للمرة الثالثة علي التوالي خلال عام واحد لم ينقض بعد، فجع المصريون بحادثة أخري مروعة من حوادث قطارات الموت، التي تفنن القائمون عليها في تأبين مستقليها إلي مثواهم الأخير بدلا من نقلهم إلي حيث يريدون. ففي شهر فبراير الماضي جُرح عشرون شخصاً إثر اصطدام قطارين قرب الإسكندرية، كما جُرح 45 آخرون في تصادم قطارين بمحافظة الشرقية في شهر مايو الماضي. وقبل أيام قلائل، أبت هيئة سكك حديد مصر أن ينزع المصريون من قلوبهم ركام الأحزان الذي استوطن بها إثر النكبات المتتالية التي باتت صنوا لحياتهم، سواء تلك الحوادث الدامية السابقة، ومن قبلها فاجعة غرق العبارة السلام 98، ثم أحداث لبنان المحبطة، حيث فجعنا جميعا مجددا وقبل أيام قلائل بنبأ وقوع حادثة قطارات مروعة جديدة راح ضحيتها حوالي ستين من البسطاء وبصحبتهم مئات آخرين من الجرحي والمصابين. وأتصور أن مكمن الأسي والخطر في ان لم يكن يقتصر علي وقوع تلك الحادثة المروعة بكل المقاييس فحسب، وإنما يتجلي في تكرار مثل هذا النوع من الحوادث التي تحصد أرواح المئات وتدمي قلوب ذويهم، علي نحو مستفز وخلال فترات زمنية غير متباعدة، حيث لم يعد يفصل ما بين الحادثة والأخري، في أحايين كثيرة، سوي بضعة أسابيع أو أشهر قلائل، حتي لم يعد من قبيل المبالغة الزعم بأن أرض الكنانة قد أضحت من أكثر دول العالم صداقة وحميمية مع حوادث وسائل النقل بشتي أنواعها عموما، والسكك الحديدية منها علي وجه الخصوص. فمن بين الحوادث المتكررة التي ألفتها بلادنا فيما يتصل بكل وسائل النقل الجماعي بدءاً بحافلات النقل العام، مرورا بالحافلات السياحية أو العبارات وحتي الطائرات، برزت القطارات لتسجل الرقم القياسي في حوادث النقل المتعلقة بها، ليس فقط علي الصعيد المحلي أو الإقليمي وإنما أيضا علي المستوي الدولي بلا منازع. فقد شهدت مصر خلال العقد الماضي وحده سلسلة من أسوأ حوادث القطارات التي يمكن أن تعرفها دولة في عالمنا، فقد علي إثرها أكثر من 700 شخص أرواحهم كما جرح وأصيب آلاف آخرون، وكلهم سقطوا ضحايا لأخطاء سوء الإدارة لهذا المرفق الاستراتيجي ما بين أعطال فنية أو أخطاء بشرية ارتكبها سائقو القطارات ومسئولو الحركة "المحولجية"، إضافة إلي بعض أخطاء الركاب أنفسهم، لاسيما تلك الناجمة عن إساءة استعمال ذلك المرفق الحيوي. والغريب أن ظاهرة حوادث القطارات، التي ألفناها في بلادنا، بدأت تأخذ طابعها الراهن من التواتر والكثافة خلال فترات زمنية ضيقة مع مطلع تسعينيات القرن المنصرم، وعلي الرغم من التطور المذهل الذي لحق بإجراءات الأمان والصيانة علي مستوي وسائل النقل بشتي أنواعها والسكك الحديدية منها علي وجه الخصوص. ففي العام 1992 علي سبيل المثال، قُتل 43 شخصاً إثر اصطدام قطارين قرب القاهرة. كما لحق بهم 12 آخرون وجُرح 60 في اصطدام قطارين علي بعد 90 كيلومترا شمال القاهرة في ديسمبر من العام 1993. وبعدها بعامين، قضي 75 شخصاً وأصيب العشرات في اصطدام قطار بمؤخرة آخر. وفي شهر فبراير 1997، قتل ما لا يقل عن 11 شخصاً إثر اصطدام قطارين شمال مدينة أسوان، كما قتل 50 شخصا وجُرح أكثر من 80 آخرين إثر خروج قطار عن القضبان قرب محافظة الإسكندرية في شهر أكتوبر 1998. وبعدها بستة أشهر، قتل عشرة أشخاص وأصيب 50 آخرون في حادث اصطدام قطارين في الدلتا. وفي نوفمبر من العام نفسه، قُتل عشرة آخرون وأصيب 7 علي الأقل إثر اصطدام قطار بشاحنة وخروجه عن القضبان بين القاهرةوالإسكندرية. غير أن أبشع كوارث القطارات علي الإطلاق، كانت تلك التي وقعت عشية عيد الأضحي في فبراير من العام 2002، وأطاحت بوزير النقل، آنذاك، الدكتور إبراهيم الدميري، حيث لقي أكثر من 400 شخص حتفهم وجرح مئات آخرون، بسبب حريق شب في أحد قطارات الدرجة الثالثة، كان في طريقه إلي صعيد مصر، وعلي متنه مئات من البسطاء والفقراء العائدين إلي قراهم للاحتفال بالعيد وسط أهليهم بعد طول غياب تسابقوا خلاله في تلمس سبل الرزق التي ضاقت بهم في صعيدهم الطارد. ويشي مثل هذا التكرار والتواتر في حوادث القطارات التي استوطنت بلداً كمصر، كانت هي الأولي في قارتها الأفريقية التي تمتلك خطوطاً للسكك الحديدية قبل نهايات القرن التاسع عشر، حتي باتت شبكتها اليوم هي الثانية علي مستوي العالم من حيث الضخامة والانتشار والتغطية، حيث بلغ عدد خطوط القطارات العاملة فيها نحو 28 خطاً بطول نحو عشرة آلاف كيلومتر، ويتحرك علي شبكتها يومياً 1300 قطار ذهاباً وعودة، ويستخدمها يومياً أكثر من ثلاثة ملايين مواطن، يشي بأن شيئا ما خطأ قد ألم بالتعاطي مع ذلك الأثر التاريخي .