وللتدليل علي ذلك دعونا ننظر ونتأمل في مؤشرات الفشل التي انجزتها الدول العربية بكل همة ونشاط وذلك اتساقا مع ما اورده الاستاذ خليل العناني في دراسته المهمة حول ذلك الموضوع والتي تم نشرها في العدد 131 من المجلة الفصلية "شئون عربية" والتي تصدرها الامانة العامة لجامعة الدول العربية. من هذه الدراسة يتضح لنا انه حتي وقت قريب فقد كانت دول افريقيا جنوب الصحراء "مثل رواندا وبورندي وكينيا وزائير وزامبيا وموزمبيق" تصنف باعتبارها دولا فاشلة failed states اي دول معرضة للانهيار في اي وقت وذلك لانها لا تقوي علي تحمل مسئولياتها تجاه مواطنيها، كما انها لا تتمتع بمستويات اقتصادية وتنموية عالية في نفس الوقت الذي يشوبها فيه قدر لا بأس به من عدم الاستقرار، الذي قد يفضي في النهاية الي سقوطها المريع. وللحكم علي فشل الدولة او نجاحها، يوجد تصنيف شهير لذلك يجري وضعه سنويا بمعرفة كل من مجلة فورين بولسي foreign policy وايضا مؤسسة دعم السلام fund for peace ويحمل هذا المؤشر اسم "مؤشر الدول الفاشلة" ويستند ذلك المؤشر علي نقطتي بداية ونهاية حيث تتراوح قيمته ما بين "1 الي 10" بحيث تصبح الدولة اكثر تهديدا بالفشل، كلما اقتربت من نهاية المؤشر اي عند النقطة "10" ويختبر المؤشر اوضاع حوالي "177" دولة حول العالم وذلك من خلال التعرف علي اوضاع حقوق الانسان ومدي الشرعية التي تتمتع بها النظم السياسية ومستويات المعيشة والاداء الاقتصادي بالاضافة الي معدلات الاستقرار داخل كل بلد. وبتحليل الاوضاع والمواقف الحالية للدول العربية وفقا لذلك المؤشر في عام 2006 فان الدول العربية الثلاث التي تحتل قائمة الدول الاكثر فشلا علي مستوي العالم هي السودان في المرتبة الاولي يليها العراق، في حين احتلت الصومال المرتبة الثالثة، بينما جاءت اليمن في المرتبة الرابعة والعشرين، ثم مصر وسوريا في المرتبتين "36"، "40" علي التوالي، وقد حظيت لبنان والصومال بوضع خاص في الترتيب المشار اليه نظرا لكونهما من اسوأ الحالات التي تعرضت للفشل طيلة عام 2006 لذلك فقد احتفي بهما معدا التقرير.. ووضعاهما ضمن اسوأ الحالات التي انحدر معدلها بشكل متسارع بالمقارنة بالعام السابق. وتعتمد مؤشرات الفشل التي يستند اليها التقرير علي اربعة مؤشرات اساسية يتم تركيبها معا لتحديد قيمة المعامل وهي: اولا: انخفاض قدرة الدولة علي حماية حدودها وارضيها من التدخل الخارجي، وهو ما ينطبق علي العراق والصومال والسودان وفلسطين ولبنان. ثانيا: ارتفاع درجة السخط المجتمعي نظرا لانخفاض قدرة الدولة علي تلبية الاحتياجات الاساسية لمواطنيها، وهنا يمكن ان تدخل دول عربية رئيسية في ذلك الحزام مثل مصر وسوريا والمغرب والجزائر واليمن. ثالثا: فقدان الدولة لشرعيتها السياسية ومبررات احتكارها للسلطة، وهنا تتسع الدائرة لتشمل دولا عربية كبيرة لم تعد تحظي بنفس القدر من الشرعية علي مختلف اشكالها ومصادرها التفكيرية والكاريزمية والعقلانية. رابعا: انشقاق وانقسام النخب الحاكمة في اطار الصراع علي ما تبقي من اصول وموارد الثروة والسلطة الامر الذي يدفع بدوره في اتجاه تقليل "المنعة" الداخلية تجاه اي تحرش خارجي وهناك دول عربية عديدة تبدو وكأنها بصدد الدخول بالفعل في هذه المرحلة. واذا ما ابتعدنا قليلا عن قيم المؤشرات السابقة- مع التسليم باهميتها- فان الواقع قد يشير بما هو اهم واخطر، حيث تحولت بعض بلداننا العربية الي مجرد كيانات سياسية يصعب ان توصف فعليا بالدولة فضلاً عن ما يشاهد بها من انهيار للروابط المؤسسية والهوياتية ما بين السلطة والمجتمع فيها. واذا حاولنا اعادة قراءة او تحليل الوضع المأساوي الذي تسير ناحيته معظم الدول العربية "والذي سقط فيه بالفعل بعضها" فان اول ما يستلفت الانتباه هنا هو الكيفية التي نشأت الدول العربية المعاصرة عليها، وذلك فيما يتعلق بنشأتها الاولي وعناصرها التكوينية وذلك عند مقارنتها بما حدث في الغرب منذ اكثر من اربعة قرون وتحديدا منذ معاهدة وستفاليا "1648" حيث تأسست الدولة القومية في اوروبا فهنا يظهر التساؤل حول ما اذا كانت نشأة دولنا العربية المعاصرة ناتجة عن مخاض مجتمعي طبيعي ام انها ولدت مثل كائن مصطنع "انابيبي" لا يمكنه بحكم النشأة ان يقوي علي الصمود في وجه متغيرات السياسة والثقافة. في هذا السياق فليس من الصعوبة ملاحظة ان نشأة الدول العربية كانت تفتقد- بكل اسف- لادني مقومات النشوء السياسي التراكمي الذي يستهدف تحقيق حرية الفرد وذاتيته وذلك علي غرار ما حدث في دول اوروبا الغربية التي قامت من اجل الفرد ولصالح المجتمع بدلا من الاستمرار والامعان في استغلاله وذلك اخذا في الاعتبار ان الدولة مسئولة عن مصير الجماعة ومستقبل كل فرد فيها. اما في حالتنا العربية فقد كان التحديث بمعناه العربي وسيلة للانتقال علي ما يبدو من نظام الاستبداد الشرقي "السلطاني" نحو نظام جديد للاستبداد "ديكتاتوري" يقوم علي ايجاد وتجاهل الحريات السياسية والفردية والتدخل المباشر في انتماءات الافراد واجبارهم علي اعلان ولاءهم المطلق للسلطة وبرنامجها السياسي الامر الذي ادي في مجمله الي قطع الطريق امام بناء الدولة الوطنية الطبيعية من اجل ايجاد كائن مشوه لا يمكنه الا الحياة علي الاجهزة الاصطناعية التي تجدد نفسها من خلال جميع ادوات ووسائل القهر والاستعباد.