توجد عبارة قوية مكتوبة في الصفحة الأخيرة من جوازات السفر المصرية، تحت عنوان " تنبيه" تفيد بأنها " وثيقة عظيمة الشأن" توجب علي صاحبها الاحتياط التام حتي لاتقع في حوزة شخص ليس له حق حملها أو استعمالها، وأنه في حالة فقدها أو تلفها لن يتم استخراج جواز جديد إلا بعد فحص وتمحيص كاملين. وإذا كان مجرد جواز سفر لايمثل في النهاية سوي "هوية شخصية " يعتبر _ وفق التفكير المصري المتوارث _ وثيقة عظيمة الشأن يجب الحفاظ عليها، فما البال بالدستور الذي يعبر عن هوية الدولة؟ لقد تعرض الدستور المصري في الفترة الأخيرة لمشكلة حقيقية، ساهمت فيها كل الأطراف بشكل ما، سواء من خلال الفعل أو رد الفعل ، حتي بدا أنه لم يعد تلك الوثيقة التي يجب الاحتياط التام في التعامل معها، من جانب الجميع، الذين يصعب أن يزعم أي منهم أن موقفه كان أكثر أخلاقية من الطرف الآخر، فالاستخفاف بالدستور والتشكيك في كل مايتعلق به، ابتداء من التعديل وحتي الاستفتاء، وإطلاق التعبيرات السيئة غير المعتادة حوله، أمور لاتقل ضراوة عن التعجل في تعديله، وعدم الحرص علي تحقيق توافق كاف قبل طرحه للاستفتاء، والآن توجد مشكلة يجب التفكير في التعامل معها. إن أهمية الدستور لاتأتي فقط من أنه كما يقال " أبو القوانين" فهذه مجرد زاوية واحدة في التعريف تعني أنه موجه في الأساس للمشرع، وإنما من كونه دليل التشغيل بالنسبة للدولة، لكن القضية هي أنه في كل مرة حاولت فيها إحدي دول المنطقة تعديل أو تغيير دستورها، تبدأ المشاكل في الظهور، فالدول لم تعد بسيطة والشعوب لم تعد " مستقرة"، فقد شهدت كل الحالات خلافات حول هوية الدولة ومركزية الحكم وهيكل النظام وتوزيع السلطة وتوزيع الثروة وحدود الأقاليم، وإذا فتح الباب في دول أخري ( دون ذكر مسميات) ستنفجر تلك الدول من الداخل. في مصر، كان الدستور دائما وثيقة مهيبة، يتم تأريخ الحياة السياسية وفقا لها، لكنه أيضا عاني من مشاكل كبري في كل الفترات، فقد سقط أحد الدساتير خلال العهد الملكي، وألغي أحدها خلال العهد الجمهوري، وكثيرا ماتم تعطيل بعض مواده، ثم استقر ما اعتبر الدستور الدائم ( 1971) لفترة طويلة، باستثناء مرة واحدة تم تعديله فيها عام 1980، ولم يجد أحد في نفسه القدرة أو الرغبة علي المساس به، علي الرغم من أن المجتمع كان يتطور مع الوقت بدرجة كانت تفقد الكثير من مواده، مضامينها الحقيقية، تباعا، وتم التعايش مع هذا الوضع. إن هذه المشكلة لاتزال قائمة، حتي مع الدستور الحالي بعد تعديله، فالجميع يدركون أن عبارات مثل العمال والفلاحين، ومجانية التعليم، وغيرها، تعبر عن أوضاع أو توجهات محل نقاش عمليا، لكن الدولة ليست علي استعداد للمساس بها، وهي لم تتبدد بالدرجة التي توجب تعديلها، خاصة وأنها تتعلق بتكوين المجتمع وليس هيكل النظام، ويمكن التعايش مع هذا الوضع فترة أخري دون مشاكل أيضا، لكن تظل القضية هي كيفية التعامل مع دستور 2007 المعدل جوهريا. إن المسلمة الأولي التي يجب التذكير بها حاليا، هي أن الدستور