يثور التساؤل هل يسعى الخليفة الموهوم أبو بكر البغدادي وتنظيمه لتأسيس دولة .. وعلي أي صورة ووفق أي مفردات وأسس يشيد هذا الشيطان وحزبه دولتهم المأمولة ؟ البعض يميل إلي رفض فكرة اتجاه داعش إلي تأسيس دولة .. ويكتفي أنصار هذا التوجه بالتعاطي الحاد العاطفي مع ظاهرة داعش وفق منطق الذم والقدح والفضح .. ويتناول أنصار هذا التوجه ظاهرة داعش بلغة أدبية تنظر إلي هؤلاء الشرذمة من شذاذ البشر من زاوية عدائهم وتكفيرهم للآخر .. فالعدو دوماً عندهم هو الذي لا يتدعشن .. ويحصر هذا الرأي الدواعش في كونهم جماعة إقصائية بل إلغائية تتميز بطابع الهمجية والوحشية تناصب المسلمين والمسيحيين بل كل بني البشر مُر العداء .. مشروعهم الوحيد هو الذبح والقتل والفتك والإعدام بأبشع الطرق والأساليب التي مرت في كل تاريخ البشرية .. واتجاه أخر يتسم بالعمق ويجيد قراءة مفردات التاريخ فينظر إلي داعش بمحتواها السياسي العميق .. ويصل إلي قناعة أن ما يسعى إليه الدواعش له أبعاد لا تقف أو تكتفي بحدود الإرهاب العبثي المتطرف . هذا التفكير المتعقل الذي يتجاوز عدمية داعش يستوعب سريعاً أن هؤلاء الأبالسة يمارسون القتل لا حباً بالقتل بل كمنهجاً ووسيلة للوصول إلي أهداف مرسومة بدقة لها مفرداتها وأبعادها .. إذاً داعش تثبت وفق هذا الرأي الذي أميل له أنها ذاهبة فعلاً باتجاه إقامة دولة .. فجهاديتها لها طابع خاص .. ليست جهادية عبثية .. بل جهادية منهجية مؤسسة بكل جدية لدولة . دليل ذلك أن كل الخطوات العسكرية والتنظيمية التي تقوم بها دولة الشيطان وما يصاحبها من صخب إعلامي مرسوم بدقة وحرفية .. فنلاحظ أنهم لم يحاولوا الاصطدام مع الغرب . وهم بذلك مختلفون تماماً مع النسق الجهادي التقليدي الذي تمثله القاعدة .. والتي كانت تري بأن سحق العدو القريب المتمثل في الأنظمة السياسية العربية الكافرة برأيهم يتطلب سحق العدو البعيد الحامي لهذه الأنظمة وتعني بها الغرب الصليبي .. في حين أن نسق داعش المختلف معهم اختار أن تكون مواجهته مع الأنظمة العربية مباشرة للإطاحة بها وإقامة دولتهم المزعومة علي أنقاضها . وعدم التورط في إعلان مقاتلتهم لأمريكا والغرب . وقد خدمت ثورات الربيع العربي المنهج الذي اعتمده الخوارج الجدد .. فبالمقارنة بين فترة بزوغ القاعدة التي جاءت نشأتها في ظل نظام عربي متين ومتماسك بصورة صلبة إلي حد بعيد ، في حين جاءت داعش في آتون ربيع عربي لم يترك نظاماً قوياً متماسكاً لدولة عربياً ، فصارت السمة الغالبة هي التقاتل العشائري والطائفي والمذهبي والعرقي .. ففي زمن الخراب العربي إنساحت الحدود العربية وخارت القوي وتفسخت لتفسح المجال أمام داعش لتشييد دعائم دولتها المولودة من رحم الشيطان . ومن المؤشرات التي تقطع بتوجه داعش نحو بناء دولة نهجها النهج الواقعي البرجماتي الذي اعتمدته منذ نشأتها وحتى وقتنا الحاضر ..