إسكان النواب: إخلاء سبيل المحبوس على ذمة مخالفة البناء حال تقديم طلب التصالح    بكام الفراخ البيضاء اليوم؟.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية السبت 4 مايو 2024    جيش الاحتلال ينشر قناصته على أسطح المنازل في بلدة دير الغصون شمال طولكرم    «مدرب واقعي».. سيد عبد الحفيظ يتغزل في جوميز    تفاصيل التحقيقات مع 5 متهمين بواقعة قتل «طفل شبرا الخيمة»    الداخلية توجه رسالة للأجانب المقيمين في مصر.. ما هي؟    وفاة الإذاعي الكبير أحمد أبو السعود.. شارك في حرب أكتوبر    دراسة جديدة تحذر من تربية القطط.. تؤثر على الصحة العقلية    صحيفة: ترامب وضع خطة لتسوية سلمية للنزاع في أوكرانيا    رسالة من مشرعين ديمقراطيين لبايدن: أدلة على انتهاك إسرائيل للقانون الأمريكي    تستمر يومين.. الأرصاد تحذر من ظاهرة جوية تضرب مصر خلال ساعات    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال أعياد القيامة وشم النسيم    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة الجونة    لو بتحبي رجل من برج الدلو.. اعرفي أفضل طريقة للتعامل معه    مينا مسعود أحد الأبطال.. المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    إسماعيل يوسف: «كولر يستفز كهربا علشان يعمل مشكلة»    المحكمة الجنائية الدولية تحذّر من تهديدات انتقامية ضدها    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الجديد.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم السبت في الصاغة    مالكة عقار واقعة «طفل شبرا الخيمة»: «المتهم استأجر الشقة لمدة عامين» (مستند)    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 4 مايو 2024 في المصانع والأسواق    مصطفى بكري عن اتحاد القبائل العربية: سيؤسس وفق قانون الجمعيات الأهلية    دفنوه بجوار المنزل .. زوجان ينهيان حياة ابنهما في البحيرة    جوميز يكتب نهاية شيكابالا رسميا، وإبراهيم سعيد: بداية الإصلاح والزمالك أفضل بدونه    37 قتيلا و74 مفقودا على الأقل جراء الفيضانات في جنوب البرازيل    العالم يتأهب ل«حرب كبرى».. أمريكا تحذر مواطنيها من عمليات عسكرية| عاجل    صوت النيل وكوكب الشرق الجديد، كيف استقبل الجمهور آمال ماهر في السعودية؟    رشيد مشهراوي ل منى الشاذلي: جئت للإنسان الصح في البلد الصح    معرض أبو ظبي للكتاب.. جناح مصر يعرض مسيرة إبداع يوسف القعيد    وكالة فيتش تغير نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى إيجابية    حسام موافي يوضح خطورة الإمساك وأسبابه.. وطريقة علاجه دون أدوية    برش خرطوش..إصابة 4 من أبناء العمومة بمشاجرة بسوهاج    وفاة الإذاعي أحمد أبو السعود رئيس شبكة الإذاعات الإقليمية الأسبق.. تعرف على موعد تشييع جثمانه    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    سبت النور.. طقوس الاحتفال بآخر أيام أسبوع الآلام    «صلت الفجر وقطعتها».. اعترافات مثيرة لقاتلة عجوز الفيوم من أجل سرقتها    هييجي امتي بقى.. موعد إجازة عيد شم النسيم 2024    حازم خميس يكشف مصير مباراة الأهلي والترجي بعد إيقاف تونس بسبب المنشطات    عرض غريب يظهر لأول مرة.. عامل أمريكي يصاب بفيروس أنفلونزا الطيور من بقرة    تقرير: 26% زيادة في أسعار الطيران السياحي خلال الصيف    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر وتثبت تصنيفها عند -B    وكالة فيتش ترفع نظرتها المستقبلية لمصر