عادة ما تضم الإدارات الأمريكية المتعاقبة موظفين كباراً يتولون السهر علي صوغ سياسة الأمن القومي الأمريكي للنهوض بالتحديات الجديدة الناشئة عن التغييرات العالمية. غير أنه طيلة عام 2006 شهد العديد من المناصب الحساسة في إدارة الرئيس بوش فراغاً لم يتم شغله بعد، مثل موقع نائب وزيرة الخارجية الذي غادره "وبرت زوليك" ثم نائب مدير الاستخبارات الوطنية بعدما أصبح الجنرال "مايكل هايدن" مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية. وفي ظل انشغال الولاياتالمتحدة بحرب مضطربة تنذر بالانزلاق إلي نهاية غير سعيدة يبدو أن اهتمام كبار الموظفين في المواقع المهمة منصبٌّ علي قضية واحدة تتمثل في العراق علي حساب غيره من القضايا المرتبطة بالأمن القومي الأمريكي. ولم يخطئ "راند بيرز"، أحد الخبراء البارزين في مجلس الأمن القومي، ندما وصف الوضع الحالي ب "أعراض الأطفال الذين يلعبون كرة القدم"، بحيث أصبح تركيز كبار الموظفين في الإدارة الأمريكية علي العراق دون سواه يشبه في كثير من جوانبه الأطفال وهم يلعبون كرة القدم، إذ غالباً ما ينسون مواقعهم ويتراكضون وراء الكرة أينما ذهبت في تجاهل تام للتعليمات ولأخطار السيارات المسرعة في الجوار. وفي كل الأحوال لا يوجد سوي عدد محدود من المقاعد في غرفة العمليات داخل البيت الأبيض بحيث لا يتعدي عددها 12، ولا يسمح الجدول الزمني الحافل للأعضاء بالالتقاء مع بعضهم بعضاً لتداول المستجدات أكثر من عشر ساعات في الأسبوع علي الأكثر. بالإضافة إلي ذلك كلما حظيت المسائل المطروحة باهتمام أقل كلما ظلت معلقة دون حل، وهو أمر خبرته من خلال تجربتي الشخصية، وقد سبق أن دعوت إلي اجتماع طارئ خلال الأيام الأولي من إدارة الرئيس بوش لمناقشة الخطر الذي تمثله "القاعدة" علي أمن الولاياتالمتحدة، إلا أن استجابة المعنيين لم تأتِ إلا في وقت متأخر في 4 سبتمبر 2001. ولو لم يكن للدور الذي لعبته حرب العراق في صرف اهتمام خبراء الأمن القومي عن باقي المواضيع لقضت الولاياتالمتحدة وقتاً أكثر مركزة علي خطر "القاعدة" وحده. لكن بعيداً عن "القاعدة" وقضية التعايش مع التطرف الديني لم تحظَ القضايا الاستراتيجية الأخري بما يلزم من اهتمام لتتدهور أكثر ويظل خطرها قائماً علي الأمن القومي الأمريكي. وفي هذا الإطار تبرز العديد من القضايا التي تراجعت أهميتها في ظل انشغال الإدارة الأمريكية بالحرب في العراق، ونجملها في الآتي: - الاحتباس الحراري: فعندما بدأت تلوح بوادر غزو العراق عام 2001 لم يكن كبار المسئولين في الإدارة الأمريكية يولون عناية خاصة بالاحتباس الحراري، ما عدا إثارتهم للشكوك حول ما إذا كانت الظاهرة ناجمة عن التدخل البشري، أم أنها ناتجة عن أشعة الشمس. وقد حدث ذلك في الوقت الذي كان يحذر فيه العلماء والعديد من قادة الدول من أن العالم قد تخطي نقطة العودة إلي ما قبل ظاهرة الاحتباس الحراري، ليدخل مرحلة جديدة تهدد النظام البيئي في العديد من المناطق أقلها إغراق المدن في فيضانات مدمرة وتحويل كوكب الأرض إلي مكان أقل ملاءمة للحياة البشرية. ورغم إدراك رئيس الوزراء البريطاني توني بلير لهذه الحقيقة وسعيه الدائم إلي إقناع الرئيس بوش بضرورة التحرك للحد من الاحتباس الحراري، إلا أنه في كل مرة يلتقيان يبرز موضوع العراق ليغطي