وثيقة عظيمة الشأن، وأنه لو لم يكن كذلك لما تم خوض تلك المعركة الضارية حول تغييره من جانب النخبة السياسية، وأن المواطنين قد شعروا بذلك، علي الرغم من أن قطاعا كبيرا منهم ربما لايري للدستور علاقة مباشرة بحياته المعتادة، التي يحتك من خلالها بالقوانين واللوائح أكثر من تأثره به، وبالتالي فإنه أيا كانت الخلافات حول التعديلات الدستورية، فإنها لايجب أن تتجاوز تلك الحدود التي يبدو معها وكأننا نعيش في ظل دستور مهتز. النقطة الثانية، هي أنه يجب إنهاء أية أفكار حول استسهال تعديل الدستور أو تغييره مرة أخري، فالأجواء التي أحاطت بتلك العملية خلال العامين الماضيين، قد بدت وكأنها تدفع في اتجاه الاعتقاد بأن الدستور قد فقد حصانته، وأن صفة الدوام النسبي لم تعد سمة مستقرة، والمشكلة أنه بعيدا عن المواد المثيرة للجدل، والتي تتعلق بالنظام السياسي، فإن الدستور قد أدي إلي تحول كبير في اتجاه إرساء سمة الدولة المدنية، في وقت كانت الدولة تتجه فيه نحو المجهول، وهو مالايجب أن يفهم أنه يمكن أن يتغير ببساطة. لكن في الوقت ذاته، يجب الاعتراف بأن التعديلات الدستورية لن تحل بعض المشاكل الكبري القائمة، فقد تم اعتماد المبدأ ، لكن المسألة في حاجة إلي جهد سياسي هائل لتطبيقه، فإخراج الجماعات الدينية أو ذات المرجعية الدينية من الإطار الدستوري، لايعني آليا أنها ستخرج من النظام السياسي، أو أنها ستدخل المعتقلات، فلم تدر الأمور أبدا بتلك الصورة في مصر، ولن تدار كذلك الآن، وبالتالي يجب علي كل من يعنيهم الأمر - بما فيهم تلك الجماعات - أن يفكروا في حلول عملية لتوفيق أوضاعها في إطار مدنية الدولة. الأهم من ذلك هو استعادة الثقة مرة أخري، وهي مهمة صعبة، لكنها يمكن أن لاتكون كذلك، إذا تمت صياغة القوانين التي يوجد شك لدي المعارضة في أن التعديلات الدستورية كانت تهدف إلي توجيهها في ناحية ما، بشكل مختلف عما حدث في تعديل الدستور، كقانون مباشرة الحقوق السياسية وقانون الإرهاب، بحيث تأتي تلك القوانين معبرة عن توافق أكبر مماحدث بشأن الدستور، خاصة وأن مايعني القوي السياسية مباشرة هي القوانين، وهناك فرصة حقيقية لحدوث ذلك، إذا توافرت المرونة من ناحية وتوقف " النضال" من ناحية أخري، وعاد الناس إلي السياسة. إن إمكانية حدوث ذلك، ترتبط بشرط مكمل، وهو أن الأوهام يجب أن تتبدد، فداخل الدول لايوجد نصر كامل أو هزيمة ساحقة، وبالتالي فإنه يجب أن يتم إعادة الاعتبار لعبارات تم نسيانها تؤكد علي أهمية الحلول الوسط والأرضيات المشتركة من ناحية، والسعي وراء الممكن والتوقف عن المقاطعات من ناحية أخري، فليس هناك من يمكنه الانقلاب علي " نظام تشغيل الدولة" حتي لو بدا أن بعض مواد الدستور تتيح ذلك، ولن تحدث تلك العصيانات المدنية أو الثورات الشاملة التي يفكر فيها بعض أهل الكهف، ومايمكن فقط أن يأمل فيه المرء هو أن يبدأ الجميع في التفكير بواقعية، دون اختبارات قوة لاضرورة لها، حتي لايتم الانزلاق إلي مالايرغب فيه، أو لايطيقه أحد.