تضمن المقال الاول في ذلك الموضوع نتائج الدراسة الميدانية التي اهتمت بالكشف عن بعض ابعاد الشخصية القومية المصرية، وخاصة بالنسبة للثقافة او المعرفة السياسية، ومن ثم يجئ هذا الحديث استطراداً لما بدأناه، وإن كان موضوع اليوم سوف يركز علي الملمح الثاني في علاقة المصري المعاصر بالسياسة، وهو ما يعني استكمال الذي ورد في المقال الأول، فبعد التعرف علي مستوي المعلومات السياسية عند المصري عموماً فقد بات من الضروري استطلاع ارائه فيما يتصل بالتحقق من مدي وعيه السياسي، وكذا مدي استقلال آرائه السياسية عن الاراء السياسية الرسمية. وجدير بالذكر هنا، الاشارة الي ان المستوي المنخفض من المعلومات السياسية للمصريين والذي اتضح في حديثنا السابق، قد يعكس في الحقيقة صعوبة امكانية تعبير اشخاص كهؤلاء عن آرائهم السياسية بشكل دقيق لذلك اهتمت هيئة البحث التي توصلت لتلك النتائج باختيار قضايا تتصل بحياة الناس أولاً، كما روعي التدرج في طرحها للمبحوثين من البسيط الي المركب، بالاضافة الي التدرج من الدائرة الاقرب الي الابعد وهكذا.. أولي نتائج ذلك الجزء من الدراسة، أوضحت ان هناك احساساً عاماً لدي المصريين بوجود مشاكل عديدة تواجههم في حياتهم اليومية، حيث بين اكثر من 58% من افراد العينة ذلك بوضوح شديد، الي الحد الذي بلغت فيه نسبة من اقروا بوجودها حوالي 90% من افراد العينة في محافظات الغربية والشرقية والاسكندرية، ولم تصل نسبة الافراد الذين لم يشيروا الي وجود اي مشاكل الا الي نحو 5.7% فقط من مجموع افراد العينة، وعلي الرغم من تناثر اراء المبحوثين بخصوص تلك المشاكل، الا ان مشكلة غلاء المعيشة قد جاءت علي رأس القائمة تليها مشكلة الاسكان، ثم مشكلة زيادة السكان، ومن ذلك يتضح ان تلك المشاكل تعتبر في الواقع من المشاكل التي تثار عادة علي المستوي الرسمي عموماً، وان معظمها يرتبط بالحياة اليومية للناس كما يرتبط بالمشاكل الداخلية، كذلك اتضح ان الشباب هم الفئة الاكثر احساساً بالمشاكل التي تفرضها ازمة الحياة المعاصرة، خاصة بالنسبة للشباب حديثي التخرج. انه علي الرغم من انخفاض مستوي ثقافة المصريين السياسية الا انهم علي وعي بوجود مشاكل تمس جوهر حياتهم اليومية مما يشير الي ان السياسة بالنسبة للمواطن العادي في مصر، لاتتمثل في الاجهزة او المؤسسات السياسية بقدر ما تعتبر سلوكاً يمكنه المساهمة في حل مشاكله الفعلية، فالمواطن المصري اذ يهتم بالسياسة الرسمية فانه يهتم بها بالقدر الذي تنعكس به هذه المشاكل عليه حيث يهتم الافراد في هذا الصدد، بدرجة اهتمام الحكومة بمشاكلهم، وقد ذهب نحو 78% من افراد العينة الي ضرورة اهتمام الحكومة بالمشاكل الداخلية التي تؤثر علي حياة الناس المعيشية بشكل مباشر ولم يقرر الا نحو 8% فقط من اجمالي العينة بضرورة اهتمام الحكومة بالمشاكل الخارجية ويشير ذلك بطبيعة الحال الي اعتقاد غالبية افراد العينة إلي ان الحكومة لاتعطي لمشاكلهم الاهتمام الكافي. أكدت النتائج أيضا علي درجة عالية من هيمنة وسائل أو وسائط الاعلام