إلى إيجابية    توفيق عكاشة: الجلاد وعيسى أصدقائي.. وهذا رأيي في أحمد موسى    عضو «تعليم النواب»: ملف التعليم المفتوح مهم ويتم مناقشته حاليا بمجلس النواب    دينا عمرو: فوز الأهلي بكأس السلة دافع قوي للتتويج بدوري السوبر    أول تعليق من الخطيب على تتويج الأهلي بكأس السلة للسيدات    تعثر أمام هوفنهايم.. لايبزيج يفرط في انتزاع المركز الثالث بالبوندسليجا    «البيطريين» تُطلق قناة جديدة لاطلاع أعضاء النقابة على كافة المستجدات    سلوي طالبة فنون جميلة ببني سويف : أتمني تزيين شوارع وميادين بلدنا    250 مليون دولار .. انشاء أول مصنع لكمبوريسر التكييف في بني سويف    دعاء الفجر مكتوب مستجاب.. 9 أدعية تزيل الهموم وتجلب الخير    دعاء الستر وراحة البال .. اقرأ هذه الأدعية والسور    برلماني: تدشين اتحاد القبائل رسالة للجميع بإصطفاف المصريين خلف القيادة السياسية    أحمد ياسر يكتب: التاريخ السري لحرب المعلومات المُضللة    كندا توقف 3 أشخاص تشتبه في ضلوعهم باغتيال ناشط انفصالي من السيخ    طبيب يكشف سبب الشعور بالرغبة في النوم أثناء العمل.. عادة خاطئة لا تفعلها    أخبار التوك شو| مصر تستقبل وفدًا من حركة حماس لبحث موقف تطورات الهدنة بغزة.. بكري يرد على منتقدي صورة حسام موافي .. عمر كمال بفجر مفاجأة    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضحك وجد وحب في الاحتفال بتسعينيته .. هل ينتمي يوسف الشاروني إلى الاشتراكيين الثوريين ؟!
نشر في المسائية يوم 07 - 11 - 2014

حدوتة الشاروني ..وحواديت كل الأدباء تفقد جدواها ..لأن القاريء انقرض !
كل مشاريعنا الثقافية ..من إصدار كتب وتشييد مكتبات وتنظيم مؤتمرات ..إهدار للمال العام إن لم نبدأ في مشروع قومي لإعادة تخليق القاريء.
الناظر ربيع مفتاح يظهر العين الحمرا لكل من يتجاوز على المنصة ..إلا القوارير !
رؤية أماني فؤاد للشاروني .. الناقد الانطباعي.. تحظى بالقبول .
عزة بدر تستلهم شاعريتها في الاحتفالية من شاعرية الشاروني في كتابه المساء الأخير .
محمد القصبي
لم يكن هذا واردا في خططي ..أن أتحدث عن يوسف الشاروني المناضل الثوري خلال احتفال الأدباء بتسعينيته..
كنت قد أعددت كلمة موجزة ..والإيجاز يعزى إلى أن أكثر من عشرة من أدباء مصر سيتحدثون في تلك الاحتفالية التي تقيمها لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة لكاتبنا الكبير بمناسبة عيد ميلاده التسعين ..وأن مدير الاحتفالية هو الصديق ربيع مفتاح الذي إن كانت شخصيته تتمتع برحابة وسعة صدر الناقد المبدع ..إلا أنه حين يصعد إلى المنصة ليدير ندوة أو مؤتمر يصطحب معه "فلقة " ناظر المدرسة ".. وويل لمن يتجاوز الوقت المحدد..حتى لو كان الكاهن الأعظم جابر آتون الذي كنا نأمل أن يشاركنا تلك الصحبة الجميلة .. إلا أن وكما قيل لنا ثمة ظروفا قاهرة حالت دون حضوره ..وكان هذا حال الدكتور محمد عفيفي الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة ..فإن كان مفتاح قد أظهر شيئا من التسامح مع الناقدتين د. أماني فؤاد ود. عزة بدر ..فهذا حاله أيضا على كل المنصات ..حين تجاوره على المنصة أنا أنثوية مبدعة ومفكرة .. وشعاره المقنع " رفقا بالقوارير"..ورغم أن كلمتي الناقدتين تدفقتا بأنهار الحب لكاتبنا العظيم إلا أنهما لم يحيدا عن الموضوعية ..ورأي د. أماني أن أستاذنا الكبير المحتفى به حين يمسك قلم الناقد يكون نقده انطباعيا..رأي مثل هذا يراه الكثير منا صوابا..
