وهنا يثور تساؤل هل باتت العودة إلي سياسات الاحتواء وتفعيل الآليات التي استخدمت في مواجهة الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة أمرا حتميا؟ وماذا عن خيار ترومان كبديل ثالث؟ تساؤلات طرحها المشهد الأمريكي المأزوم سيما بعد خسارة الجمهوريين لسيطرتهم علي الكونجرس من جهة وعلامات الفشل الجلية للعيان في العراق وأفغانستان من جهة ثانية؟ هل ستضحي سياسة الاحتواء البديل الملائم للتصعيد العسكري؟ يعود مفهوم الاحتواء إلي زمن الحرب الباردة وكان المؤرخ والدبلوماسي الأمريكي "جورج كينان" هو أول من اصطك هذا المفهوم في أواخر عقد الأربعينيات ويمكن تلخيص فحوي ما دعا إليه "في انه وطالما لم يبادر الاتحاد السوفيتي بمهاجمتنا فان علينا ألا نهاجمه وان نعتمد بدلا من ذلك علي عصانا وجزراتنا الاقتصادية وكذلك علي الدبلوماسية وعملنا الاستخباراتي فضلا عن الترويج لصحة وحيوية الرأسماليات الديمقراطية بغية الفوز بالحرب الباردة". في الشهور الماضية دعا عدد كبير من المحللين السياسيين الأمريكيين إلي ضرورة العودة لسياسة الاحتواء في العراق و التفكير جديا في احتواء إيران أيضا ولجم جماحها النووي عوضا عن فكرة توجيه ضربة عسكرية لها. لكن كيف يمكن احتواء إيران؟ مما لاشك فيه أن القتال الدائر الآن في العراق هو نموذج لصراع بالوكالة بين الولاياتالمتحدةوإيران علي الشرق الأوسط والمثير في تقدير الاستراتيجيين الأمريكيين هو انه في حين أن حرب العراق قد أحدثت انقساما عميقا في العالم العربي فان احتمالات الصراع مع إيران قد تؤدي في الأغلب الأعم إلي توحيد العرب. وعند البعض منهم أن العرب باستثناء العرب الشيعة الذين يديرون معظم العراق في الوقت الراهن يريدون من الأمريكيين أن يلقنوا الإيرانيين درسا يعلمهم فضيلة التواضع غير انه حال نشوب حرب حقيقية مع إيران لن يكون هناك في المواجهة سوي أمريكا وإسرائيل. ومع استبعاد إسرائيل لأسباب كثيرة فان أمريكا ستبقي بمفردها في المواجهة وعليه ستتحمل دفع النفقات الأدبية والمادية أما الأولي فاختصاما من سمعتها التي تلوثت إلي أقصي حد ومد في العالم والثانية حيث العجز غير المسبوق في الموزانات الأمريكية. وهناك أكثر من سبيل للاحتواء لعل في مقدمة تلك السبل المحاصرة الاقتصادية الخانقة وإيران دولة لا تتوافر لها الشروط اللازمة كي تصبح دولة إقليمية نافذة وفي مقدمتها القوة الاقتصادية وتضييق الخناق علي الإيرانيين ماليا ودوليا سيزيد من التفكك الداخلي، فقط الأمر يحتاج إلي سياسة الصبر والنفس الطويل وهو النموذج الذي اتبع مع الاتحاد السوفيتي قديما وهو ما ثبتت جدواه تاريخيا. وحديثا كانت الدبلوماسية تفعل ذات الفعل في حكومة بيونج يانج ونظام كيم أيل يونج وكانت المكافأة الاقتصادية والدبلوماسية مفتاحا للتوصل إلي حل مع كوريا الشمالية فلماذا لا تكون العودة إلي ذات السياسة مع إيران أي ترغبيها بالجزرة وتهدديها بالعصا؟. ومن وسائل الاحتواء المطروحة والتي كان "كينان" يرجحها علي الدوام كطريق فاعل لكسب العقول والقلوب البرهنة علي تفوق الرأسمالية الليبرالية وتقديمها مثالا مجسدا لأعدائنا وأصدقائنا علي