لقد كان الجميع مدركاً للخطر عام 1995. فقد كان الصراع في البوسنة في تصاعد؛ وكان عشرات الآلاف من المدنيين قد طُردوا من منازلهم وعلِقوا في أماكن حددتها الأممالمتحدة "مناطق آمنة"، من بينها مدينة سريبرينيتشا. ولم يكن يقف بين المدنيين وقوات صرب البوسنة سوي بضع مئات فقط من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، التي كانت مجهزة تجهيزاً بسيطاً. أما الصرب، فكانوا قد عبَّروا عن تحديهم للأمم المتحدة، ورفضهم للعروض الدبلوماسية، وإصرارهم علي الزحف علي المناطق الآمنة وإنهاء مهمة التطهير العرقي في البوسنة. كل عناصر المذبحة إذن كانت حاضرة ومتوفرة، وهو ما حدث أمام أنظار العالم بالفعل؛ حيث قُتل نحو ثمانية آلاف مسلم بشكل ممنهج في سريبرينيتشا وحدها. وها هو التاريخ يحاكم بشدة اليوم صناع القرار الذين تخلفوا عن اتباع الإشارات التي حذرت من حدوث جريمة قتل كبيرة. باعتبارنا ممن أيدوا عملاً عسكرياً في البوسنة، فلن ننسي أبداً تلك الأيام الفظيعة. ونتذكر أنه حينما قررت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها التحرك أخيراً، أنقذ التدخل العسكري ما لا يحصي ولا يعد من الأرواح. وكنا قد تعهدنا جميعنا من جديد بأنه في حال حدوث وضع مماثل مرة أخري، فإننا سنتصرف علي نحو مختلف. واليوم تواجه منطقة دارفور السودانية وضعاً صعباً خاصاً بها. ذلك أن حجم ضحايا الأزمة حتي الآن يبعث علي الصدمة، حيث قُتل وفق بعض التقديرات أكثر من 200000 مدني، في وقت اضطر فيه نحو 2.5 مليون شخص للجوء إلي مخيمات مُزرية. وهذه الكارثة، هي نتيجة عملية قتل موجهة تقف وراءها أطراف في مقدمتها مليشيات الجنجويد. وأمام المسئولية الأخلاقية الملقاة علي عاتقه، تبني مجلس الأمن الدولي قراراً يقضي باستبدال قوة تابعة للاتحاد الإفريقي، أثبتت شجاعتها ولكنها تفتقر إلي الإمكانيات والوسائل اللازمة، بقوة أكبر عدداً وعدة تابعة للأمم المتحدة من أجل حماية المدنيين. غير أن الحكومة السودانية لم تكتف برفض القرار فحسب، وإنما طالبت أيضاً بانسحاب قوات الاتحاد الإفريقي من البلاد، مع ما يعنيه ذلك من تعريض لحياة المدنيين للخطر. وفي غضون ذلك، شنت القوات هجوماً كبيراً في دارفور بغية القضاء علي مقاتلي الجماعات المتمردة هناك، وهو ما أجبر عشرات الآلاف من المدنيين للجوء إلي المخيمات. وكما في حالة سريبرينيتشا عام 1995، فإن آفاق حدوث عملية قتل جماعية إضافية في دارفور باتت اليوم واضحة وجلية للجميع. فقد تم إصدار جميع إشارات التحذير، ومن بينها واحدة صدرت عن الأممالمتحدة تُحذر من أن الأسابيع المقبلة قد تشهد "كارثة من حجم غير مسبوق من صنع الإنسان". غير أن ما لا يبدو واضحاً وجلياً هو ما إن كان العالم يرغب في الحصول علي نتيجة في حالة السودان مختلفة عن المأساة التي كانت البوسنة مسرحاً لها. والواقع أنه علينا أن نعلم أننا سنتدخل إن عاجلاً أم آجلاً لمساعدة الضحايا في دارفور ومراقبة احترام تسوية نهائية. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه هو ما إن كانت الولاياتالمتحدة ودول أخري ستتحرك الآن لتلافي حدوث مأساة، أم ستكتفي بالتعبير عن الحزن والأسف، والتعامل مع تبعاتها لاحقاً. وعليه، فلابد من التحرك في الساعات والأيام المقبلة: - أولاً، علي الولاياتالمتحدة أن ترفض فوراً مطالبة الخرطوم بانسحاب قوة الاتحاد الإفريقي؛ والتشديد علي ضرورة بقائها هناك، بدعم دولي واسع، إلي حين إرسال قوة أممية قوية تحل محلها انسجاماً مع قرار مجلس الأمن رقم 1706 . - ثانياً، علي الولاياتالمتحدة أن تدعو الاتحاد الأوروبي إلي فرض عقوبات مالية، والسعي إلي فرض عقوبات مماثلة فورية من قبل مجلس الأمن. - ثالثاً، علي "الناتو" أن يقيم فوراً منطقة حظر للطيران فوق دارفور ويفرض احترامها ضماناً للتوقف عن شن غارات جوية علي المنطقة، كما طالب بذلك مجلس الأمن الدولي. - رابعاً، علي الولاياتالمتحدة أن تكثف جهودها من أجل إقناع أعضاء الأممالمتحدة بالمشاركة بالجنود والمال في القوة الأممية في دارفور، كما عليها أن تطور مخططات دعم لوجيستي أمريكي. كما يتعين علي الإدارة الأمريكية أيضاً أن تدفع الأممالمتحدة إلي وضع مخططات مُحكمة لدخول قوة أممية إلي دارفور، ومخطط بديل لدخول هذه القوة في غياب موافقة سودانية. - خامساً، ينبغي تسخير وسائل وأجهزة الاستخبارات التابعة للولايات المتحدة وحلفائها، مثل تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية، لتسجيل وتوثيق أية فظاعات تُرتكب في دارفور من أجل استعمالها لاحقاً في متابعات جنائية. كما علينا أن نُذكّر الخرطوم علناً بأنه من صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية محاكمة الضالعين في جرائم الحرب في دارفور، وأن متخذي القرار سيتحملون المسؤولية شخصياً عن الهجمات التي تستهدف المدنيين. - وأخيراً، علي الولاياتالمتحدة أن تزيد ضغوطها علي الدول الصديقة للخرطوم _وخصوصاً حلفاءنا في الجامعة العربية- من أجل حملهم علي التخلي عن دعمهم لموقف السودان الرافض لقبول قوة تابعة للأمم المتحدة. والواقع أن بعض هذه الخطوات سيكون اتباعها صعباً وشاقاً، غير أن الظروف المفروضة علي سكان دارفور لا تقل صعوبة ولا مأساوية. وكذلك ستكون باهظة عواقب عدم التحرك والمتمثلة في كارثة إنسانية سيتعين علي العالم في جميع الأحوال معالجتها؛ وعدد ضخم من اللاجئين الذين يعوِّلون علي الدعم الدولي؛ ونزاع يمتد إلي البلدان المجاورة، مع تقلص آفاق التوصل إلي تسوية؛ وقلق دائم في ضمائرنا. لقد شعر الأشخاص من أصحاب الضمائر الحية عبر العالم بالصدمة والعار نظراً لفشلنا في وقف جرائم الإبادة في البوسنة ورواندا. ولذلك، علينا ألا نكرر هذه الأخطاء. القد حانت اليوم لحظة الحقيقة في دارفور.