وهذا كان حال كل من تحدثوا في تلك الأمسية الجميلة ..يوسف القعيد ..فؤاد قنديل ..شعبان يوسف ..سعيد الكفراوي .. د.هيثم الحاج ..د. خلف الميري ..محمد قطب ..يعقوب الشاروني ..د. حسين حمودة ..كلماتهم أيضا أنهار حب ..رغم أنها انطوت على رؤى حول مسيرة يوسف الشاروني ..قد نتفق أو نختلف حولها ..لكنها نبعت من اعتقاد صاحبها ..دون أن أدنى محاولة للتزلف أو النفاق ..
وهذا كان حالي حين صعدت إلى المنصة .
..وما تطرقت في كلمتي المعدة سلفا إلى يوسف الشاروني المناضل الثوري!!
وهل هذا جانب في شخصية أستاذي ؟
سؤال لو طرح على كل أدباء مصر وقرائها لأجمعوا على أن الشاروني ولد وعاش بمنأى عن السياسة ..فما شارك يوما في مظاهرة أو اجتماع حاشد لأمر يهم الوطن ..
وهذا ما نوه له الشاعر شعبان يوسف خلال كلمته.. أن الشاروني لم يصطدم بالسياسة ..لأنه كان يحب الهدوء في الحياة، ولم يكن يحب الصدام ..
والكثير من قراء أعمال الشاروني قد ينتهون إلى أنها تخلو من أي عمل.
يمكن تصنيفه بأدب سياسي !
لكن أخاه الكاتب الكبير يعقوب الشاروني يباغت قاعة المجلس الأعلى للثقافة بأن يوسف الشاروني وهو طالب..وما كان قد تجاوز السابعة عشر ..زج به في السجن تسعة أشهر..والسبب أنه شارك مرة في ندوة سياسية !.
أصاب الذهول القاعة ..يوسف الشاروني له في السياسة !!
وفي منتصف أربعينيات القرن الماضي ..عاشت الأسرة حالة من الربع حين ألقت حكومة اسماعيل صدقي القبض على عدد كبير من الكتاب ..حيث خشى أهله أن يكون يوسف من بين المقبوض عليهم !
المناضل الثوري
ماقاله شعبان يوسف و يعقوب الشاروني دفعني أن أجري تعديلا في كلمتي ..لن أحذف منها حرفا ..لكن سأمهد لها بأمر يتعلق بيوسف الشاروني المناضل الثوري ..رغم هلعي من " فلقة الناظر" ربيع مفتاح !
وهذا ما فعلته حين صعدت إلى المنصة .. فعن قصة الحذاء بدأت حديثي .. قصة قصيرة كتبها يوسف الشاروني ونشرها عام 1951 ..القصة تدور حول رجل يرتدي حذاء قديما ..كل فترة يقطع فيذهب إلى الإسكافي لإصلاحه ..تكرر الأمر عدة مرات ..وأخيرا قال له الإسكافي :مفيش فايدة ..لازم جزمة جديدة !
تلك القصة نشرت قبل ثورة يوليو 52 بفترة وجيزة ..وما أراد أن يقوله الشاروني من خلال قصته كان جليا ..البلد ماعدش ينفع فيها الترميم والحبوب المسكنة .. لابد من التغيير الشامل ..وبدا الشاروني بقصته هذه وكأنه يحجز له مكانا في الصفوف الأولى للاشتراكيين الثوريين والفوضويين الذي لايقبلون بأقل من التغيير الجذري ..هذا الذي قلته إن انطوى على شيء من مبالغة الدعابة إلا أنه أيضا لايخلو من روح الحقيقة ..أن المبدع يوسف الشاروني حين يتعلق الأمر بمصير الوطن لايركن للحلول الوسط .!
