لست من المتحمسين لنظرية المؤامرة، لكني في بعض الأحيان لا أستبعدها تماما، وأعتبر أن ما أستشعره في حدث ما من غموض ناتج عن حسن تخطيط أطراف معينة وجدت أن ذلك في صالحها فعملت من أجله بجد ودأب. في أحد المؤتمرات قال مشارك من إسرائيل أن سنة 2005 هي سنة أوروبا بالنسبة لإسرائيل، وكان السبب وراء هذا القرار كما قال وصول العلاقات الإسرائيلية-الأوروبية في ذلك الوقت إلي أسوأ حالاتها. وقد كان واضحا بالفعل خلال الانتفاضة الفلسطينية وبالتحديد في بدايتها أن العرب قد نجحوا علي المستويين الرسمي والشعبي في جذب أوروبا إلي جانبهم. كان التأييد الشعبي الأوروبي بالذات قد وصل إلي مستوي خروج مظاهرات أوروبية تحمل العلم الفلسطيني، وتلبس الكوفية الفلسطينية، وتذهب وفودها إلي مقر عرفات لإعلان مساندتها له، وإلي حائط شارون للتعبير عن الاحتجاج والرفض ضده. وبالفعل انتهت سنة 2005 وقد تحسنت العلاقات بين إسرائيل وأوروبا، وفي المقابل وصلت العلاقة بين العرب والمسلمين من جهة وقطاعات واسعة من الجمهور الأوروبي من جهة أخري إلي الحضيض، خاصة بعد وقوع الأزمة الدنماركية الأخيرة وتوابعها المأساوية المحزنة. لا أريد أن أقول أن إسرائيل قد خططت للوقيعة بين الدنماركيين والعرب وإن كان ذلك ممكنا، ولكن أقول أننا تركنا علاقتنا مع أوروبا بدون مناعة كافية ضد الاختراق وضد الخطأ المحتمل، وتركنا ما بنيناه من صلات يتبخر في لحظات تحت ضغط الأحداث، وأخطاء الإعلام، والحكومة الدنماركية، وشطط رد الفعل في الشارع العربي. ولست هنا في مجال الدفاع عن أوروبا، ولكني أري أننا بعد أحداث تفجير قطارات مدريد وقطارات لندن لم نفعل ما يكفي حتي نحمي العلاقة مع أوروبا من الضعف والاختراق. لقد تُركت العلاقة بدون صيانة، وبدون حماية من شر الأحداث الكبيرة والصغيرة التي تتكرر كل يوم. وأدي ذلك في النهاية إلي تلك النتيجة السلبية التي نواجهها الآن. لقد نتج عن الأزمة الدنماركية ضرر كبير ومتبادل. فكما تضرروا هم معنويا وماديا من المقاطعة التجارية، تضررنا نحن أيضا في مجالات كثيرة مثل السياحة والتجارة والاستثمار. ولعل ما حدث يقودنا إلي ضرورة البحث عن الدروس المستفادة من تلك الأزمة التي تطورت بسرعة إلي حد الصدام. هناك عدد من الدروس يمكن استخلاصها من الأزمة الدنماركية. الدرس الأول هو ضرورة منع البلاء قبل وقوعه، وهو أمر يقع في حدود مسئولية سفارتنا في الخارج والعرب المهاجرين ومدي قدرتهم علي بناء علاقات قوية مع وسائل الإعلام الغربية وقراءة الأحداث القادمة وتداعياتها المحتملة قبل وقوعها بفترة كافية. وعلي سبيل المثال نجحت الدبلوماسية المصرية مؤخرا - طبقا لصحف الثلاثاء الماضي- في عمل تحرك استباقي لمنع محاولة جديدة لنشر رسوم مسيئة للرسول محمد صلي الله عليه وسلم في إحدي الصحف السويدية. ونتيجة لهذا التحرك المصري والعربي الواعي سارعت السلطات السويدية بإغلاق موقع الصحيفة علي الإنترنت والتي كانت الصحيفة تنوي نشر الصور من خلاله. والدرس الثاني يتلخص في أهمية عدم الانسياق في اتجاه تصعيد الأزمة إذا لم ننجح في منعها من البداية. لقد تصرف رئيس