شكلت "الديمقراطية في الشرق الأوسط" موضوع مؤتمر دولي نظمته، خلال الآونة الأخيرة، جامعة "تافتس" في ولاية ماساتشويتس الأمريكية، وشاركت فيه ثلة من الخبراء الأمريكيين والعرب المتخصصين في قضايا الشرق الأوسط، والذين جاءوا لتقديم تحليلاتهم وآرائهم حول الوضع الراهن في هذه المنطقة من العالم. وفي اليوم الذي افتتح فيه المؤتمر الذي استمرت فعالياته علي مدي يومين، بدأت أولي التقارير الإخبارية القادمة من المنطقة في الوصول، والتي تفيد بفوز حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بأغلبية المقاعد في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية. وعلي غرار الجميع، أصيب الخبراء المجتمعون بالدهشة بالنظر إلي عدد الأصوات التي حصلت عليها حركة "حماس"، ولكن سرعان ما تجاوز المشاركون الصدمة وخاضوا في مناقشة اتسمت بالحدة حول تداعيات هذا الفوز بالنسبة للشرق الأوسط والولايات المتحدة. لا شك في أن الانتصار الكبير الذي حققته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الانتخابات التشريعية الفلسطينية أحدث "انقلاباً ديمقراطياً" علي مستوي الشعب والسلطة معاً، وبالإضافة إلي الدوي السياسي الهائل الذي أحدثته في الأوساط العربية والعالمية، فإن النتائج المعلنة تؤهل "حماس" منفردة لتشكيل الحكومة المقبلة في فلسطين. لكن المدلول السياسي لهذا الانتصار الذي وصف بأنه "تسونامي ديمقراطي" علي الساحة الفلسطينية، يرتدي أبعاداً كبيرة علي المستويين العربي والدولي. فبعد الهزائم المتكررة التي مني بها "الفكر الثوري" العربي منذ عام 1967 حيث تم اعتماد سياسة المساومات والصفقات المنفردة مع "إسرائيل" والولايات المتحدة. بات الاحتكام إلي القواعد الشعبية مسألة حيوية بالنسبة لقوي التغيير الحقيقي. ففساد القوي المسيطرة، وترهل أحزاب السلطة والمعارضة معا علي امتداد الوطن العربي، ألقي عبء التغيير علي القوي الشعبية التي لم تتلوث بممارسة السلطة وما أسماه الرئيس سليم الحص "ثقافة الفساد والإفساد". وذلك يتطلب التبصر ملياً بالمهمات المطروحة أمام الشعوب العربية، ومنها الشعب الفلسطيني، وعلي مختلف الصعد. أولا: حماية الانتصار الكبير الذي حققه الشعب الفلسطيني عبر انتخابات ديمقراطية وشفافة، اعترفت بها جميع أجهزة الرقابة، بما فيها الأمريكية والأوروبية و"الإسرائيلية". فقد كان الجميع بحاجة ماسة إلي معرفة التوجهات الحقيقية للشعب الفلسطيني، وذلك بهدف التعاطي معها، بصورة سلبية أو إيجابية. وأثبت الشعب الفلسطيني أنه قادر علي ممارسة الديمقراطية من دون أي تدخل من الخارج. وبعد هذا الانتصار الكبير للمسار الديمقراطي، عليه أن يثبت قدرة المنتصرين علي إدارة الحوار بين الفلسطينيين أولا، تمهيدا للحوار مع الأشقاء، والأصدقاء، والأعداء التاريخيين. وهذا ما أكده خالد مشعل، زعيم "حماس"، بثقة حين قال: "يخطيء من يراهن علي فشلنا. فقد نجحت "حماس" في المقاومة وستنجح في السياسة والاصلاح والتغيير". وأعرب عن استعداد "حماس" لتوحيد السلاح الفلسطيني وفق مخطط توافق عليه جميع القوي الفلسطينية، وتشكيل جيش موحد لاسترداد الحقوق الفلسطينية المشروعة. ثانياً: تدرك حماس جيداً أن الضغوط الصهيونية والأمريكية وحتي العربية ستزداد علي الشعب الفلسطيني لإفشال "حماس" ومنعها من تثمير الانتصار الديمقراطي الذي