وعرجت أيضا على قصته الأم والوحش ..وهي قصة قصيرة تدور حول حيوان مفترس حاول التهام طفل ..لكن الأم تصدت له في معركة شرسة وتمكنت من إنقاذ رضيعها .! قصة كتبها قبل حرب أكتوبر ..وبدا الشاروني وكأنه يبشر الأمة عبر صفحات قصته هذه بانتصارها على العدو الإسرائيلي ..وهو ما تحقق بالفعل في حرب أكتوبر المجيدة .
وهما قصتان تبرهنان على أن الشاروني لم يكن يعاني من فوبيا السياسة ..مثلما تبرهن على سبيل المثال رواية " ميرامار" على أن نجيب محفوظ لم يكن منشطرا عن قضايا وطنه السياسية -كما يزعم البعض -حين كشف عوار تنظيم الاتحاد الاشتراكي ..من خلال شخصية سرحان البحيري الفاسدة ..فكون الأديب لايلقي بجسده في المظاهرات الحاشدة ووقفات الاحتجاج ..لايعني أبدا أنه منشطر عن قضايا أمته ..والبرهان قد يكون كامنا في إبداعه ..ولو بصورة رمزية كما هو الحال في قصة الحذاء .. وكما قال أحدهم خلال الأمسية كان الشاروني في كتاباته وحواراته مدافعا قويا عن حرية التعبير ..لكن ربيع مفتاح يعلق مازحا على ماقالته الناقدة د. أماني فؤاد حول قصة الشاروني "ضيق الخلق والمثانة " أن الشاروني كان يرى أن حرية التبول أهم من حرية الإبداع ! لتضج القاعة بالضحك.
حدوتة الشاروني
وغير النضال الثوري ماذا يمكن أن يقال في مسيرة يوسف الشاروني الأدبية والإنسانية ؟
الشاعر شعبان يوسف تحدث عن معركتين أدبيتين خاضهما الشاروني ..الأولى مع الكاتب اللبناني سهيل إدريس عندما انتقد إحدى قصصه الأدبية معتبرا نهايتها غير منطقية، وكان سهيل يشغل حينها رئاسة تحرير مجلة" المساء الأخير" وكان الشاروني يكتب في نفس المجلة، وهو ما يؤكد شجاعته.
المعركة النقدية الثانية خاضها الشاروني مع إحدى مقالات ميخائيل نعيمة بمجلة الآداب الذي كان يكتب في نفس المجلة .
وكان تعقيبي أن الشاروني خاض أيضا عدة معارك أدبية خلال إقامته بسلطنة عمان ..حين شعر بجاذبية شديدة في القصص الشعبي العماني ..فبدأ رحلة التنقيب في ولايات السلطنة عن هذا الموروث الشعبي ويكتب عنه ..ليفاجأ بمقال في جريدة "عمان " كان هذا عناونه "أهل مكة أدرى بشعابها " ..وكاتب المقال شخصية بارزة في المجتمع العماني .. الكاتب ابراهيم الصبحي الذي كان يشغل منصبا وزاريا في ذلك الوقت ..
وبدا من العنوان أن الكاتب يرى أن الشاروني باهتمامه بالموروث الشعبي العماني يقحم نفسه في أمر لادراية له به .. وشعرت من خلال متابعتي لردود الفعل حول مقال الوزير العماني أن البعض - عمانيين ومصريين ومن جنسيات عربية أخرى- لديهم انطباع خاطيء عن دوافع الشاروني ..أنه يكتب عن التراث العماني بدافع منافقة العمانيين ! ..ولأنني أعرفه جيدا ..من واقع الصداقة التي تربطنا..ومن واقع تاريخه الأدبي ..كتبت مقالا في افتتاحية مجلة الأسرة التي كنت أشغل موقع مدير التحرير بها.. كان هذا عنوانه "يوسف الشاروني كما أعرفه" .. وقد أعاد أستاذي نشر المقال في كتابه " الصارخ في البرية" .. و ألححت في مقالي هذا على أن الشاروني وجد في الموروث الشعبي العماني كنزا فبدأ يزيح عنه غبار النسيان.. وأن التراث لدى أي شعب هو في النهاية تراث إنساني ..يحق لأي باحث أيا كانت جنسيته أن يتناوله بالبحث والتدقيق و التحليل والتعليق.
