لعل أهم ما يميز العقل المتطرف هو عجزه عن التعامل مع بيئته بما هي وجود كل ما يحيط به من معطيات تراكمت عبر العصور لا تغريه بالاشتباك معها في علاقة جدلية بهدف تغييرها إلي الأفضل والأجمل، بل تدفعه للانعزال والتقوقع داخل جماعته وتكوين وجود مضاد للوجود الفعلي. ولذلك سيكون من المستحيل علي الجماعة المتطرفة دينيا أو سياسيا عند وصولها إلي السلطة بوسيلة ما، أن تكون مسئولة عن تحقيق أهداف المجتمع أو الأمة أو الأفراد ولو في حدها الأدني لأن هذه الأهداف هي جزء لا يتجزأ من الوجود الواقعي الذي يعجز هو أصلا عن التعامل معه. هو قادر علي قراءة الخرائط ولكنه عاجز عن استيعابها والتعامل معها وخاصة كل ما له صلة بالحدود سواء كانت هذه الحدود مادية مرسومة علي الأرض، أو حدودا معنوية غير مرئية. هو يتعامل فقط مع حزمة أفكار يحددها له ويمليها عليه زعماؤه، أما كل ما وصل إليه البشر من تقاليد وأفكار ومعاهدات واتفاقيات واختراعات ، فهو يتعامل مع الشق الخاص به منها وهو الذي يتفق أو يساعده علي المزيد من إنكار الواقع. هذا هو أحد المفاتيح الهامة لفهم آليات التفكير عند صاحب العقل المتطرف، فعندما يقول المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين: طز في مصر.. وابومصر.. واللي جاب مصر. فهو لا يقصد شتيمة أو إهانة مصر أو المصريين، بل هو يعلن ببساطة استهانته بالحدود المادية والمعنوية، الحدود المرسومة التي تحيط بمصر علي الخريطة، ثم الحدود الأخري المعنوية التي كانت تحتم عدم الاستسلام للغضب إلي الدرجة التي يعلن فيها استهانته بمصر والمصريين، غير أنه في كل ذلك لم يخرج عن منهجه وهو .. أن هذا الوجود، ليس له وجود لذلك هو لا يلزمني بشئ، ولا يلزمني في شئ.. طز فيه.. وطز فيكم.. وطز في كل أفكاركم.. وطز في كل ما وصلتم إليه مما تسمونه مدنية أو حضارة أو ديمقراطية. هي "طز" ليست موجهة لمصر أو لأحد في مصر، بل هي في حقيقتها طز في كل شئ .. إنها هي نفسها طز القديمة التي كانت تميز الفكر الماركسي الأممي، طز في كل شئ ما عدا وحدة الطبقة العاملة في العالم. لا توجد في كل قواميس الأرض كلمة أخري تدل علي الاستهانة بقوانين الواقع مثل تلك الكلمة المبدعة.. طز. السؤال هو: وعندما تصل الجماعة الدينية أو السياسية المتطرفة إلي الحكم عبر الطريق الشرعي وهو صندوق الانتخابات، هل تستطيع التخلي عن " طزيتها"؟ أذكر القارئ أنني منذ أسابيع علي هذه الصفحة أعلنت موقفي بوضوح من وصول جماعة حماس إلي الحكم في فلسطين، وهو أنهم بأصوات الناس أصبحوا الجهة الوحيدة الممثلة للشعب الفلسطيني والجهة الوحيدة أيضا المسئولة عن حاضره ومستقبله. وتقديري أنهم في الحكم لن يكونوا هم أنفسهم حماس المعارضة، فمن المعروف عن المعارض في أي مكان علي الأرض أن من حقه أن يحتفظ بأكبر عدد من الطزات، ينال بها من خصومه الذين في الحكم، ولكن من البديهي أنه عندما يصل إلي الحكم، عليه أن يتخلص فورا من هذه الطزات أو الأطزاز أو الطزازات أو الطزاطيز ( علي علماء اللغة العربية تعريفنا بالكلمة الصحيحة لجمع طز، وهذا لابد أن يقودنا للبحث عن كلمة نصف به الشخص الذي يستهين بالواقع استهانة شديدة، أنا أقترح كلمة " الطزاز" وهو ذلك الشخص الذي يقول طز لكل ما اتفق البشر علي احترامه) أنا فقط أريد أن أنبهك أن طز التي أعلنها المرشد العام في مصر، ليست إلا سلوكا سياسيا وقاعدة سلوكية تصورت خطأ أن جماعة حماس ستتخلي عنها بعد وصولها إلي السلطة، لأننا إذا استسهلنا أن نقول طظ لأي شعب أو لأية اتفاقية فمن المستحيل أن نقول ظز في الشعب الفلسطيني. وعندما نقول لأوروبا وأمريكا طظ فيكم وفي سلام أبوكم.. ثم نتخلي عن طزيتنا عندما نطلب منهم المعونة.. فلابد أن هذا موقف سيعجزون عن تفسيره، البديهي والطبيعي و الأقرب إلي العقل أن نقول لهم.. طز فيكم وفي السلام وفي إسرائيل.. وفي فلوسكم. السيد وزير خارجية حماس أرسل خطابا للسيد كوفي عنان يعلن فيه أن حكومته علي استعداد للعيش في سلام مع جيرانها، وأنا واثق أنه بمجرد وصول هذا إلي كل من يعمل في أقسام الشرق الأوسط فوق الكرة الأرضية قد تم