ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من إحباط آخر مؤامرة إرهابية ترمي لإسقاط الطائرات الأميركية؟ لعل في مقدمتها إصرار تنظيم "القاعدة" ومثابرته في حبك ونسج مخططاته الإرهابية الرامية إلي توجيه ضربة مدمرة لخطوط الطيران المدني. فالموت في حوادث تحطم الطائرات يعد من أكثر أنواع الموت رعباً علي نحو ما يذكرنا اختصاصيو علم النفس، بأنه الأكثر إثارة لمشاعر الذعر قياساً إلي كافة أنواع الموت الأخري. ولذلك فإن الاهتمام بأمن الطيران، مصحوباً بحقيقة أن توفير الحماية ضد أي هجمات إرهابية محتملة لن يتحقق إلا بخصم قسط وافر من راحة المسافرين، يجعلان من إحباط المؤامرة الأخيرة هذه مجرد هزيمة جزئية ومؤقتة للإرهابيين لا أكثر. والشاهد أن هذه المؤامرة سترفع كثيراً من تكلفة السفر جواً. ومن بينها أن التكلفة الإضافية _التي يعد الجزء الأكبر منها غير مادي ولا محسوس، مثل الخوف من الطيران عموماً، وكذلك الخوف من إهدار الوقت- كلها يمكن أن تدفع بأعداد أكبر من المسافرين للجوء إلي خيارات أخري أقل أمناً، مثل السفر البري بالسيارات. كما كشفت المؤامرة نفسها عن مدي أهمية العمل الاستخباراتي في مجال مكافحة الإرهاب. ولاشك أن العمل الدفاعي المضاد للإرهاب، مثلما هو الحال في العمل الدفاعي ضد أي عدو من الأعداء، لابد له من أن يتألف من عدة طبقات ومستويات، حتي يكون فاعلاً وذا تأثير يعول عليه. والمعروف أن الاستخبارات تشكل عنصراً مهما من عناصر الدفاع الخارجي، لكونها تهدف خصيصاً إلي الكشف المبكر عن المؤامرات حتي يتسني إحباطها. وفي الوقت ذاته فإن أحد عناصر الدفاع الداخلي هو إحباط المؤامرة قبل الدقيقة الأخيرة لوقوعها. ومن ذلك مثلاً عمليات التفتيش عن الأسلحة بين أمتعة الركاب في المطارات. لكن في هذه المؤامرة الأخيرة، كان متوقعاً لهذا النوع الداخلي من العمل الدفاعي أن يفشل في أداء دوره هذه المرة، لكون التفتيش العادي لأمتعة الركاب وحقائبهم اليدوية لن يفلح في الكشف عن المتفجرات السائلة التي قامت عليها المؤامرة. يجدر بالذكر هنا أن هذا النوع من التهديد الإرهابي بواسطة استخدام المواد الكيماوية السائلة، كان قد جري الكشف عنه في إطار إحباط مؤامرة سابقة لتنظيم "القاعدة" في عام 1995. ولذلك فإن من حسن الحظ أن حقق الدفاع الخارجي نجاحاً باهراً في إحباط هذه المؤامرة. ويعود السبب وراء هذا النجاح إلي حد ما لجهاز "ام -15" الاستخباراتي البريطاني. ولكن المشكلة أننا نفتقر إلي جهاز استخباراتي مماثل يضاهيه. وغني عن القول إن هذه ثغرة استخباراتية كبيرة في أدائنا وعملنا الدفاعي. ومن الملاحظ أن الواجبات الاستخباراتية الرئيسية ذات الصلة بحماية أمننا القومي قد أوكلت إلي مكتب التحقيقات الفيدرالي. والمعلوم عن "اف.بي.اي" أنه مؤسسة معنية بالتحقيقات والإجراءات الأمنية الجنائية. ولذلك فإن توجهها العام أقرب إلي اعتقال المشتبه بهم والتحقيق معهم في القضايا الجنائية، وليس الاستقصاء والجمع المتأني الصبور للمعلومات الاستخباراتية، بغية اختراق شبكة أو منظمة إرهابية ما، بهدف إحباط مؤامراتها. ولكي نوضح الصورة أكثر، فإن أداء مكتب التحقيقات الفيدرالي ينسجم تماماً مع طبيعة عمله وثقافته السائدة، ولا يذهب في التحري عن شبكة أو جماعة إرهابية ما، أبعد من حدود جمع ما يكفي من المعلومات عنها، لإلقاء القبض علي أعضائها المشتبه بهم وبدء التحريات الجنائية معهم بغية محاكمتهم. وعلي نقيض هذا تماماً، يميل جهاز "ام- 15" البريطاني إلي إطالة النفس والانتظار لمدة أطول قبل أن يبدأ تحركاته المعادية للإرهابيين المشتبه بهم. والفكرة هي جمع أكبر عدد ممكن من المعلومات وكذلك كشف أكبر عدد منهم قبل الانقضاض عليهم. وبالمقارنة فإن نهج مكتب التحقيقات الفيدرالي يؤمن اعتقال العناصر الإرهابية الثانوية والهامشية، بينما يؤكد عجزه عن الوصول إلي الرؤوس الكبيرة المدبرة. ليس ذلك فحسب، بل تساعد الاعتقالات التي يجريها المكتب في تحذير الإرهابيين المشتبه بهم من خطوات المكتب وإجراءاته ومناهج عمله التي تستهدفهم في الحالة المعينة. كما يسهم المنهج البيروقراطي القائم علي اجتناب المخاطرة في تحذير الشبكات والخلايا الإرهابية من الخطوات التالية المتوقعة من المكتب. وعلي رغم صحة الافتراض أن في الاعتقال الفوري للإرهابيين ما يؤكد وقوعهم في قبضة المكتب وإحباط مخططهم الإرهابي الذي يدبرونه، إلا أنه ما من سبيل لتوجيه ضربات موجعة ومتتالية للإرهاب _علي طريق هزيمته نهائياً- إلا بتحمل بعض المخاطرة وترك عناصره لفترة من الوقت قبل الانقضاض عليهم.