وثمة معارك أخرى وجد الشاروني نفسه مدفوعا إليها مع أدباء عمانيين ..من بينهم الشاعر المعروف سيف الرحبي رئيس تحرير مجلة نزوى ..وأظن أن مرجع تلك المعارك اختلاف الأجيال والأيديولوجيات ..حيث كانت الحداثة الشعرية والأدبية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي تحظى بجاذبية خاصة لدى الأجيال الجديدة من الأدباء العمانيين ..في الوقت الذي كان بعضهم يصنف الشاروني كرمز للأدب التقليدي !
حدوتة الشاروني
وماذا كان لدي مكتوب لأتلوه في الاحتفالية ؟
كلمة ..غمست قلمي في رقرقة علاقتي الانسانية والأدبية بأستاذي لأكتبها ..وهذا مضمونها:
حواراتنا الهاتفية.. شبه يومية ..خلال واحدة من هذه المكالمات ..سألته عن أخباره ..فحدثني عن أربعة كتب جديدة يستعد لإصدارها ..في نهاية المكالمة فاجأني :هناك كتاب أخير سأبدأ العمل فيه قريبا ..عنوانه " توتة ..توتة.. خلصت الحدوتة " .
فهمت ما يرمي إليه ..فقلت له : يا أستاذ يوسف لسه بدري على نهاية الحدوتة !
تسع سنوات مرت على هذه المكالمة .. أصدر الأستاذ خلالها .. الكتب الأربعة وكتب أخرى ربما أربعة أو خمسة .. ليس من بينها " توتة توتة ..خلصت الحدوتة ".
وحدوتة أستاذي لا تتوقف فقط عند حدود مايكتب ..بل أيضا تشمل اكتشاف أصحاب المواهب.. والأخذ بيدهم ..والكتابة عن أعمالهم ..وقد يصل الأمر إلى حد الارتباط بهم .. في علاقات صداقة وطيدة ..كما هو الحال معي ومع آخرين ..
والبداية ..بداية تلك الصحبة الجميلة التي وحدتنا انسانيا وفكريا ..كانت في العاصمة العمانية مسقط في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ..كنت مدير تحرير مجلة الأسرة العمانية ..وكانت تربطني علاقة صداقة بالروائي الراحل عبد الستار خليف الذي كان يعمل صحفيا في جريدة الوطن العمانية .. وفي إحدى زيارته أبلغني صديقي أن الأديب الكبير يوسف الشاروني في عمان ..سألته : زيارة ؟!
أجاب : بل مقيم ..إنه يعمل في شركة تنمية نفط عمان رئيسا لقسم الترجمة.
هاتفه خليف .. وحدثه عني ..فقال له الأستاذ الشاروني : أعرفه ..!
هذا ما أخبرني به صديقي وهو يودع سماعة الهاتف في يدي..
ولم يسمح لي أستاذي أن أمضي بعيدا في الترحيب به ..بل قاطعني قائلا : إسمع يا محمد ..أنا أتابع ماتكتبه في افتتاحية مجلة الأسرة بعنوان نافذة على الحياة ..هي قصص قصيرة مجهضة ..في حاجة إلى شيء من الجهد ..لتأخذ الشكل الأدبي .
أدب ..!! لم يكن هذا في خططي أن أكون أديبا .. فقط صحفيا ..لكن تلك كانت مشيئة أستاذي واستجبت لها ..فأنصت لنصائحه جيدا ..وأبذل جهدي لألتزم بها ..وأتذكر أن أول مجموعة قصصية ..,كانت بعنوان " الرقص على الرأس " نصحني بألا أتعجل في نشرها ..فلم أعمل بنصيحته ..لتصدر مثقلة بكل "سذاجات" ..بل خطايا الخطو الأول ..وكانت درسا قاسيا لي ..فلم أعد أقدم على إصدار أي عمل قبل أن ينال مباركته ..