علي ما عداه من قضايا حتي ولو كانت مرتبطة بمستقبل الحياة علي كوكب الأرض. - الصعود الروسي: وهي قضية أخري لا تحظي بالاهتمام الضروري الآن. فعندما يغادر الرئيسان فلاديمير بوتين وجورج بوش منصبيهما في 2008 و2009 علي التوالي ستكون موسك و أقل استعداداً للتعاون مع واشنطن وأبعد عن اعتناق الديمقراطية بخلاف ما كانت عليه قبل ست سنوات حينما نظر الرئيس بوش إلي قلب نظيره الروسي وأدرك أنه يمكن الوثوق به. ولأن وزيرة الخارجية "كوندوليزا رايس"، متخصصة في الشئون الروسية، فقد كان طبيعياً أن تهتم بالقضايا الروسية عندما شغلت منصب مستشارة الأمن القومي، لكنها ابتعدت اليوم عن تلك القضايا بسبب مزاحمة موضوع العراق لغيره وسيطرته علي اهتمام الدبلوماسية الأمريكية بمجملها. وبينما تواصل الحكومة الروسية تعيين حكام الأقاليم بدل انتخابهم، فضلاً عن الموت الغريب للمعارضين علي نحو يذكرنا بالممارسات السابقة لجهاز الاستخبارات التابع للاتحاد السوفيتي، تظل الولاياتالمتحدة غارقة في الموضوع العراقي. - اتجاه أمريكا اللاتينية نحو "اليسار": في السنوات التي سبقت الحرب علي العراق كان الرؤساء الأمريكيون يستقبلون بالترحيب خلال اجتماعات القمم التي تعقد في أمريكا اللاتينية. والأكثر من ذلك عندما وقعت هجمات 11 سبتمبر كان وزير الخارجية كولن باول يقوم بجولة في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية فيما اعتبر حينها نجاحاً باهراً للسياسة الأمريكية في المنطقة. فقد تسلمت حكومات ديمقراطية السلطة في جميع دول أمريكا اللاتينية تقريباً ما عدا كوبا، وكانت الدول المثقلة بأعباء الديون الخارجية تطبق الإصلاحات الاقتصادية اللازمة، بينما ينظر إلي واشنطن باعتبارها شريكاً أساسياً للمنطقة في مسيرتها الديمقراطية والاقتصادية. بيد أن ما تشهده أمريكا اللاتينية اليوم من صعود للتيار "اليساري" يجعل الجهود الأمريكية السابقة في مهب الريح خاصة بعد انتقال القيادة الجديدة لأمريكا اللاتينية إلي رئيس فنزويلا هوجو شافيز الذي تدعمه الاستخبارات الكوبية. وبحلول 2006 توسعت رقعة الدول المناوئة للولايات المتحدة لتشمل كلاً من بوليفيا والإكوادور ونيكاراجوا. وحتي المكسيك التي تعهد الرئيس بوش بفتح صفحة جديدة من التعاون معها نراه يتراجع الآن عن تعهداته لها بعد 11 سبتمبر، بسنه لقوانين تضيق علي الهجرة وتشدد المراقبة علي الحدود. - الحروب في أفريقيا: أما القارة السمراء التي تشهد حروباً واضطرابات لا حصر لها فقد خرجت هي الأخري من دائرة الاهتمام بسبب التركيز علي الحرب في العراق. فرغم تحذيرات المراقبين من احتمال خروج أزمة دارفور عن السيطرة وتسببها في حرب إقليمية مازالت أمريكا تتخبط في سياستها تجاه المنطقة. وقد لا تنتهي القضايا العالمية التي تعاني من تهميش مثل مسألة مراقبة التسلح والحد من انتشار الأسلحة النووية، فضلاً عن جهود محاربة الجريمة المنظمة التي يبدو أنها عادت مجدداً إلي الواجهة في ظل انشغال الولاياتالمتحدة بالحرب في العراق. وبدلاً من استمرار الإدارة الأمريكية في الانغماس أكثر في المستنقع العراقي واقتراح إرسال المزيد من الجنود إلي بغداد يتعين إفساح المجال أمام مسئولي الأمن القومي الأمريكي لمعالجة باقي القضايا العالمية ذات التأثير المباشر علي الولاياتالمتحدة.