وتتجلي هذه الواقعية في أكثر من رسالة واضحة لمن يهمه الأمر .. فشدة الوطأة التي اعتمدها الدواعش بحق الشيعة العراقيين خصوصاً ، والمسلمين عموماً ، وخلو خطابهم تماماً من ادني مفردات التهديد ضد إسرائيل .. ورغم أن ذلك المنهج عرض داعش لنكير شديد من المناهضين لدولتهم بمختلف اتجاهاتهم علي امتداد العالم العربي والإسلامي إلا أن داعش لم يدر أذنه لمثل هذه الانتقادات ، بل تمادي الدواعش في الإعلان عن رغبتهم في قتال حماس المرتدة بوصفهم ، وهو الأمر الذي لم يجرؤ أحد من المختلفين مع حماس وهم كُثر أن يصفها به، والأدهي من ذلك ان داعش ترمي حماس بمنجنيق الكفر في نفس اللحظة التي كانت الآلة الجهنمية الحربية الإسرائيلية تدك قطاع غزة بلا رحمة أو هوادة ... بل بلغت المفارقة ذروتها في اختلاف تعامل الدواعش بين المسلمين سواء السنة منهم والشيعة وبين المسيحيين في العراق ، فهو في الوقت الذي لا يفكر لبرهة عندما يقتل مسلماً شيعياً في سبايكر أو غيرها ليقينه الُمسبق أنه يشكل خطراً علي مشروعه ولأسباب طائفية معروفة ، أو عندما يقتل مسلماً سنيا في الشام أو تكريت حينما يقف في وجه مشروعهم الإبليسي .. نجده يتمهل ويتريث ويكف آلة القتل عن المسيحيين في الموصل وإن كان لم يتسامح معهم ، وهو أمر له دلالته الجديرة بالتوقف عندها ومناقشتها بتأن وروية . أنها البرجامتية في قمتها فمن يصدق أن داعش الذي يقتل المسلم السني والشيعي وغيرهم ممن هم مسلمون .. هو نفسه الذي يعفي المسيحيين من القتل . ويكتفي داعش بوضع مسيحي الموصل بين خيارات الدخول قسراً في الإسلام أو دفع الجزية أو التهجير من الموصل .. ويبقي خيار القتل هو الوحيد المتاح للمسلمين . هي في حقيقتها المناورة السياسية البرجماتية التي تحمل البغدادي وشرذمته في التسامح مع المسيحيين وطرح خيارات عدة لهم ليست من ضمنها القتل . من وجهة نظر أبالسة داعش أن مسيحي العراق لا يشكلون وزناً يخل بالمشاريع الاستراتيجية .. وان قتلهم غير مجدي لبرنامجهم السياسي شيئاً .. بل سيكون له عواقب مريرة علي دولتهم الوليدة ويخلق لهم أعداء جدد .. ويقيني أن دولتهم لو وطدت أركانها لا سمح الله ستقوم بمبادرة عكسية تطالب مسيحيي الموصل بالعودة لديارهم متذرعة أن تهجيرهم كان بغرض حمايتهم من الصراع الدائر بين الدولة الإسلامية وأعدائها من المسلمين السنة والشيعة . ولن يعوزهم ابتداع الدليل الشرعي لذلك ، لتتجلي البرجماتية في أبهي صورها . وفي المقابل فإن تمهل الغرب في تسديد ضربات موجعة لهذا التنظيم استيعاب منه لكون معركة داعش مع العدو القريب لا البعيد وهو أمر كاف لثني الغرب عن صناعة عدو جديد لنفسه . وتأجيل لصراع سيتاجر الغرب فيه بمكافحته للإرهاب لكنه في وقت أخر لم يحن بعد . ويبقي السؤال أي دولة يريد الدواعش وخليفتهم البغدادي إقامتها ، ونحاول في المقال القادم الإجابة علي هذا السؤال ..