في الوقت الذي ينتقل فيه العراق من أزمة لأزمة، يجب علي الرئيس بوش أن يقوم بإنعاش ذاكرته من خلال تذكر ما حدث في لبنان خلال السنوات 1982- 84، وانتهي بانسحاب أمريكي مفاجئ بسبب تصاعد العنف الطائفي هناك. وهناك أوجه شبه بين تجربة الأمريكين في لبنان وتجربتهم الحالية في العراق. في عام 1982 كانت المخاطر الاستراتيجية عالية جداً في الشرق الأوسط، علاوة علي أن الأزمة اللبنانية مثلت تحدياً خطيراً جداً لإدارة ريجان. ففي ذلك العام كان الاتحاد السوفيتي لا يزال موجوداً وكان يقيم علاقة عسكرية وثيقة مع سوريا، كما كان يقوم بنشر قوة بحرية في البحر المتوسط. وفي يونيو 1982 قامت إسرائيل بغزو لبنان مما أدي إلي تفاقم الأزمة. وفي نفس هذا الشهر أيضاً أخذت إيران زمام المبادرة الهجومية في حربها مع العراق وهو ما كان يهدد العراق ودول الخليج. في ذلك الصيف كانت القوات الأمريكية تمثل جزءاً من قوة متعددة الجنسيات تم إرسالها إلي لبنان لتسهيل عملية الإخلاء الآمن لمقاتلي "منظمة التحرير الفلسطينية". وتم ذلك الإخلاء بنجاح وانسحبت قوات "المارينز" إلي سفنها وأبحرت في البحر المتوسط. وبعد ذلك بعدة أسابيع وتحديداً في سبتمبر 1982 عادت هذه القوات إلي بيروت مرة أخري عقب المذبحة التي تعرض لها اللاجئون الفلسطينيون في مخيمي "صبرا وشاتيلا".وكان من المقرر أن تبقي القوة المتعددة الجنسيات في بيروت لفترة تزيد عن العام، حيث كان مطلوباً منها أن تعمل كقوة لبسط الاستقرار في نفس الوقت الذي كان يتم فيه بذل جهود دبلوماسية لإقناع سوريا وإسرائيل بسحب قواتهما من الأراضي اللبنانية. في ذلك الوقت تصاعدت النزاعات الطائفية اللبنانية، ووقعت القوات الأمريكية في مرمي نيران المليشيات الشيعية في غرب بيروت، مما اضطرها للرد ودفعت تلك المليشيات لشن هجمات علي معسكراتها أدت إلي مصرع ما يزيد علي 240 جندياً من جنود "المارينز" مما أدي إلي التعجيل بانسحاب القوات الأمريكية والقوة المتعددة الجنسيات من هناك عام 1984 . من غير المرجح أن تتوافر ظروف مماثلة في العراق تؤدي إلي انسحاب أمريكي مفاجئ من بلاد الرافدين، ولكن في حالة ما إذا وقع هجوم كبير علي القوات الأمريكية وأسفر عن خسائر بشرية فادحة، فإن الأمر المؤكد أن ذلك سيؤدي إلي تفاقم حدة الجدل السياسي الدائر في واشنطن حول العراق. وهناك في الوقت الراهن إدراك متزايد بمدي صعوبة بقاء العراق متماسكاً تحت حكومة واحدة. فالنزاع الدائر حالياً بين الرئيس الكردي جلال طالباني ورئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته إبراهيم الجعفري، إضافة إلي العنف المتصاعد بين السنة والشيعة، وخصوصاً بعد تفجيرات سامراء، لا يبشر بخير بالنسبة للاستقرار السياسي تماماً مثلما كان الأمر في لبنان. وإذا ما تصاعد العنف الطائفي في العراق_ كما حدث في لبنان- فإن الولاياتالمتحدة قد تجد نفسها معرضة لنيران من هذا الطرف أو ذاك وستجد نفسها مضطرة للرد، وفي هذه الحالة، فإن سمعة المهمة الأمريكية في العراق ستضرر، لأن ردها سيرسخ الاتهامات الموجهة إليها بالانحياز لطرف دون آخر في الحرب الأهلية. والمأزق في العراق هو أن الولاياتالمتحدة متورطة فيه بشكل أعمق بكثير مما كانت متورطة في لبنان، وبالتالي فإنها لا تستطيع أن تغادر بين عشية وضحاها. فالولاياتالمتحدة يجب أن تبقي علي الأقل حتي يأتي وقت تقوم فيه الحكومة العراقية بإصدار الأوامر إلي القوات الأمريكية بالمغادرة أو يقوم فيه الكونجرس الأمريكي بقطع التمويل عن العمليات العسكرية. وكلا الأمرين غير مرجحين. ولكن إذا ما تم جر القوات الأمريكية للقتال بين الطوائف المتحاربة، فإن التحدي الذي سيواجه هذه القوات هو كيفية الانسحاب من المنطقة دون أن يؤدي ذلك إلي فوضي عارمة أو إلي كارثة.