لكن الأهم من الرفقة الأدبية ..هذا القدر من التوحد الإنساني الذي يربطنا سويا.. على المستويين.. الشخصي والعائلي.
لكنها حدوتة الشاروني مع الكتابة ..ليس هو بطلها الوحيد.. ثمة جندية معلومة ..ساندت ودعمت ..وطاقت بحب.. نضح قلقه الحاد ..خاصة حين يكتب !
أعني ..إلفه النبيل والجميل ..السيدة الفاضلة أم شريف .
و يؤسفني القول .. إن حدوتة الشاروني ..ليس هناك من ينصت إليها ..لأننا مجتمع غير قروء ..القاريء في مصر ..في العالم العربي انقرض ..أو على وشك الانقراض .. ..وهذا مانبه إليه أستاذي.. في استهلاليته الموجعة .. لكتابه " الآذان في مالطة "..ولهذا عنون أحد كتبه ب" الصارخ في البرية"
وحين يختفي المتلقي ..تحديدا متلقي المعرفة المستنيرة .. تفقد حواديت الكتاب جدواها ..ويصبح المجتمع.. نهبا لثقافات الإرهاب والقبح والدجل والشعوذة ..وسمعا وطاعة ..
وفي اعتقادي ..أن وزارة التعليم تتحمل الوزر الأعظم ..حين تختزل الطالب إلى مجرد ذاكرة تحشر بالمعلومات ..ليتقيأها في ورقة الإجابة في امتحان نهاية العام ..فتتصحر في دواخله ملكات التأمل والتفكير والتحليل والاستنباط والتذوق ..
وتخبو شهوة المعرفة .
وهذا نداء من مواطن مصري.. إلى المفكر الكبير الدكتور
جابر عصفور وزير الثقافة ..
إن بناء المجتمع المعرفي المحصن ضد ثقافات الإرهاب والدجل والشعوذة و الفهلوة ..لن يكون بإصدار عشرات الآلاف من الكتب ..وتشييد الآلاف من قصور الثقافة والمكتبات ..وتنظيم عشرات المؤتمرات ..كل هذا قد يبند في خانة "إهدار المال العام " ..إن لم يسبقه ويوازيه مشروع قومي لإعادة تخليق القاريء والمتلقي للمعرفة بشكل عام .
وليت وزارة الثقافة .. تتبنى هذا المشروع .. بالتعاون مع وزارة التعليم .. التي ينبغي أن تتحول من وزارة للتلقين إلى وزارة للمعارف .
حينئذ.. تتضاعف أهمية حدوتة الشاروني ..وتنفتح شهيته أكثر على الكتابة ..تسعين سنة أخرى .
بعدها .. يمكن أن يصدر كتابه الأخير.. توتة ..توتة ..خلصت الحدوتة " انتهت كلمتي ..لكن أخشى أن تفسر بأنها هجوم على وزارة الثقافة ومشاريعها الثقافية ..حيث طلب د. خلف الميري رئيس الإدارة المركزية للشعب واللجان بالمجلس الأعلى للثقافة
التعقيب ..ولم ينجح الناظر الذي كانت قضيته الأولى الوقت.. في إثنائه..تحدث د. الميري عن بروتوكولات وقعها الوزير الدكتور جابر عصفور مع وزارة التربية والتعليم وجهات أخرى كالسياحة بهدف – كما فهمت منه ومما نشر في الصحف عن تلك البروتوكولات- تسهيل وصول المنتج الثقافي إلى القاريء ..
وهل يوجد قاريء ؟ هل لو نسى أحدنا بضعة كتب عن التنويرو تحرير العقل العربي في محطة مترو مثلا ..وعاد بعد ساعة ؟ هل سيجدها ؟ أظن أنه سيجدها ..لأنها ليست مغنما ! ..على النقيض لو نسى هاتفه المحمول ! أما لو عاد ولم يجد الكتب ..فقد يكون التفسير أن عمال النظافة ألقوا بها في صناديق القمامة ..!