الأرض وقد تكون ذات الرؤية خلاصة شافية وافية اليوم والسبب أن نظام الحكم في إيران والذي يدعم القلاقل في العراق وسوريا بحسب المفهوم الأمريكي شأنه شأن الخطر السوفيتي السابق ويتقاسم معه أرضية واحدة وهي عجزها عن تقديم نموذج اقتصادي سياسي قابل للعيش والبقاء ويدلل الرأسماليون علي صحة خيار الاحتواء من هذا المنطلق بالإشارة إلي الاقتصاديين الإيراني والأفغاني وما جري لهما اثر وصول الأصوليين الإسلاميين إلي السلطة في كلا البلدين سيما وان هناك تيارات ليبرالية شبابية في إيران تتطلع إلي ذلك النموذج الرأسمالي. وفي إطار الحديث عن فلسفة الاحتواء يطفو علي السطح حديث جديد ربما يتلاءم مع روح العسكرية الإمبراطورية الأمريكية ذاك الذي يطلق عليه "الاحتواء المعزز بالدفاع" ...ماذا يعني هذا المصطلح؟ في ثمانينيات القرن الماضي أجبر الرئيس الأمريكي رونالد ريجان الاتحاد السوفيتي السابق عن طريق مبادرة الدفاع الاستراتيجي علي القبول بالدخول في مفاوضات مع الولاياتالمتحدة، وفي الوقت الراهن تستطيع منظومة الدفاع الصاروخي أن تحتوي إيران غير أن المشكلة حول هذا الأمر هي أن الأمريكيين يحاولون وضع صواريخ تلك المنظومة في دول مثل بولندا وجمهورية التشكيك باعتبارهما أفضل المواقع الأمامية وهو ما يمكن أن يدخل واشنطن في نزاع مع موسكو يجب تجنبه لان روسيا ذاتها وان كانت تمثل اليوم عند اليمينيين الأمريكيين والمحافظين الجدد تهديدا آنيا ومستقبليا إلا أنها ليست محور التركيز الأساسي وإنما إيران هي التي تشكل آلان محور الاهتمام الأمريكي وعليه فان الاحتواء المعزز المطلوب يتطلع لان يثبت للروس أن الأمريكيين ليسوا أعداءهم وذلك من خلال العرض عليهم بوضع تلك القواعد في أراضيهم علي أساس أنها الفرصة الوحيدة المتاحة لنجاح سياسة احتواء إيران أي بمشاركة روسيا فيها. والحاصل أن الحديث عن عودة سياسة الاحتواء ربما كان تنظيرا فكريا عند الأكاديميين والكتاب والمحللين وقد تثبت قادمات الأيام أن أقدام أمريكا علي الحوار مع سوريا وإيران ليس إلا مناورة تكتيكية دعائية هدفها إظهار حسن النوايا والطوايا الأمريكية تجاه الدولة المتبقية في محور الشر خاصة وسوريا باعتبارها محصلة للنزاع مع إيران في حين تدق أساطيل أمريكا وبوارجها وخطط الاستخبارات الأمريكية الطبول للموقعة القادمة. غير انه في كل الأحوال تجد أمريكا ذاتها أمام واقع حال فعلي وهو فشل سياسات الضربات الاستباقية والمواجهات العسكرية من كابول حيث كاد تشيني يلقي حتفه إلي بغداد التي شهدت انفجارات متوالية بقرب القاعة التي عقد فيها اللقاء الإقليمي ما يدفع الكثيرين للمناداة اليوم بالعودة إلي الخيار ترومان فما هو ذلك الخيار؟ هو الطريق الذي سلكته واشنطن عقب الحرب العالمية الثانية عندما تطلعت أمريكا لان تكون كيانا دوليا تتجذر من خلاله الشرائع والنواميس الوضعية التي ينتظم فيها العالم انتظاما يقيه شر الحروب وويلات المستبدين، كيان يدعو لإحلال السلام ويعمل من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي علي إعادة اعمار العالم من جديد كما جري مع مشروع مارشال في أوروبا، كيان يحترم استقلال الآخرين وسيادتهم وسلامة أراضيهم بعيدا عن أفكار وثيقة القرن الأمريكي الساعية للسيطرة العسكرية الغشماء علي العالم والشاهد أن مؤتمر بغداد الإقليمي وتجلياته في الأسابيع المقبلة ربما يحمل لنا إجابة عن التساؤل المتقدم هل كانت المشاركة الأمريكية تحولا جذريا نحو سياسات الاحتواء والخيار ترومان أم إنها فترة الهدوء والخداع والمناورة التي تسبق العاصفة المتوقعة من رجل الرؤي النبوية وان كانت منحولة الساعي قدما نحو الحرب الساخنة. علي بوش أن يتذكر ويبقي قبل الانصراف التذكير بما أشار إليه نيكولاس لويس الخبير الأمني الأمريكي والذي عمل في باكستان منذ عام 1986 كمدير لجهود المخابرات المركزية الأمريكية لدعم المقاومة الأفغانية ضد المحتلين السوفيت وعند لويس نصيحة للرئيس بوش وهي " انه قبل أن نجد أنفسنا متورطين في حرب جديدة هي الثالثة مع بلد إسلامي فإنه من الضروري علينا نحن الأمريكيين أن نتذكر انه خلال القرن الماضي ما من امة بدأت حربا كبري وكسبتها. كذلك علينا أن نتذكر انه خلال الخمسين عاما الماضية لم يقم تمرد وطني ضد احتلال أجنبي إلا وكسب الجولة وحقق الانتصار علي المحتل. ويضيف الرجل إذا أرادت الولاياتالمتحدة شن حرب علي إيران فيجب أن تكون هناك أسباب معقولة ومنطقية ولا يكفي التلاعب بالأسباب من اجل الحصول علي التبرير الذي نرغب به، إن هذه الحرب وبغض النظر عن الطريقة التي قد تبدأ بها لن يكون حالنا فيها بأفضل من حالنا الحالي في العراق وعليه فعلي بوش أن يتحدث أولا مع طهران. والحاصل أن ما جري هو تحول جذري في السياسات الأمريكية مهما حاولت كونداليزا رايس تخفيف حدة التحولات بقولها إنه لا تفاوض وذلك اتقاء لانتقادات معسكر تشيني وصحبه من المحافظين الجدد في الخارجية الأمريكية والذين عينت لهم الأيام الماضية اليوت كوهين من باب ذر الرماد في العيون، والتحولات عادة ما تصاحب المنعطفات الخطيرة والجسيمة في حياة الأمم والشعوب ففي خلال الحرب الباردة كان هناك حوار في بعض الأحيان علي مستوي السفارات وفي أحيان أخري علي مستويات القمة والحديث إلي سوريا وإيران كان ضمن التوصيات التي تضمنها تقرير مجموعة دراسة العراق وقد كانت واشنطن تصر علي انه لا حديث قبل تعليق إيران لتخصيب اليورانيوم لكن الحديث انطلق وقنوات الاتصالات الإقليمية والثنائية قد افتتحت وهناك الكثير مما يشجع علي المضي قدما في تكرار نموذج كوريا الشمالية ودرءا للخطر الأكبر أي أن تزحف الحرب الأهلية من العراق إلي باقي الدول المجاورة وأولها إيران. والرؤية المثيرة كذلك عند البعض في أمريكا هي أن إيران لديها قدر من الديمقراطية التي ينادي بها بوش في دول الشرق الأوسط فلديها انتخابات وتتمتع المراة فيها بحق التصويت ورغم أنها تسببت للمنطقة في ويلات كثيرة إلا أن الدخول معها في صراع مسلح سيحشد المعارضين لنجاد والذين يتكاثرون اليوم ضد السياسات الغربية عامة والأمريكية خاصة لذا كان الطريق الدبلوماسي هو الأقرب والانجح فهل ستأتي الرياح بما تشتهي السفن أم أن أمواج السياسة المتلاطمة ستقلب المشهد التصالحي إلي تصادمي بعد التفاؤل المشوب بالحذر الذي أعقب مؤتمر بغداد الإقليمي؟