استدعاؤه من بيته علي عجل لدراسة الموقف الجديد الذي يشير إلي تغيير جذري في سياسة حماس ويجدد الأمل في السلام في الشرق الأوسط. بعد ذلك بساعات أوضحت الخارجية الفلسطينية، أن هناك خطأ حدث من الموظف الذي كتب الخطاب علي الآلة الكاتبة، وأن الخطاب لا يعني أن حماس تعترف بوجود إسرائيل. من الصعب تفسير هذا النوع من الأخطاء وخاصة إذا عرفنا أن وزارة الخارجية مشغولة بتحجيب الموظفات العاملات فيها، من المستحيل أن تراجع خطابا مرسلا إلي السيد كوفي عنان بينما أنت منشغل بمشكلة النساء السافرات في وزارتك. في نفس الوقت كان وزير الثقافة يشن حملة علي الراقصات المصريات هناك، ويبدي تخوفه من أن يقتل أحد أفراد شعبنا إحدي الراقصات، إن العداء للراقصات في الشرق الأوسط قديم جدا، وهو عداء كان يمشي جنبا إلي جنب مع الرغبة العارمة في مشاهدتهن، ما أخشاه حقا هو أن ينشغل الوزير بهذه الحكاية عن بقية مشاكل الشعب الفلسطيني. ما الجديد في كل ذلك؟ أنا أزعم أن هناك جديدا.. في اللحظة التي قال فيها وزير الخارجية أنه لا يعني ما يقول وأن خطابه لكوفي عنان يمكن تلخيصه في كلمة واحدة هي طز فيك وفي الأممالمتحدة، في تلك اللحظة يكون التاريخ قد بدأ العد التنازلي لاختفاء التطرف الديني السياسي في المنطقة، وصول حماس إلي الحكم في فلسطين كان الوسيلة الوحيدة التي تكتشف بها الناس أن جماعات الإسلام السياسي عندما تصل إلي الحكم ستعجز عن الحكم بما يلبي احتياجات شعبها، وأنها بارعة فقط في استخدام سلاح الطزات في مواجهة الواقع في فلسطين وفي بقية الكرة الأرضية. العسكريون يعرفون أن هناك نقطة يبدأ فيها الهجوم في الانكسار وهذه هي النقطة الذي يجب أن يبدأ عندها الهجوم المضاد. خطاب وزير الخارجية لكوفي عنان ثم تنصله مما جاء فيه هو بالضبط نقطة الانكسار في هجوم التطرف الديني علي المنطقة العربية. وهي نقطة ليست منفصلة عن نقاط أو مشاهد أخري في المنطقة ففي نفس الفترة تنهار البورصة في السعودية انهيارا مروعا يترتب عليه خراب بيوت عدد كبير من البشر، لكي نكتشف بعد ذلك أن هناك فتاوي دينية صدرت من أصحاب مصلحة يقسمون فيها أسهم الشركات إلي حلال وحرام ومشتبهة. فكانت النتيجة أن سارعت الناس إلي التخلص من الأسهم الحرام لكي ترتفع الأسهم الحلال إلي عنان السماء، المذهل أن الشركة السعودية للأبحاث والنشر التي تصدر أكثر المطبوعات العربية احتراما، تم وضع اسهمها في خانة الحرام. التطرف الديني المقنع هنا يسفر عن وجهه، لقد استغلوا الدين من قبل للحصول علي القوة في مجتمعاتهم، أما الآن فهم يستغلونه علنا وبكل وضوح في الاستيلاء علي الناس وخراب بيوتهم. حتي بسطاء العقول سيفكرون الآن في أن زعماء التطرف لا يعملون لوجه الله ولكن لوجه الفلوس وأنهم علي استعداد للتنكر للشرف الإنساني من أجل الحصول علي هذه الفلوس، وأنهم أيضا علي استعداد للوصول إلي هدفهم مستخدمين الدين مطية لهم. هذا ما كان يعرفه من قبل مفكرو هذه الأمة، وحاولوا بكل الطرق إيضاحه غير أن المهمة كانت شاقة، الآن فقط يعرف البسطاء في الشارع العربي أن بعض الفتاوي الهدف منها هو سرقة أموالهم وخراب بيوتهم. من المؤكد أيضا أن بسطاء الناس سيبدأون الآن في التساؤل ، ماذا في الدين يدفع السنة إلي تعذيب الشيعة وقتلهم، وماذا في الدين يبيح تعذيب السنة وقتلهم..؟ نعم هذه هي نقطة انكسار الهجوم في التطرف الديني السياسي في المنطقة العربية ولكن ذلك سيترك فراغا حقا من الممكن أن يملأه تطرف من نوع آخر، هو تطرف الدولة السلطوية، ولذلك لا مفر وبأقصي جد وحسم، من تقوية الدولة العصرية وحماية حقوق الإنسان وإشاعة الديمقراطية ، ولنجرب عدم الوقوع في فخ منافقة التطرف، فالمتطرف حاد الذكاء ويعرف أننا لن نسمي الأشياء بأسمائها، وبذلك نعجز عن مواجهته..لابد أن نقول للمتطرف.. اسمع نحن نتكلم عنك أنت وعن أفكارك أنت وعن سلوكك أنت.. وليس عن الدين أو عن تعاليم الله.. إسمع.. عندما تقول عن أسهم شركة ما أنها حرام، فلابد أن ينتقل اسمك علي الفور إلي صفحة الحوادث ليس لنقرأ مفاهيمك عن الحلال والحرام ولكن لنقرأ أقوالك أمام النيابة.