القضية لاأراها في ندرةالمنتج الثقافي أو صعوبة وصوله ..بل في متلقي هذا المنتج ..مستهلك الثقافة الجادة والمستنيرة اختفى ..والسبب وزارة التلقين ..! وأي بروتوكول ينبغي أن يتضمن تغييرا ثوريا في المنظومة التعليمية بكل أركانها ..المعلم والمنهج وأسلوب التدريس ..!
ورغم زجر مدير الاحتفالية لي ..إلا أنني تمكنت من عرض مشروع ندوة حول القضية على الدكتور الميري في مبنى دار أخبار اليوم ..فأبدى ترحيبا وقال أنه والدكتور محمد عفيفي سيحرصان على الحضور ..واتفقنا على أن تنظم الندوة يوم الخميس المقبل ..حين هاتفته صباح اليوم التالي أخبرني أن الدكتور عفيفي في الشارقة ..واتفقنا على تأجيل الندوة إلى أن يعود أمين عام المجلس الأعلى ..ونحدد موعدا آخر..وما يحفزني على المضي قدما في تنظيم الندوة ..بل والسعي إلى مزيد من التواصل مع المجلس الأعلى فيما يتعلق بإشكاليات التلقي .. شعوري بأن ثمة روحا جديدة داخل أروقة وزارة الثقافة ..خاصة في المجلس لمواجهة المشاكل الكبرى والمزمنة التي تعاني منها الثقافة في مصر ..وعلى سبيل المثال قضية الترجمة من العبرية ..حيث أحيانا كان ثمة رضوخ لوجهة نظر غير مسئولة تهيمن على مقاهي المثقفين أن الترجمة من العبرية نوع من التطبيع !!!!!
ولاأدري كيف أخوض صراعا مع عدو تاريخي ..ولاأعرف عنه شيئا ..لكن الوزارة تحررت الآن على ما يبدو من فوبيا الترجمة من العبرية ..ولديها خططها في هذا الشأن التي تعكف على تنفيذها .
شعرية عزة بدر
وعودة إلى أزاهير المنصة ومباهجها ..أراني اتوقف كثيرا أمام كلمة د.عزة بدر التي رغم شعريتها العالية لم تتجاوز أبدا الحقيقة .. بدت عزة بدر وهي تتناول شخصية الشاروني وكأنها انتهت لتوها من قراءة كتابه الرائع " المساء الأخير " فتوحدت مع لغته الشعرية لتفيض على هوامشه برؤيتها السامية والنقية من المبالغة .. لتشدو على المنصة بأغنيتها فتشدو قلوبنا معها ..وهذا بعض من مقاطع أغنيتها في أستاذنا الكبير :
مباهج التسعين
أن تصل إلى هذا العالم الواسع .. العميق .. البعيد .. القريب الذى يضمه بين جوانحه يوسف الشارونى تحتاج فقط إلى تسعين عاما من الصبر والدأب والتأمل والمثابرة , وتلك هى رحلة يوسف الشارونى لإبداع حياة عامرة بالمحبة , وبالكتابة , وبعشق الحياة .
يقول عن كتبه الغزيرة التى تجاوزت خمسين كتابا " هى التى تكتبنى " أو يقول :
أكتب غصبا عنى " , ثم يضحك من قلبه .. تلتمع عيناه بالينابيع .. ينابيع الحياة التى تجعله يتصرف بطراز إنسانى صادق , يرتبط بمن حوله , ويتفاعل مع كل مايقرأه
يكتب ويكتب ثم يبتسم فى حكمة من عرف السر , سر الحياة الكائن بين سطور الكون , يتذوق الأيام على مهل , يؤرخ لساعاته بكتاباته , لدقائقها بمقالاته , لثوانيها بأفكار لابد أنها ستكتبه وتملى نفسها عليه ذات يوم .
صنع أسطورته .. تلك الأجنحة التى تحمله كل ليلة إلى عالم من سحر , كل ماشئت فيه حاضر وموجود , يختزن تحت جلده مئات الفراشات التى لاتلبث أن تنتفض دفعة واحدة مذهبة ومفضضة , مكتملة ومنجمة , وتتراص من خلفه عوالم من أفكار , الدنيا نفسها تتحول إلى سطور , تنظر إليه بدهشة وهو يتذوقها على مهل كقطعة سكر لايود ألا تذوب أبدا , إذا رآك متجهما يقول لك : " كانا يسيران تحت المطر فقال أحدهما : كل شىء سيمتلىء بعد قليل بالوحل فقال الآخر : بل ستغتسل الدنيا .. الزهر والشجر " .
