الذي لا شك فيه أن "داني دين" يعيش هذه الأيام أسوأ أيام حياته وأكثرها ألماً ومرارة وحسرة، فهو الشخصية الإسرائيلية الأسطورية الخارقة التي عمدت السلطات الصهيونية لإصدار سلاسل من القصص التي تحمل اسمه، وذلك في اطار تقوية نفوس الأطفال هناك، وتعزيز مواقفهم وأفكارهم، وغرس روح العداء والتفوق والاستعلاء لديهم. ونظراً لأن "داني دين" يتمتع بهذه المواهب والقدرات والخصائص المتفردة، فهو قادر دائماً علي هزيمة العرب مهما كانت قدراتهم العسكرية، وكيف لا يكون له ذلك، وهو الشخص الذي يري ولا يرُي، كما أنه في استطاعته القيام بالأعمال الخارقة دون ان يراه أو يشعر به أحد، ولمن لا يصدق كل ذلك، فعليه ان يرجع إلي بعض عناوين السلسلة التي تحمل اسمه، مثل "داني دين في جهاز التجسس"، "داني دين بطل إسرائيل"، "داني دين في الأسر"، "داني دين في حرب الأيام الستة"، "داني دين في جهاز الاستخبارات"، "داني دين في الطائرة المخطوفة"، "مغامرات داني دين بين الوحوش الضارية"!! ومن ذلك يتبين أن هذه السلسلة من قصص الأطفال والتي اعتمدت دائماً علي الخيال المفرط في الأحلام، كانت تستهدف غرس العديد من القيم والأهداف التربوية في نفوس القارئين لها من أطفال إسرائيل، مثل تأصيل وتأكيد الحقد والعداوة ضد جميع الدول العربية، وتكريس ثقتهم في أجهزة الأمن الإسرائيلية، وترغيبهم في العمل في هذا الجهاز لمصلحة وطنهم، وبذر روح الشك في نفوس الأطفال بالحذر دائماً من جميع الافراد، إذ ان الجواسيس العرب ينتحلون أسماءً عبرية ويتحدثون بها، والاستهزاء بشبكات التجسس العربية، إذ انها لم تكتشف "داني دين" وهو الذي يرد علي مخابراتهم من مكان قريب وإبراز التقدم الإسرائيلي الهائل في مضمار اختراع وسائل الحرب الجديدة، فضلاً عن اظهاره واليهود معه بالعبقرية في تدمير الخطط العربية دون أي عناء!! وإذا كان الإنصاف يقتضي منا الإقرار، بأن الطفل الأسطوري المعجزة "داني دين" قد تمكن إلي حد كبير من القيام بأدواره البطولية غير العادية، ومنذ قيام دولة إسرائيل وإلي أيام وأسابيع قليلة ماضية، وذلك لأسباب شخصية فيه وموضوعية في دولته، وأيضا ولأسباب كامنة فينا نحن كعرب، حيث كنا وعلينا ان نعترف بذلك أمة مغيبة تتكلم كثيراً ولا تفعل إلا النذر القليل، أمة تتغني بالأمجاد القديمة وتقتات عليها، ولا تقوم في ذات الوقت بعمل الشيء الذي يضمن استمرارها أو زيادتها، الأمر الذي دفع بالدكتور عبدالله ابراهيم "وهو مفكر وأستاذ جامعي عراقي" للقول بأن مجتمعاتنا لم تتمكن من اعادة انتاج ماضيها بما يوافق حاضرها، كما انها لم تتمكن من التكيف مع الحضارة الحديثة، حتي أصبح التكوين الإنساني العربي شاحباً، ومن ثم تشكلت مجتمعاتنا محكومة بمعايير الذل والتبعية والعبودية، وخيمت فلسفة التكاذب والمراءاة والخداع بيننا (مجلة حوار العرب العدد 20، يوليو 2006). هذه نقطة، أما النقطة الأخري في موضوعنا، فهي تتعلق بلا ريب بوقائع وتطورات ومضامين الذي جري في لبنان، ولعلنا لا نبالغ عندما نقول بأن "حزب الله" وبأدائه السياسي والعسكري هناك، قد أعلن ودونما تهويل أو استعلاء عن ولادة "العرب الجدد" هناك، وقد رأينا وسمعنا وقرأنا عن عرب آخرين بخلاف العرب الذين نعرفهم، هؤلاء العرب الذي كان طفل إسرائيل المعجزة "داني دين" يصول ويجول بينهم، فيمكن دولته من هزيمة جيوش العرب الجرارة في ساعات أو أيام تعد علي أصابع اليد الواحدة، كما مكن اسرائيل من استمرار احتلال الأراضي العربية في الجولان السورية والضفة الغربية وقطاع غزة الفلسطيني، ومزارع شبعا اللبنانية حتي وقت كتابة هذه السطور. وعلي الرغم من أنني لست خبيراً عسكرياً أو هكذا تخصصي، إلا أن قناعتي تحدثني وتشعرني باهتزاز الأرض من تحت إسرائيل، وكذلك تحت البيت الابيض في واشنطن، فالذي تتعرض له طلائع ونخب القوات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني وتحديداً علي الشريط الحدودي من فرط غرابته ومفاجأته لايصدق، كما أعد حزب الله (وإليه يرجع الفضل في ذلك)، ما استطاع به من قوة ليذيق