في الوقت الذي يجري فيه بالدانمارك حالياً الترتيب والإعداد للبدء في حوارات و"مفاوضات" فض الاشتباك وذلك بهدف تبادل وجهات النظر للتقريب بين الثقافات واقتراح سبل احترام الاديان، الامر الذي يمكن معه "ترسيم الحدود" بين ثقافتي الغرب العلماني والشرق الإسلامي، جاء مقالنا السابق والذي خلصنا فيه الي استنتاج عام مؤداه، أن المجال الثقافي العام الذي يغلف حركة البشر في (الغرب) هو مجال استفزازي عدائي، يسعي عادة للتحقير من شأن الآخر، والاستخفاف بثقافته وأمر هذا شأنه، يستوجب منا أن نسلط عليه الضوء ونضعه في مقدمة اجندة الحوارات الدينية والمفاوضات الثقافية المزمع اجراؤها سواء في الدانمارك أو غيرها من الدول الأوروبية الأخري، لذلك فنحن نثمن ونحترم البيان العام الذي أعلنه فضيلة الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية والداعية الإسلامي ا لأستاذ عمرو خالد بالاشتراك مع علماء ودعاة ومفكرين من مختلف دول العالم، والذي طالبوا فيه بتغيير مناهج التعليم الغربية والتي تتضمن تشويهاً سافراً للإسلام والمسلمين كأحد أهم المطالب والضرورات التي تمكن من احتواء أزمة الرسوم الدانماركية في المدي المتوسط او الطويل. وايضا باعتبار ذلك المطلب، هو أهم ضمانة لعدم تكرار مثل تلك الازمات المؤسفة في المستقبل. قبل الذهاب إلي الدانمارك لخص السيد يعقوب بيترسن مدير المعهد الدانماركي المصري للحوار، بعد اعترافه بأن الرسوم التي نشرتها صحيفة يولاندس بوستن هي بالفعل رسوم مسيئة للمسلمين ليس في الدانمارك وحدها ولكن للمسلمين في أي مكان آخر، لخص وشخص الخلفية الثقافية التي تؤكد علي إهمال الدانمارك للدين الإسلامي ووجود المشاعر المعادية للإسلام فيها بشكل عام كما اشار الي حالة الجدل الثقافي الدائر حاليا هناك بخصوص القضايا ذات الصلة بالإسلام، والذي دفع بالبعض للنظر إلي الإسلام من زاوية شديدة السلبية إلا أنه ذكر في معرض تعقيبه علي الازمة الاخيرة قوله بأن قضايا الاسلام والديانات الاخري ايضا. تعتبر قضايا هامشية تماماً داخل الدانمارك، فلا اهتمام محلي بها، كما أنها خارج اهتمامات الباحثين أو الدارسين!! إلا أنه أشار كذلك إلي عدة اعتبارات ينبغي اخذها في الاعتبار عند اجراء ذلك الحوار منها مثلاً ما يلي: أولا: اعتقاده بأن المعلومات المتاحة هناك عن الاسلام كثيرة ومتوفرة، ولكن المشكلة تكمن حسب اعتقاده في كثرة تلك المعلومات ومحتواها وتباينها، الامر الذي يصعب من تحديد امكانية الوثوق بأي منها. ثانياً: ان هناك ميلا عاما في الدانمارك بالاحساس وكأن العرب والمسلمين لم يتطوروا منذ مجتمع المدينة في عهد الرسول الكريم، وانهما يعيشان في عصر يشبه أوروبا في العصور الوسطي ثالثاً: احساس الدانماركيين بتغير بلادهم من حالة الحب والتسامح والرفاهية الي مجتمع يتحدث المسلمون فيه بشكل غير مسئول وخصوصا من بعض المتطرفين النازحين اليها وبما يحملوه من افكار يمكن ان تقلق وتخيف كثيرين عندهم. رابعاً: ضرورة مناقشة الخطوط الفاصلة بين المبادئ الهامة لكل طرف تجاه الآخر، مثل حرية التعبير، وكذلك الحق في عدم التعرض