فتبتسم وتصدق أن ليس فى الدنيا سوى مطر يلمع وزهر يضوع وشجر يأتلق .
ربما يفاجئك ذات صباح بشريحة كرتونية ملونة تتأملها وتعبر عن دهشتك فيقول لك وقد قصقصها من علبة اللبن ( لبن زيرو ) أى يفوق اللبن الخالى من الدسم خلوا من الدسم , لبن بلا شىء على الإطلاق ثم يقول لك : " حتى تعمر مثلى حتى تعيش أكثر وأطول ".
ربما يطالعك صوته ذات صباح فى رنة هاتف ويقول لك : " من أكتوبر إلى نوفمبر عليك أن تحصل على تطعيم ضد إلإنفلونزا .. أنا افعل ذلك منذ أعوام طويلة هكذا أقول لأحبابى " .
وغالبا ما ستتلقى كتابه المهم " التربية فى علم التغذية " فى مظروف أبيض صغير وفيه خبرته فى الحرص على طعام صحى ونظام غذائى يريد أن يؤهلك به لتحصل على المأمول من الحياة بمجرد أن تقرأ الكتاب .
لقد ارتبط الشارونى بالناس كرفقاء فى مسيرة الحياة فأحبوه , وأسهم بكتاباته فى كل مجال فأثرى الحياة الأدبية والثقافية فكان ساحر القصة القصيرة " لايتبع مذهبا وليس له شبيه , كل قصة له هى خلق جديد " كما يقول عنه علاء الديب .
أثرى حياتنا الأدبية بمجموعاته القصصية الرائدة " الزحام " , و " العشاق الخمسة " , ورسالة إلى امرأة " وغيرها .
كتب الرواية " الغرق " , وكتب النثر الغنائى فى كتابه " المساء الأخير " , وكتب السيرة الذاتية , والدراسات الأدبية والنقدية .
وأجمل ماتميزت به كتاباته أنه قد اعتبرها رحلة فى الزمان والمكان فمن كتبه " رحلتى مع القراءة " , " رحلتى مع الرواية " , " مع القصة القصيرة " , " مع الدراما " , "مع الرواية " , " مع التراث " و " مع الأدباء " .
أما رحلته مع المبدعين فقد كتب عنهم جميعا فلايخلو كتاب من كتبه من دراسة نقدية أو مقالة تأملية فاحتفى بإبداع المرأة فى كتابه " حفيدات شهرزاد " , وكتب عن العديد من المجموعات القصصية تحت عنوان " من جراب الحاوى " , وعن الروايات فى كتابه " قراءات فى روايات " , و" رحيق الإبداع " , حتى سفراته أفرد لها فصولا فى كتبه منها : " سندباد فى عمان " , " ملامح عمانية " , " فى ربوع عمان " , وغيرها من مؤلفات .
يوسف الشارونى يؤكد لنا دائما أن الكتابة هى عطاء دائم , وأن ينابيع الحياة تتدفق بين أيدينا طوال الوقت ولكننا ربما لانفطن إلى مايجرى بين أيدينا من ماء الحياة , ومايتدفق فى عروقنا من عطرها , إن الفرصة التى فى حوزتك تشع الآن وهى أن تعرف يوسف الشارونى وتتأمل رحلة إبداعه وعالمه الواسع .. العميق , البعيد , القريب الذى يضمه بين جوانحه لتتعرف على مباهج التسعين فى التو واللحظة دون أن تنتظر تسعين عاما لتعرف ماالحياة ؟ , ماسرها ؟ فيهمس لك يوسف الشارونى : المحبة , الكتابة , أكتب غصبا عنى , اللبن الزيرو , الينابيع التى تتدفق بين يديك فتعطى منها للآخرين , وعشق الحياة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.