مواطني إسرائيل العاديين أو المستوطنين مرارة وأهوال الحروب العديدة التي كانت دولتهم تخوضها ضد دول عربية أخري ظلماً وعدواناً، والتي كانت تدور رحاها بعيداً عنهم وعن مدنهم أو مستعمراتهم، فيعيشون حياتهم العادية بها وكذلك علي شواطئها، في نفس الوقت الذي كانت قواتهم العسكرية تعيث فيه فساداً وإذلالا للجيوش العربية المنبطحة في دول الطوق حولها. لقد أدار "العرب الجدد" في حزب الله معركتهم الأخيرة مع إسرائيل بكل بطشها وجبروتها وغطرستها بحنكة سياسية ومقدرة عسكرية سيتوقف التاريخ عندها كثيراً، فعلي المستوي السياسي، فقد بدأ الحزب منذ فترة طويلة يظهر بقوة انفتاحاً علي الحياة السياسية اللبنانية، نجح من خلالها في كسب تأييد اطراف لبنانية عديدة كانت نظرتها إليه تنحصر في السياق العسكري فقط، أما علي المستوي العسكري، فقد بات مستقراً لدي معظم القوي والأطياف السياسية اللبنانية، وفي المقدمة منها مؤسسة الرئاسة والمجلس اللبناني، أن القوة العسكرية للحزب هي مكملة لقوة الجيش اللبناني، وفي هذا السياق الواضح، لم يكن غريباً أن يعلن السيد حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، أن الجيش اللبناني عاجز بمفرده عن ردع إسرائيل التي تستطيع قوتها الجوية تدمير ذلك الجيش خلال ثلاث أو أربع ساعات (وهو ما اثبتته وقائع الحرب الأخيرة)، وقد ذكر "دانيال سوبلمان" وهو صحفي وباحث إسرائيلي في دراسة له نشرت في مجلة "ستراتيجيك أسيسمنت" والتي تصدر عن مركز جافي للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، أن لدي إسرائيل معلومات استخبارية تؤكد علي تعاون حزب الله والجيشين اللبناني والسوري، كما ان البنية الأساسية العسكرية اللبنانية، تعتبر أن حزب الله، يساعد كثيراً في تعويض لبنان عن التفاوت في القوة العسكرية مع إسرائيل، ففي يوليو الماضي نقل عن قائد الجيش اللبناني السيد "ميشال سليمان" قوله للسيد "حسن نصر الله" ما نصه: (أنه نظراً إلي أن لبنان لا يملك طائرات مقاتلة ولا جيشاً قويا يواجه به إسرائيل، فإن حزب الله يمكن له أن يملأ هذا الفراغ، ومن ثم فإن حزب الله هو "سلاح لبنان الذكي"). ويستطرد "دانيال سوبلمان" في مقالته محذراً، حيث يقول بأن هناك مسئولين بارزين في لبنان يتحدثون الآن وقت نشر المقال عن دمج حزب الله في العقيدة العسكرية اللبنانية، حتي أن مديرية التوجيه المعنوي في الجيش اللبناني قامت بتوزيع منشور خاص بذلك علي الجنود، يتحدث عن أن المقاومة تشكل جزءاً أساسيا من قوة الموقف اللبناني، لدي مواجهة الأخطار التي تسببها إسرائيل، كما تلي ذلك بأيام، صرح قائد الجيش اللبناني بأن دعم المقاومة، هو من المبادئ الوطنية الأساسية في لبنان، كما أنه من الأسس التي ترتكز عليها العقيدة العسكرية، وقد اتضح ذلك بما لا يدع مجالاً لأي شك في الحرب الأخيرة. علي أية حال، نعود ونكرر بأن الذي قام به حزب الله ورجاله في مقاومة الهجمة الإسرائيلية الوحشية علي لبنان، ربما سيؤرخ لبداية جديدة في عمر وتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وذلك بالنظر إلي المقولات والمأثورات التي استقرت طويلاً في وعي المواطن العربي المغلوب علي أمره، فأموال وثروات العرب تم تبديدها كثيراً في الإنفاق العسكري علي الجيوش المليونية والحرب الكرتونية، دون أن تحقق انجازات عسكرية أو سياسية ذات مغزي، وذلك باستثناء نجاح قواتنا المسلحة في عبور القناة وتحطيم خط بارليف في عام 1973 فقط، أما حروبنا العربية الأخري مع إسرائيل والتي دارت كلها لاسترداد الأرض العربية المغتصبة من قبل إسرائيل فقد كان نصيبنا منها هو ما تحدث عنه "داني دين" في سلسلة حكاياته الأسطورية التي تناولت القصص المختلفة لهزائم العرب المتعددة بكل أسف. جوانب المشهد السياسي والعسكري في لبنان تبشر بظهور عرب آخرين غير الذي تعودنا عليهم، عرب لا يكذبون ولا يتجملون، عرب جادون ولا يهزلون، عرب صادقون مع أنفسهم ولا يقولون إلا ما يفعلون، وهي كلها (إن صح حدسي) خصائص وسمات وأخلاق وقيم غابت عنا منذ أمد طويل،