الرسمية او الحكومية علي تشكيل او صياغة اراء الناس وتحديد مسارها في مسلك بعينه، مما يعني ان ذهنية المصري تتأثر كثيرا بما يأتيها من أعلي، لذلك فإنها تتشكل دائما علي النحو الذي تبتغيه السلطة السياسية، الامر الثاني الذي اتضح في هذه الجزئية ان المصري عندما يتشكل وعيه حول المشاكل الحياتية اليومية التي تواجهه فانه يبدو في ذلك وكأن عويه يتميز بالسطحية الشديدة وثنائية النزعة، حيث يميل عادة الي المقابلة بين الاضرار اكثر من ميله الي البحث عن الاسباب الحقيقية للمشاكل التي يعاني منها، فهو عندما يبدأ في فحص وتحديد تلك المشاكل فلا يأتي علي ذهنه الا هذه التفرقة الشائعة بين المشاكل الداخلية والمشاكل الخارجية، وان الحكومة يجب ان تهتم بالمشاكل الدخلية بشكل اكبر! وقد اتضح ذلك بشكل اكثر عند سؤال افراد العينة، وذلك بالانتقال الي معالجة مستوي اكثر عمومية من مستوي المشاكل اليومية ولعل رأي الناس وتصوراتهم حول القوانين ومدي الالتزام بها، يمثل احدي هذه المسئوليات الاكثر عمومية وقد جاءت الاجابات تعكس كثيراً من التحفظ والحذر في ذلك الخصوص، حيث تم سؤال افراد العينة بسؤال حيادي عن اعتقادهم ان الحكومة يمكن ان تصدر قوانين خاطئة كما تصدر قوانين صحيحة، وجاءت اجابات اكثر من نصف العينة في صف التأكيد علي أن الحكومة لايمكن ان تصدر قوانين خاطئة!! اظهر استطلاع رأي المبحوثين كذلك، ان محل الاقامة والتعليم يلعبان دوراً هاماً في تطوير الاراء الانتقادية لدي الناس الي حد كبير، حيث تبين ان اهل الريف والأميين هم الاقل قدرة علي انتقاد الحكومة فيما تصدره من قوانين (59%، 71% علي الترتيب) وعلي الرغم من ذلك فقد تبين وجود نسبة من اهل الحضر والمتعلمين ايضا، لاتجرؤ علي انتقاد قوانين الحكومة وتري ان الحكومة لايمكن ان تصدر قوانين خاطئة وهنا نجد ان الحذر في الحديث عن الحكومة يُطل برأسه دائماً مهما كانت الظروف المحيطة بالشخص الذي يُدلي برأيه. وعند البحث حول الكيفية التي يفسر بها هؤلاء امكانية خطأ الحكومة في صياغة القوانين، فقد اتضح ان غالبية هؤلاء يتقبلون ذلك الامر علي انه امر طبيعي يرتبط بطبيعة البشر الذين يمكن أن يخطئوا كما يمكن أن يصيبوا، وأكد علي ذلك نحو 24% بينما اشار نحو 7% الي ان السبب في ذلك يرجع لان صياغة القوانين تحكمها الطبيعة البشرية، في حين افاد نحو 6% بان سبب ذلك هو وضعها بشكل مكتبي ودون اخذ رأي الناس فيها. ويؤكد ذلك بالقطع علي أن الإنسان المصري يبدو متسامحاً فيما يتصل بالخطأ. حيث يحيله عادة الي أسباب متعالية، مما قد يغري بتطوير الافتراض القائل بان الشخصية المصرية "شخصية تبريريه" فالدافعية التبريرية تجعل الشخص المصري اكثر إصرارا علي ارجاع اسباب الخطأ في القوانين الي الخطأ البشري الأمر الذي لايرتبط فق بتبرير اخطاء الحكومة، وإنما قد يمتد كذلك الي تبرير أخطاء الفرد نفسه، ويظهر ذلك التبرير بصورة أوضح عند تبرير أفعال وسلوك الاشخاص الاقوياء (تبرير السلوك القانوني للحكومة) فالحكومة كيان اكبر واقوي يتعالي علي الافراد