وكأن الرأي العام غير مدرك لحجم الإنفاق المهول؟ يرجع الأمر في جانب منه إلي حديث الإدارة الأمريكية فقط عن الإنفاق الذي يندرج في إطار مخصصات الطوارئ التي تسير بوتيرة 12 إلي 16 مليار دولار في الشهر وفقاً للحسابات التي أجريناها. لكن بإضافة التكاليف الأخري المتضمنة في موازنة الدفاع، والأموال التي يتعين إنفاقها علي الجنود بعد انتهاء الخدمة، أو تلك الضرورية لإعادة تجهيز الجيش وتوفير معدات جديدة، فإن التكلفة الإجمالية للحرب ستتضخم لتلامس سقف 1.5 تريليون دولار. ومع ذلك، فإن الكلفة الحقيقية هي تلك التي يتحملها المجتمع والاقتصاد. فعندما يقتل جندي شاب في العراق، أو في أفغانستان تتلقي عائلته من الحكومة الأمريكية 500 ألف دولار، وهو أقل بكثير من المبلغ الذي تسدده شركات التأمين جراء موت شخص في حادثة سير عادية. بالإضافة إلي ذلك فإنه نادر ما تكفي تعويضات الإعاقة التي تمنحها الحكومة للجنود المصابين، وغالباً ما يضطر أحد أفراد الأسرة التخلي عن عمله لرعاية الجندي الجريح. ولعل الأكثر من ذلك كله هي الخسائر التي يتكبدها الاقتصاد الأمريكي في ظل تكلفة الحرب الضخمة والبالغة، حسب تقديرات محافظة، ثلاثة تريليونات دولار. فقد حاول الرئيس بوش إقناع الشعب الأمريكي بجدوي الحرب في العراق بتأكيده أنها لن تتطلب تضحيات اقتصادية كبري. وحتي عندما ذهبت الولاياتالمتحدة إلي الحرب خفض بوش والكونجرس الضرائب، لا سيما علي الأغنياء، رغم أن أمريكا تعاني من عجز كبير في الموازنة. وفي ظل هذا الوضع لم يكن من حل آخر لتمويل الحرب سوي اللجوء إلي الاقتراض ليضاف تريليون دولار إلي الدين الأمريكي العام، علاوة علي تكلفة الحربين في العراق وأفغانستان، وأسعار الفائدة علي الديون. ومهما كانت براعة الرئيس المقبل، فإن هذا العبء الثقيل الذي ينوء تحت وطأته الاقتصاد الأمريكي، لا شك سيلحق الضرر بقدرة البلاد علي معالجة المشاكل الأخري المستعجلة. فالمديونية المتصاعدة التي يرزح تحتها الاقتصاد تجعل من الصعب إيلاء الأهمية اللازمة ببرامج الرعاية الصحية، أو خطط ترميم البنية التحتية، أو بناء مدارس أفضل تجهيزاً. ولا بد من الإشارة أن تكاليف الحرب تضر أصلاً بالوكالات الفيدرالية المختلفة مثل المركز الوطني للصحة ووكالة الغداء والدواء، ووكالة حماية البيئة وغيرها. ولعل ما يفاقم الوضع أكثر أن الاقتصاد الأمريكي يمر بفترة من الركود تزيد من حجم الضغوط عليه، كما أن حزمة الحوافز التي أقرها البيت الأبيض، تعاني من ارتفاع تكاليف الحرب التي بلغت خلال هذه السنة لوحدها 200 مليار دولار. ولكم أن تتخيلوا ما كانت ستجنيه أمريكا لو أحسنت توظيف مبلغ ثلاثة تريليونات دولار، والمشاكل التي كانت ستحلها سواء في الداخل أو الخارج. فقد كان بمقدورنا وضع "خطة مارشال" جديدة لمساعدة البلدان الفقيرة وكسب قلوب وربما عقول البلدان الإسلامية التي يسيطر عليها اليوم شعور العداء لأمريكا. وفي عالم يعيش فيه ملايين الأطفال الأميين، فقد كان باستطاعتنا توفير التعليم للجميع ونشره علي نطاق واسع، وذلك بأقل مما يكلفه شهر واحد في العراق. ورغم مخاوفنا من النفوذ المتعاظم للصين في القارة الأفريقية، فإن ما تنفقه أمريكا خلال شهر واحد علي العمليات القتالية في العراق، يكفي لمضاعفة إنفاقنا السنوي علي المساعدات المقدمة إلي أفريقيا. أما داخلياً، فقد كان بإمكاننا تمويل العديد من المدارس ومنح فرص أفضل للأطفال الفقراء، فضلاً عن معالجة الاختلالات الموجودة في نظام الرعاية الاجتماعية، التي بدأ الرئيس بوش ولايته الثانية علي أمل تصويبها. ومن جانب آخر قادت الحرب في العراق إلي ارتفاع كبير في أسعار النفط، ملحقة المزيد من الضرر بالاقتصاد الأمريكي. فقد كانت أسعار النفط قبل غزو 2003 بالكاد تصل إلي 25 دولارا للبرميل، وكانت الأسواق تتوقع استقرارها عند ذلك المستوي، لكن الحرب غيرت المعادلة تماماً لترتفع أسعار النفط إلي مائة دولار للبرميل. جوزيف ستيجليتز- أستاذ الاقتصاد بجامعة "كولومبيا" وحاصل علي جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001 .