حققته في الانتخابات. ثالثاً: هناك شكوي دائمة ومزمنة لدي الفلسطينيين من سوء إدارة السلطة الفلسطينية، وسرقة وتبديد المال العام، وكثرة التنازلات التي قدمت مجاناً ل "إسرائيل". فشكلت نتائج الاستفتاء الأخير صفعة قوية وجهها الشعب الفلسطيني لتلك السياسة، وإسقاط الرهانات التي تري بأن الشعب الفلسطيني منهك، أو أنه مل النضال ويريد الصلح مع "إسرائيل"، وبأي ثمن. لكن علي حماس تحصين الانتصار، ومنع الفوضي والصراعات الداخلية التي تضيع الفرصة لتأسيس مسار ديمقراطي حقيقي عن طريق الاحتكام إلي صناديق الاقتراع وليس إلي فوضي السلاح والاستعراضات الفارغة. رابعاً: حركة "فتح" هي الخاسر الأكبر في هذا الاختبار الديمقراطي. فقد بدأت كثورة حقيقية استمالت إليها كتلة كبيرة من الشعب الفلسطيني قبل أن تتحول إلي سلطة تحمل كل أمراض السلطات العربية من بيروقراطية، وترهل، وصفقات، ومساومات، وفساد وإفساد. ولعل أحد أبرز السلبيات التي أدت إلي فشل "فتح" في هذا الاستفتاء الشعبي أنها كانت تتصرف كسلطة قبل أن تنتصر الثورة وتحقق أهدافها التامة في تحرير أرض فلسطين، وعودة اللاجئين إلي ديارهم. وقد مارس بعض قادتها نوعاً من التسلط في عمّان، وتونس، وبيروت. وقدموا نماذج سلبية للغاية عبر إبراز مظاهر الفساد، وجمع الثروة، وسلوك البذخ وحياة الترف، والابتعاد عن صورة المناضل الحقيقي، والنهج الثوري الذي يكسب صاحبه والحركة التي ينتمي إليها احترام شعبه أولاً قبل أن ينال احترام أحرار العالم ومناضليه. خامساً: لقد انقلبت الآن الأدوار بصورة جذرية. فباتت حركة "حماس" في موقع السلطة، وحركة "فتح" في موقع المعارضة. وذلك يطرح تساؤلات كثيرة حول قدرة "فتح" علي تجديد نفسها بعد الزلزال الذي أصاب فكرها، ومؤسساتها، وقياداتها. واعترف بعض قادتها علنا بأن ابتعادها عن جمهورها، وغياب قيادتها التاريخية التي تمثلت بالرئيس الراحل ياسر عرفات، ونفور جيل الشباب الفلسطيني من ممارسة قادتها التاريخيين الذين أصابهم الترهل علي مختلف الصعد، لعبت مجتمعة الدور الأساسي في تراجعها المستمر. فاستفادت "حماس" من ذلك التراجع أكثر من باقي الفصائل الفلسطينية الأخري التي تشكو أيضا من الأمراض التي فتكت بحركة "فتح". إن الانتصار الذي حققته "حماس" كان كبيراً فعلاً. إلا أنه يبقي جزئياً ما لم يتم احتضانه فلسطينياً، وعربياً ودولياً. وإذا كان من غير المقبول التقليل من أهمية ذلك الانتصار، لا يجوز أيضا تضخيمه، أو المبالغة في مفاعيله المستقبلية. فقد أعلن بعض قادة حماس عزمهم علي "دفن أوسلو، إلا أن الحركة لا تريد إزالة "إسرائيل" فوراً". ورأي قائدها أن "من مصلحة الجميع ركوب القطار الذي تقوده "حماس". فقد نجحنا في المقاومة وسننجح في الاصلاح والتغيير". ختاماً، إن "الانقلاب الديمقراطي" الذي أحدثته "حماس" يمكن أن يفسح المجال أمام المزيد من ممارسة الديمقراطية في أكثر من بلد عربي. ومن أول واجبات القوي المنتصرة أن تعزز من حضور الديمقراطية في الفكر الفلسطيني وفي الفكر السياسي العربي المعاصر، وفي المحافل الدولية. فهناك قوي عربية محدودة جداً تتبني شعارات الثورة المسلحة دون أفق ديمقراطي واجتماعي. وما حصول "حماس" علي هذا التفويض الديمقراطي الساحق لقيادة المشروع الوطني الفلسطيني سوي مؤشر جديد علي أهمية ممارسة الديمقراطية السليمة في الوطن العربي.