كنا صبية نلهو ونمرح بعد الخروج من كتاب سيدنا الشيخ حيث نتعلم احرف الكلمات ونحفظ قصاري السور من القرآن الكريم وكان زوار الشيخ يتحدثون عن ثورة الجيش ضد الملكية المستبدة.. سمعناهم يتحدثون عن محمد نجيب وجمال عبدالناصر وانور السادات وعبدالحكيم عامر وعبداللطيف بغدادي وزكريا وخالد محيي الدين وصلاح وجمال سالم وكمال الدين حسين وحسين الشافعي وحسن ابراهيم وغيرهم من ضباط الثورة الاحرار.. كانوا يفردون الصحيفة الوحيدة في القرية التي يشتريها الحاج تركي ابراهيم تاجر القطن بينما يتحلق الناس محمد افندي غيضان ناظر المدرسة وهو يقرأ لهم ما في الصحيفة من اخبار الثورة الوليدة ويوم رحيل الملك كان الحشد في غبطة وسرور.. ومن خلال الراديو الوحيد في القرية الذي يضعه محمد بيومي فوق رف مرتفع في دكان حياكة الملابس كنا نتراقص فرحا بينما كان الموسيقار محمد عبدالوهاب يشدو .بطل الثورة. وكنا نحفظ عن ظهر قلب مبادئ الثورة الستة.. سمعنا عبدالناصر يهتف بالمستضعفين .ارفع رأسك يا أخي فقد مضي عهد الاستبداد... رحنا نكتب الرسائل الي القاهرة طالبين بصورة عبدالناصر الذي ملك قلوبنا ونظل ننتظر ساعي البريد تحت شجرة .الشمام الاصفر. عند دوار الوسية حيث صندوق البريد في حائط المبني وما ان نلمح ساعي البريد يركب دراجته قادما من قرية نشرت المجاورة لقريتنا ميت الديبة بكفر الشيخ حتي نلتف حوله.. كاد قلبي الصغير يقفز من صدري وانا اتسلم خطاب رئاسة الجمهورية مرفقا به صورة ملونة بالزي العسكري لزعيم الثورة جمال عبدالناصر شعاع عينيه كان ومازال يحتويني حين حدث العدوان الثلاثي في 29 اكتوبر 1956 بعد تأميم القناة انقبضت قلوبنا خوفا علي جمال.. تمنينا ونحن تلاميذ صغار ان نسافر الي بورسعيد لنحارب جنود العدوان الذين كانوا ينزلون بالبراشوت.. كانت اخبار المقاومة الشعبية تلهب المشاعر وذات ظهيرة جاءنا صوت الزعيم الحبيب يخطب علي منبر الازهر .ايها الاخو المواطنون.. لقد فرض علينا القتال وها أنا اعلنها من هنا اننا سنقاتل.. سنقاتل ولن نستسلم ابدا... اندحرت قوي العدوان بعد الانذار الروسي.. وظللت اتمني ان اري جمالا ولو لمرة واحدة..وتصادف ان كنت في الاسكندرية.. وعرفت ان موكبه سوف يمر من هنا.. وقفت طويلا مع حشود المحبين في شارع ليس به موطئ قدم.. وفي لحظة تاريخية رأيته في سيارة مكشوفة وبجواره الرئيس العراقي عبدالسلام عارف.. راح قلبي يدق في عنف وتغمرني قشعريرة حتي النخاع.. ها هو ينظر نحونا.. ها هو الشعاع الاسطوري يغمرني.. كنت اصرخ.. رباه هذا هو مينا موحد القطرين.. انه احمس انه حبيب الشعب وحبيبي.. هذا هو صاحب الفضل في التحاقي بالمدرسة ثورته هي التي حولت اهل قريتي من مجرد اجراء في اراضي الوسية الي ملاك لأراضي الاصلاح الزراعي تعلو هاماتهم تطال السحب البيضاء هاهم يتملكون الارض التي مات فيها آباؤهم واجدادهم لايجدون كسرة خبز.. ها هو الذي بني المدرسة والجمعية الزراعية والمستشفي.. هؤلاء هم عبيد الامس وقد صاروا احرارا. كنت في بداية الشباب معلما انخرط في منظمة الشباب مبهورا بقادة المنظمة د.مفيد شهاب د.حسين كامل بهاء الدين وحشد هائل من ذوي الفكر المنفرد حين حدثت نكسة 1967 وكان قبلها يأتينا صوت المذيع الثائر احمد سعيد يبشرنا بسقوط عشرات من طائرات العدو بل واننا علي ابواب تل ابيب.. ثم افقنا وليتنا لم نفق.. انتظرنا خطابا مهما لزعيم الثورة امام التلفاز في مركز الشباب.. بدا وجه الحبيب وقد شاخت ملامحه يعلن مسئوليته ويعلن التنحي.. صرخ الحاضرون ركبنا سيارة نقل كبيرة الي القاهرة التي كانت تموج بالبشر ولم نعد الي قريتنا الا بعد عودته.. كانت ام كلثوم تفوح .قم واسمعها من اعماقي فأنا الشعب.. ابق فأنت الامل الباقي للشعب. اعدنا بناء المنظمة ورحنا نقيم معسكرات ردم المستنقعات والبرك وحملات التبرع بالدم وفرق مقاومة دودة القطن وتعلم الاسعافات حيث رفع شعار .ما اخذ بالقوة.. لايسترد بغير القوة. .ولاصوت يعلو فوق صوت المعركة... في دأب ومثابرة راح الزعيم ومعه كوكبة من العاشقين لتراب مصر يعيد بناء القوات المسلحة استعدادا ليوم الثأر.. في احدي القواعد العسكرية الجوية صافح الزعيم صقرا جويا يعرفه هاتفا به .انت هنا يامبارك.. نعم ياحبة القلب ونور العين.. انه هنا.. يقود سفينة الوطن الذي اعطيته عمرك وسط الانواء.. يقودها واعداء الامس يتربصون بعد ان اذاقهم وبال امرهم.. انه هنا ونحن معه نرفع عن مصر كيد الكائدين لتظل ارض الكنانة امنا وسلاما رغم الأعاصير.. انه هنا ينحاز للمنكسرين ويذود عنهم حصار المتكبرين الذين يظنون ان الله غافل عما يعمل الظالمون.. انه هنا رمزاً للوطنية الصادقة وقد اعطانا عمره نبادله حبا بحب لأننا نعلم سريرته وصبره الجميل.