كانت الصورة مضحكة، وتستدعي السخرية والاستنكار؛ فالجمهور العربي يشاهد علي الفضائيات فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" الذي يقطر بالشجن والمرارة ويناهض المعتقلات، بينما رقابة التليفزيون المصري تحجبه عن المشاهدين، وتصادر كلمته الجريئة، والحجة الجاهزة أنه "يدين الحقبة الناصرية"، ويتعرض بالإساءة للثورة المصرية (!!) وهو الوضع الخاطئ الذي آن الأوان لتصحيحه في ظل مناخ يفترض أنه يحرض علي إسقاط الممنوعات، وتغليب أجواء الحرية والشفافية وتجاوز كل المحظورات.ربما لهذا السبب وحده رفعت رقابة التليفزيون المصري أيديها، مؤخرا، عن فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" بعدما استجابت لصوت العقل، ليس بإرادتها بالطبع، لأنها تضم في كل الأحوال حفنة من الموظفين المذعورين تحكمهم لوائح بيروقراطية، وضعت في سنوات الستينيات، ومازالت توجه قراراتهم حتي الآن، لكن الاستجابة جاءت بناء علي تدخل أنس الفقي وزير الإعلام، الذي أهتم بأمر الفيلم الممنوع، وطالب مني الصغير رئيس الإدارة المركزية للرقابة في التليفزيون بإعادة النظر في التقارير الرافضة لعرض الفيلم علي شاشة التليفزيون المصري، وهو ما حدث بالفعل؛ حيث كونت "الصغير" لجنة مشاهدة جديدة ضمت عددا من الرقباء، غير اللجنة التي تكونت قبل ترؤسها للإدارة، وحظرت عرض الفيلم تماما، وشاهدت اللجنة الجديدة الفيلم المأخوذ عن قصة للكاتب الكبير جلال الدين الحمامصي كتب لها السيناريو والحوار فاروق صبري وأخرجه حسين كمال، الذي فاجأ الجميع باختيار ممثلين كوميدين علي رأسهم عادل إمام وعبدالمنعم مدبولي لبطولته، علي الرغم من أحداثه التراجيدية المأساوية وقالت اللجنة في تقريرها "تري اللجنة أن الفيلم يستحق تقييما فنيا لا يقل عن درجة جيد جدا، وأهدافه اجتماعية، حيث تدور أحداثه في حقبة استثمر خلالها بعض الفاسدين من رجال السلطة نفوذهم دون علم القيادة السياسية لإذلال بعض فئات الشعب" غير أن هذا الموقف لم يكتمل حتي النهاية، إذ سارع الرقباء بالمطالبة بحذف بعض المشاهد دون مبرر يذكر؛ من بينها قبلة داخل شقة جابر بطل الفيلم عادل إمام ومشهد آخر يتم فيه سحب "مرزوق" عبدالمنعم مدبولي في المعتقل ليشرب من دلو المياه، كالكلب أو الحيوان، (!) ودون ذلك أجازت الرقابة العمل ومنحته عبارة "لا مانع رقابيا". المثير للدهشة أن أفلاما كثيرة يعرضها التليفزيون المصري علي شاشته تذخر بما هو أكثر من مجرد قبلة أو علاقة عاطفية؛ كالتي اعترض عليها الرقباء في فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" كما أن اعتراضهم علي مشهد جر "مرزوق" في المعتقل ليشرب الماء أمام قائد المعتقل سعيد عبدالغني كالكلب هو مشهد عادي، في نظر الكثيرين، سواء أولئك الذين اكتووا بنار المعتقلات أو الذين اكتفوا بسماع أنباء ما يجري فيها من تعذيب؛ فهناك سحل وضرب وانتهاك للآدمية بوحشية، و"عروسة" تستخدم وقت الضرورة، وهي المشاهد التي تعرضت لها أفلام مثل: "الكرنك" و"وراء الشمس" وغيرهما. فهل يتدخل أنس الفقي وزيرالإعلام ويأمر بإجازة "إحنا بتوع الأتوبيس" كاملا ودون حذف؟! هذا ما نأمله لتكتمل شروط الشفافية وتسود أجواء الحرية.