دق جرس التليفون المحمول الخاص بالمهندس هادي فهمي رئيس الشركة القابضة للتجارة.. كان علي الطرف الآخر محمود محيي الدين وزير الاستثمار وبمجرد أن فتح الخط قال بلهفة واضحة: - جه؟! ورد هادي فهمي وصوته يقطر ألماً: - لسه! كان مندوبو الصحف ووسائل الإعلام يتزاحمون علي مكتب رئيس الشركة القابضة في انتظار حضور "الحنش" فقد بقيت ساعة واحدة وتنتهي المهلة التي حددها رجل الأعمال المصري المقيم بالسعودية لكي يقدم خطاب الضمان الخاص بشرائه "عمر أفندي".. دخل مدير مكتب رئيس الشركة مسرعاً.. تهلل وجه هادي فهمي، وكان يقفز من مقعده ليسأل مدير مكتبه قائلاً: - جه؟! هز مدير مكتبه رأسه نافيا، فاختفت الابتسامة من علي وجه هادي فهمي فيما بدأ مدير المكتب يسأله عن كيفية مواجهة هذا الطابور من الصحفيين والمصورين الذين حضروا لمتابعة الموقف بينما لا يجد مسئولو الشركة رداً مناسباً علي تساؤلاتهم.. وأضاف أنهم جميعاً يطلبون مقابلته لاستيضاح الأمر.. صمت هادي فهمي قليلاً وتردد في اتخاذ القرار.. لذلك قرر أن يتصل بوزير الاستثمار يسأله الرأي والمشورة عملاً بحكمة "ماخاب من استشار" وعلي الفور طلب الوزير محيي الدين علي تليفونه المحمول لكن الجرس استمر طويلاً ولم يتلق رداً.. أعاد المحاولة، فكانت النتيجة واحدة.. بدأ القلق يتسرب إلي نفس هادي فهمي ونظر إلي كبار المسئولين في الشركة فوجدهم هائمين في تخيلاتهم.. مرت دقائق ثقيلة شعر هادي فهمي بعدها بأن روحه قد عادت لجسده عندما دق هاتفه، ووجد المتصل هو الوزير: - أيوه يا فندم.. أنا اتصلت بيك وسعادتك مارديتش.. فيه حاجة ولا إيه؟ كان صوت محيي الدين يبدو متوتراً هو الآخر: - لا يا هادي مفيش حاجة أنا افتكرتك بتديني رنه وما رضيتش أفتح عليك.. - سعادتك عارف إن تليفوني "بيزنس".. انت نسيت ولا إيه يامعالي الوزير.. ولم يكمل جملته فقد قاطعه الوزير.. - المهم عندك أخبار؟ - يا فندم أنا مكتبي مليان صحفيين ومش عارف أقابلهم ولا لأ.. وإذا قابلتهم أقولهم إيه؟ - هما جولك.. دول لسه كانوا في الوزارة من نص ساعة.. وواصل محمود محيي الدين حديثه كمن تذكر شيئاً مهماً: - ما تقابلش حد يا هادي لغاية ما أعمل كام تليفون واتصل بيك.. أغلق الوزير الخط تاركاً هادي فهمي وهو كالغريق لا يعرف كيف يتصرف.. وقف هادي من علي مقعده متجهاً إلي النافذة لقتل الوقت.. كان وكيل أول وزارة الاستثمار منذ أن حضر إلي مكتبه وهو واقف يتأمل من النافذة.. اتجه هادي إليه وهو يتمتم هامسا "امتي اليوم الاسود ده يعدي"؟ كانت دهشة رئيس الشركة القابضة عظيمة عندما رأي وكيل أول الوزارة وهو يعطي ظهره للجالسين في الغرفة ممسكاً بوردة وهو يقطع أوراقها ورقة ورقة ويردد: - هييجي.. مش هييجي.. هييجي.. مش هييجي.. لم يشأ هادي فهمي أن يحرج الرجل فتعمد أن ينظر إلي الطرف البعيد من الحجرة وتظاهر بأنه يسعل بشدة فانتبه وكيل أول الوزارة وأخفي ما تبقي من الوردة في جيب سترته.. بعد لحظات قطع هادي فهمي المسافة من النافذة حتي مكتبه جريًا بمجرد سماعه جرس تليفونه المحمول وكما توقع كان علي الطرف الآخر وزير الاستثمار. - أيوه يا هادي. - خير يا فندم. صوت الوزير يبدو أقل توترًا من المكالمة الماضية.. انتبه هادي فهمي إلي حديثه جيدًا وركز كل حواسه. - يا هادي قابل الصحفيين، وقولهم أن احنا حريصين علي الانتظار لنهاية المهلة حتي لو فاضل منها دقيقة واحدة.. كمان مطلوب يكون معاهم مصور محترف. وكويس بصورك مع وكيل الوزارة ومسئولين الشركة عندك. رد هادي فهمي مندهشًا: - ولازمتها إيه الصور يا فندم. - والله هما قالوا لي كده.. تتصور انت واللي معاك.. انت لازم تبان في الصورة وانت بتتكلم في التليفون.. والجماعة اللي عندك واحد يحط إيده علي خده.. والتاني بيبص في ساعته.. تعمل جو يعني.. فاهمني يا هادي.. استغرق هادي فهمي لحظات قبل أن يرد! - بصراحة مش فاهم سعادتك. بدا لهادي أن الوزير محمود محيي الدين يحدث شخصًا آخر بجانبه يناديه بأسم عبد ربه.. نعم عبد ربه هو الساعي المسئول عن قهوة الوزير التي يشربها عادة بدون سكر تمامًا.. كان محيي الدين يخاطب عبد ربه قائلاً "خلصني يا عبد ربه.. الفنجان بيقول هييجي ولا لأ". انتبه الوزير إلي أن هادي فهمي لا يزال علي الخط فعاد ليخاطبه قائلاً: - خلاص يا هادي.. فهمتني كويس". ربنا يوفقك ولو احتجت أي حاجة رن علي وانا اطلبك.. نفذ هادي فهمي كل تعليمات الوزير.. وتعمد أن يظهر في الصور الصحفية وهو يقف مخفيًا نصف وجهه وهو يتحدث عبر الهاتف في مشهد يوحي بأنه يحادث شخصًا مهمًا.. كانت الأخبار المنشورة مع تلك الصور تؤكد أن رجل الأعمال المصري "الحنش" قد أرسل فاكس للشركة لا يصلح لأن يكون خطاب ضمان ولا حتي خطاب من دفتر توفير البريد ذي الجوائز الشهرية. في اليوم التالي كانت وجوه العاملين في الوزارة والشركة القابضة متهللة والابتسامة تقفز منها.. ورغم انتهاء الأزمة إلا أن هادي فهمي أصر علي أن يستوضح الوزير اثناء لقاءهما فيما بعد عن تصرفاته الغامضة في هذا اليوم المشئوم.. فكان الوزير صريحًا معًا عندما قال: - يا هادي.. ثق إن مفيش حد من أصحاب الألسنة الطويلة هيقدر يهاجم بيع القطاع العام بعد كده.. "الحنش" طلع نصاب.. وأي واحد هيقول إن القطاع العام بيتباع بالتراب هيبقي نصاب زيه".. واستأذن الوزير منصرفًا بعد أن أكد كعادته علي رئيس الشركة القابضة بأنه موجود في المكتب وانه لو احتاج أي شئ عليه فقط أن "يرن علي موبايل الوزير رنة ويقفل"!