للإهانة. أردنا من كل ذلك أن نلفت الانظار الي طبائع وافكار وانطباعات ومعتقدات المجتمع الذي نحن بصدد التحاور معه، وقبل ان نذهب لاجراء ذلك الحوار، وخصوصا عندما يجئ ذلك علي لسان المسئول الاول عن الجانب الدانماركي في المعهد الدانماركي المصري للحوار، إن ما نود التأكيد عليه في هذا المجال يتوافق تماماً مع رؤية المفكر الدكتور أحمد كمال أبو المجد، والتي أشار فيها إلي أن أول وأهم ماكشفت عنه هذه الأزمة، هو أن العقل الأوربي الجمعي مازال عاجزاً عن فهم كثير من عناصر الثقافة العربية الإسلامية وثوابتها الكبري، ومكان العقائد الدينية في عقل المسلمين ووجدانهم وحياتهم كلها، لذلك بدا لكثيرين في الغرب ان الغضب قد تجاوز حدوده المعقولة كما ان الفعل الذي امتدت تداعياته فشملت العالمين العربي والاسلامي غير مبرر ولا مفهوم الا انه قد فاتهم ان الصدمة التي تعرضوا لها من خلال رد الفعل العربي والاسلامي والتي اصابت من مارس العدوان وسكت عنه وتأخر طويلاً في الاعتذار (عامداً متعمداً) كان يمكن تلافيها لو أنهم فعلوا ذلك بأمانة وحسن تفهم وإدراك لمشاعر الآخرين وذلك لاحتواء الأزمة في بدايتها وزيادة فرص الإفادة من دروسها. مستويات الحوار ومنطلقاته الثقافية اكدت خبرة السنوات الماضية ان حصاد حوار الثقافات او حوار الحضارات لم يفض الي اي نتائج حاسمة او مفيدة بل ان الذي حدث بالفعل علي ارض الواقع انما يؤكد علي انه لم يزد ابدا عن كونه "حواراً للطرشان" وفي ذلك السياق يقول المفكر الدكتور محمد عمارة بأن الحوار في الرؤية الاسلامية ليس مجرد فضيلة ولكنه فريضة فلا يمكن ان يكون هناك تعارف الا بالحوار، ولا يمكن ان يكون هناك تعايش الا بالحوار ولكن الحوار له شروط فالذي يحدث الان في كل الوان الحوارات التي جرت يوضح انهم لم يدرسوا الاخر ولم يكتشفوا هذه الالغام في ثقافة الاخر، ولهذا فإنهم لايعدون جدول اعمال حقيقيا للحوار معهم، لذلك لم تأت هذه الحوارات طيلة السنوات الماضية بأي نتيجة أو ثمرة حتي الآن) ولهذا فإننا نستطيع القول ونحن بصدد الشروع في اجراء الحوارات الجديدة مع الغرب عموماً والدانمارك خصوصاً، انه ينبغي تكثيف تلك الحوارات وزيادة الاهتمام بالاعداد الجيد لها، كما ينبغي تنويع مستوياتها ايضا، فهناك المستوي الرسمي او الحكومي والذي نتصور ان التركيز سينصب فيه خلال الفترة القادمة علي محاولة مجموعة الدول العربية والاسلامية وكذلك المقربين اليهما لاستصدار قرار او قانون دولي يجرم الاساءة للاديان والانبياء والمقدسات الدينية وذلك علي غرار قانون معاداة السامية وذلك كما جاء في اعلان نداء الدوحة الذي اطلق يوم 25/2 اما بالنسبة للمستوي الثاني، والذي يضم قادة الرأي والفكر ونخب المثقفين في كلا الجانبين فان عليهما ان يخلصا النية وهما بصدد اعداد اجندة الحوار الديني المنتظر بعيداً عن القوالب الجامدة والمقولات او الشعارات "سابقة التجهيز" والتي اثبتت خبرة الازمة الاخيرة عدم جدواها كما ان علي الجانبين معاً ان يبديا المرونة اللازمة لامكانية ازالة التوجس والهواجس والريبة الكامنة في الصدور فاذا