وزراء الدنمارك بعدم لياقة ومسئولية عندما قرر رفض مقابلة السفراء العرب، ثم محاولته تكييف ما حدث علي أنه "حرية تعبير" بصرف النظر عما قد يصيب العرب والمسلمين من جرائه. وأيضا عندما نفض يديه من إدارة الأزمة وتركها في يد قوي متصارعة استغلها المتطرفون علي الجانبين في صب الزيت علي النار حتي تظل مشتعلة لأطول فترة ممكنة. لقد كان هناك من حرص علي عدم قبول الاعتذار، أو حرض علي توقيع صنوف إضافية من العقاب مع دولة لم يكن بيننا وبينها عداوة قديمة من قبل، وغاب عنا الوعي بأن الحكومة الحالية في الدنمارك ذات اتجاه محافظ ويجب ألا تتجه خصومتنا إلي كل الشعب الدنماركي وإلي كل أحزابه وقواه السياسية. وليس معني ذلك أن نسكت علي الإهانة أو المساس بالمقدسات ولكن المقصود أن نكون دائما مدركين بألا تتأثر مصالحنا الدائمة بعوارض مؤقتة، وألا نترك عجلة القيادة في يد جماهير الشارع، بل يجب أن نقود الشارع في اتجاه نهاية مقبولة تسمح بعودة العلاقات إلي طبيعتها بعد أن تكون كل الأطراف قد وعت دروس الأزمة. لقد أخطأ الاتحاد الأوروبي عندما ذهب في اتجاه التصعيد، وعندما قرر الوقوف في جانب الدنمارك بوصفها عضوا فيه، وهو تصرف يصلح في حالة حرب مشتعلة وليس في أمر ناتج عن سوء تصرف وفهم بين طرفين. لقد كان علي الاتحاد الأوروبي بذل الجهد في الدعوة إلي التهدئة وليس المناداة بالاستقطاب والاستعداد لعقاب هذا الطرف أو ذاك. الدرس الثالث يخص الدنمارك بأكثر مما يخصنا نحن وهو متصل بعلاقات القوي والمصالح. لقد رفض رئيس وزراء الدنمارك مقابلة سفراء الدول الإسلامية لأنه كان يحمل في داخله استهانة بهم وبدولهم وقد ظن أنهم ليسوا قادرين علي فعل شئ وأن علاقات القوة والمصالح في جانبه تماما. وربما كان وراء شططنا نحن في معالجة مثل هذه الأزمات شعور كامن غير مبرر بالضعف تجاه العالم الغربي، ورغبتنا دائما في إثبات أننا نستطيع أن ننال منه كما ينال هو منا. قد يبدو العالم الإسلامي علي السطح مفككا ضعيفا لكن التاريخ القريب أثبت أن داخله قوة مادية وبشرية وروحية هائلة رشحته لأن يصبح محورا أساسيا للعلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة. المسلمون وليس الغرب هم من أنهوا الحرب الباردة لصالح الغرب بعد انتصارهم علي الاتحاد السوفييتي في أفغانستان ونجاحهم في دفعه إلي سحب جيوشه منها. لقد انتهت الحرب الباردة نتيجة تحالف غربي-إسلامي ولم يكن لحلف الأطلنطي دور يحسب له في ذلك. ولعلها كانت فرصة ضائعة أن نهاية الحرب الباردة لم تؤد إلي مشروع إسلامي-غربي لإعادة تشكيل العالم، بل تكرر نفس الانقسام الذي حدث بين الاتحاد السوفييتي والغرب برغم اشتراكهما معا في الانتصار علي ألمانيا النازية. العالم الإسلامي ليس ضعيفا، فقد وصل أشراره إلي أبراج نيويورك وسووا بها الأرض، وهم يقودون الآن حربا في أفغانستان والعراق ضد الوجود الغربي، وتمتلك دوله ثروات طبيعية هائلة، وليس هناك من داع إذن عند كل أزمة أن يكون رد فعلنا مبنيا علي شعور بالدونية، أو يكون تصرف الدول الغربية مبنيا علي شعور بقوة مطلقة لم يثبت واقع الحال وجودها حتي الآن.