سيسجل التاريخ هذا الأسبوع بأحرف من ذهب وسيخصه بصفحة من صفحاته المشرقة ليس لارتباطه بحدث سياسي مهم يغير خريطة العالم، أو يحقق السلام في أرجائه المضطربة، بل لأن الأسبوع موضوع الحديث كان شاهداً علي أعمال نبيلة تنمُّ عن أخلاق إنسانية عالية عز نظيرها في عالم اليوم، بحيث يحق للبشرية جمعاء أن تسعد بها وتحتفي بها كقدوة تحتذي ونبراساً يضيء لنا طريق الحاضر والمستقبل معاً. والبطل الذي جسد في نفسه قيم الإيثار والعطاء وأذهل العالم بقراره الشجاع والكريم ليس سوي "وارين بافيت"، عبقري الاستثمار الأمريكي وثاني أغني رجل في العالم، الذي أعلن يوم الاثنين الماضي تبرعه بكامل ثروته المقدرة ب44 مليار دولار لصالح الأعمال الخيرية. وهي الثروة التي سترصد كلياً لدعم الأبحاث الطبية ومساعدة الفقراء والمرضي علي تجاوز محنهم والتخفيف من آلامهم، فضلاً عن تشجيع التعليم والتربية في البلدان الفقيرة. ولتعظيم الاستفادة من تلك الأموال حولها "بافيت" إلي المؤسسة الخيرية التي يديرها صديقه "بيل جيتس"، مؤسس شركة مايكروسوفت والرجل الأغني في العالم. ولا يسع المرء وهو يري هذه الأعمال الجليلة التي تحيي الأمل من جديد في مستقبل أفضل بوجود رجال من طينة "بافيت" و"جيتس" يهبان القسط الأكبر من ثرواتهما للتخفيف من حدة الفقر والحرمان اللذين يتلظي بنارهما الملايين من سكان العالم، إلا أن يبدي تقديره الشديد لهذين الرجلين ويكبر فيهما قيم العطاء والكرم. ولن يكون في وسع ذوي النزعات الإنسانية، والساعين لخير البشرية جمعاء سوي التعبير عن الشكر الجزيل والإكبار والتقدير لمثل هذه الأعمال لما لها من أثر عظيم في إعادة البسمة إلي وجوه الأطفال في أفريقيا ممن يموتون بالآلاف يومياً بسبب الملاريا والإسهال وغيرهما من الأمراض التي قضي عليها الغرب منذ أمد بعيد. والجدير بالذكر هنا أن قيمة الأموال الكبيرة التي تبرع بها الرجلان تفوق موازنات العديد من الدول الفقيرة مجتمعة. والأهم من كل ذلك أن "بافيت" و"جيتس" بعملهما الإنساني الكبير لا يسألان ثناءً من أحد ما دام عملهما ينطلق من إيمان عميق بالإنسان ودوره في النهوض بأعباء أولئك الأقل حظاً ومد يد العون للفقراء والمعوزين. فالملياردير "بافيت" الذي تبرع ب44 مليار دولار من ثروته إنما يسير في الواقع علي خطي صديقه "بيل جيتس" الذي سبقه إلي ميدان التبرع الخيري عندما ساهم ب20 مليار دولار من ثروته لإنشاء "مؤسسة بيل وميليندا جيتس للأعمال الخيرية". وها هو "بافيت" يدعم المؤسسة برفدها بالأموال الطائلة التي جعلت منها المؤسسة الأغني في العالم. وفي الأسابيع القليلة الماضية فاجأ "جيتس" العالم عندما أعلن استقالته من منصبه علي رأس شركة مايكروسوفت وتفرغه تماماً لإدارة مؤسسته الخيرية، ما يعني أيضاً أنه بصدد وضع كافة أمواله في المؤسسة لتوسيع دائرة نشاطها وضمان وصولها إلي أكبر عدد ممكن من المحتاجين في المناطق الفقيرة من العالم. لكن ما الذي يدفع الرجلين الأغني في العالم للتبرع بأموالهما التي كدا لجمعها علي مدي سنوات طويلة من العمل الدءوب؟ الجواب يأتينا علي لسان "بافيت" نفسه الذي رد علي سؤال حول الموضوع ذاته قائلا: "نحن نؤمن بأن الثروات التي تتدفق من المجتمع يجب أن تعود في جزء كبير منها إلي المجتمع نفسه ليستفيد منها". وإزاء هذا الرد الشافي لا يسعنا سوي تجديد الإشادة بهذين الرجلين اللذين حملا عبء التخفيف من آلام العالم ومعاناة ساكنيه من المحرومين والفقراء، وهي مسئولية تنوء بحملها الدول الكبري والصغيرة، ويأنف عن الاضطلاع بها كبار المسئولين وقادة الدول. وعكس رجال السياسة الذين يعِد كثيرون منهم ولا يلتزمون بتنفيذ وعودهم، بل وفي بعض الأحيان يتورطون في نهب أموال الشعوب قرن "جيتس" و"بافيت" القول بالعمل وأعلنا أمام الملأ تخليهما عن ثرواتهما من أجل دعم مشاريعهما الخيرية في مناطق العالم المختلفة بدءاً من بلدهما وانتهاء بالدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا التي تنتظر الدواء والغذاء والتعليم. والرجلان اللذان بلغا من الغني شأناً عظيماً وتراكمت في أيديهما الأموال والثروات لم يعرفا بمظاهر البذخ والإفراط في اقتناء الممتلكات الشخصية. وهما إذا كانا يعيشان في بحبوحة من العيش، إلا أنهما بالمقارنة مع حجم ثروتها الكبير وقياساً إلي كثير من رجال الأعمال الأثرياء الذين تمتلئ حياتهم بالفضائح يسلكان حياة متواضعة بعيدة عن المظاهر الزائفة. وربما يرجع سلوكهما الاجتماعي المتواضع إلي بدايتهما في أحضان عائلتين متوسطتين حيث كان عليهما العمل بجد ومثابرة لتحقيق النجاح ما رسخ عندهما الوعي بقيمة المال من جهة وفضيلة العمل لبلوغه من جهة أخري. وإذا كانت ثروة "بيل جيتس" تقدر ب100 مليار دولار فهو لا يحتاج إلا إلي بضعة منها ليعيش حياة مريحة ما تبقي له من عمر.