كنا نطالب أوروبا والغرب مثلا بالتخلص من الافتراءات والتعصب والموروث الثقافي الغربي الكاره للاسلام وللمسلمين ايضا، فإنه ينبغي ان لايغيب عن بالنا او عن أذهاننا اننا كمسلمين قد قصرنا كثيرا في عرض ديننا بصورة لافتة للنظر. وذلك علي حد قول فضيلة المفتي الدكتور علي جمعة. من الضروري ان ندرك الحساسيات التي فجرتها من قبل ازمة مهاجري الضواحي المسلمين في باريس من قبل. وطبيعة ردة فعلهم الغاضب والساخط والذي امتد لاحراق ذلك العدد الهائل من السيارات العامة والخاصة كما ان علينا ان نحاسب انفسنا فيما يصدر عن سلوكيات بعض هؤلاء المهاجرين وفيما يتعلق بالمستوي الثالث. فهو مستوي مستحدث للحوار. تعتمد فكرته الاساسية علي اجراء حوارات مباشرة بين الشباب المسلم والشباب الغربي عامة والدانماركي خاصة صاحب الدعوة الجديدة لاجراء ذلك الحوار (الذي تمني نجاحه) هو الداعية الاسلامي النشط الاستاذ عمرو خالد، والذي يعتقد بأن فشل الحوارات السابقة، يرجع أساساً لإجرائها داخل الجدران المغلقة كما أنها لم تنزل إلي الشعوب في الشارع، الأمر الذي سيحاول هو عمله حالياً، معتمداً في ذلك علي تحقيق حوار شعبي جيد متبادل له خمس آليات تعريفية محددة وهي: من هو نبينا وما هو ديننا ومفهوم حرية التعبير في الثقافتين الاسلامية والغربية واحترام المقدسات والاتفاق علي مشروعات عملية لترسخ الحوار والتعايش المشترك. لقد تضمن المقال الرائع الاخير لمفكرنا الاسلامي المستنير الدكتور احمد كمال ابو المجد حول الابعاد الثقافية لازمة الاساءة الي بني الاسلام، والذي نشر بالاهرام في يوم 25 فبراير، تحديدا موضوعياً للعجز الحادث في فهم مواقف اطراف الحوار بين الثقافات فهو يشكله الحالي لايخرج عن كونه حوارا لتبادل الكلمات لايترتب عليه مزيد من فهم منطلقات كل ثقافة ولأوليات القيم السائدة بين اتباعها ، وقد وضح سيادته شروطاً خمسة يجب توافرها في الحوار المزمع اجراؤه، وهي شروط ضرورية يمكن عند اعتبارها والأخذ بها، أن يفضي الحوار إلي تبادل للفهم، يمكن ان يمهد بدوره الي التواصل والتعاون المرغوبين، ونظراً لأهمية ذلك الطرح وثقتنا فيه فانا سنعرض سريعاً لتلك الشروط، حتي تكون محط نظر واهتمام كل القراء الأعزاء، وكذلك كل من يهمه الأمر. الشرط الاول: ادراك اطراف الحوار جميعاً ان التعدد والتنوع هو قانون كوني وسنة إلهية الشرط الثاني: الحرص علي الرؤية الموضوعية للذات، وعلي الرؤية الموضوعية الممثلة للآخر الثقافي، بحيث يري كل طرف ذاته علي حقيقتها، لا كما يتمني لها أن تكون. الشرط الثالث: التواضع امام الحق، والانتباه لمفاسد الاستعلاء الثقافي والسياسي. الشرط الثالث: التواضع امام الحق، والانتباه لمفاسد الاستعلاء الثقافي والسياسي. الشرط الرابع: ان يكون الحوار وهدفه تبادل المعرفة بالآخر الثقافي، لا بهدف اخراج احد من ثقافته او إغرائه بإسقاط خصوصيته وثقافته او هويته. الشرط الخامس: أن يتم الحوار في إطار من الاحترام المتبادل. بقي ان نقول ونتساءل هل يمكن أن يحدث كل ذلك؟ الإجابة بالقطع سوف يحملها إلينا القادم من الأيام والأشهر والسنين