جميعاً، ويشكل سلطة يجب طاعتها وايجاد التبرير لسلوكها! ولعل ذلك الميل التبريري، هو الذي يدفع الافراد الي الاعتقاد بان طاعة الحكومة واجبة بغض النظر عن آراءهم فيها، حيث ذهبت النسبة الأكبر من العينة (78%) الي ان طاعة الحكومة واجبة بصرف النظر عن آراء الناس في القوانين، والشئ المثير للانتباه هنا، هو تعاظم هذه النسبة في بعض المحافظات، حيث سجلت حوالي 94% في محافظات مثل المنيا وأسوان والسويس، وكذلك عدم تباين آراء المبحوثين بذلك الخصوص وفقاً لمحل الاقامة او الفئات العمرية او حتي المستويات التعليمية، وربما يمثل ذلك دليلا لايقبل الشك علي ان الانصياع الي السلطة وعدم عصيانها يعتبر اتجاهاً ثابتاً في الشخصية المصرية، وهو ملمح لايتغير الا ببطء شديد. ثمة ملمح هام اخر في ذلك السياق وهو الخاص "بإزدواجية الشخصية المصرية" فقد تطور هذه الشخصية آراءها في اتجاه يختلف تماماً عن سلوكها الفعلي، وقد يظهر ذلك التغيير في الرأي بسرعة، أما التغير في السلوك فإنه يظهر ببطء شديد، وهنا نجد انفسنا في قلب ازدواجية شخصية الانسان المصري، فالشخص قد يطور اتجاهاته الانتقادية نحو كثير من الموضوعات ولكن ذلك لايعد مؤشراً علي انه سيتخذ من تلك الآراء عوناً ومرشداً في تشكيل سلوكه الفعلي، فالشائع ان القول شئ والسلوك الفعلي شئ آخر، وربما يكون مختلفاً تماماً" ويبدو ان علاقة المصري بالدولة، علاقة تساهم في تدعيم هذه الازدواجية واستمرارها ان لم تكن سبباً لها فالقوانين تطاع لا لأنها أداة تنظيمية او شكل من اشكال الضبط الاجتماعي الذي يجب ان يلتزم به الجميع ولكنها تطاع في الاساس لانها صادرة عن سلطة عليا، هي سلطة الدولة، مما يعني ان الدولة هي جهاز رادع يمكن انتقاده احيانا ولكن من الواجب طاعة وتنفيذ اوامرها وذلك بغض النظر عن اقتناع الناس بما تصدره الحكومة من قوانين. فالطاعه هنا نابعة من علاقة سلطة الدولة بالقانون، ومايرتبط بذلك من خوف او مجاراة، وفي ظل تلك الظروف يصبح التناقض بين انتقاد القانون وطاعته منطقياً فالذي يحكم هذا التناقض، هو علاقة بالسلطة تقوم علي الاستسلام والخوف دون الاقتناع او التعاقد، حيث يظهر النقد في صورة لفظية فقط ومن خلف ظهر السلطة. علي أية حال، فقد بينت الاستجابات المتناقضة في علاقة المصري بالحكومة وجود مؤشرين هامين وهما: أولاً: ان المصري يدرك وجود سلطة عليا يجب طاعتها والانصياع لها ايا كانت الظروف، وأن هذه الطاعة "هي عين العقل" طالما انه لايملك ازاءها اي شئ كما ان مفهوم العقل هنا لايعني العقلانية، ولكنه يتضمن قدراً منعدم الحيلة إنه نوع من "المسالمة" فليس من الغريب إذن ان تأتي صفة المسالمة تالية في الترتيب لصفة "العقل" عند استطلاع رأي افراد العينة. ثانياً: ان المصري ينظر الي علاقته بالسلطة علي اساس قيامها علي التعارض في المصلحة، فالمصريون يعتقدون ان الحكومة لايمكن ان تمنحهم حقوقهم بسهولة، وقد تأكد ذلك بتقرير نحو 62% من اجمالي العينة بصحة ذلك، بل ان البعض وصل الي درجة استحالة اخذ حقهم من الحكومة علي الاطلاق!