تحت عنوان "قصص قصيرة" افتتح الجمهور معرض الفنان المصري أحمد عبدالكريم والذي حضر من السعودية -حيث مقر عمله- لافتتاح معرضه الجديد بقاعة بيكاسو بالزمالك, وقد حظي هذا المعرض بمشاركة واسعة فنيا وإعلاميا وجماهيريا . أحمد عبد الكريم محيط : رهام محمود لمسنا من خلال المعرض مدى التقدير الذي يكنه عبدالكريم للجمهور ؛ حيث إنه أصر أن جميع الحاضرين هم الذين يفتتحون له المعرض, فهو غير مقتنع بفكرة استضافة فنان بعينه لقص شريط معارضه. يضم المعرض ما يربو من خمسة وأربعين لوحة, رسمهم الفنان جميعا في السعودية, ولكنه مازال محتفظاً بوجدانه المصري. يقول الفنان أنه يعيش في السعودية جسدا, وفي مصر قلبا وروحا, ورأى أن طبيعة المكان المختلفة عن بلاده لا تساعده على الإبداع ، غير أنه لم يستسلم لهذا الشعور وقرر أن يصنع جوا مصريا خالصا بمرسمه بقلب الرياض. يروي الفنان عن مرسمه الذي احتضن أغلب الفنانين المصريين الذين يعيشون هناك, فقد كانوا يجلسون كأنهم على مقهى مصري, يتناولون الشاي والقهوة . كان الفنان ينتظر انتهاء العمل ليذهب إلى صومعته ويمارس إبداعه , كما يحكي عن "قصص صغيرة" دفعته لإبداع هذه اللوحات منها: "افتح يا تليفزيون أخبار - صور - غرق العبارة المصرية - ارتفاع سعر البنزين - حرب لبنان - اغتيال الحريري - فوز الأهلي في اليابان - الزواج العرفي - أبو تريكة - رحيل نجيب محفوظ - إعدام صدام - كفاية - ستنفجر دماغي. اطفي يا تليفزيون" ماذا ارسم اليوم - لماذا ارسم اليوم ارسم دلوقتي - انتظر الوحي - أنام وبعدين ارسم - ارسم ولما أقع من طولي أنام - أنام ولا ارسم ولا أروح فين. أفتح يا تليفزيون من أعمال الفنان أحمد عبد الكريم
أخيرا رحت في النوم وأنا صاحي, وبدأت القصص القصيرة تمر أمام عيني, الواحدة تلو الأخرى حكى الفنان أحدها: استيقظت أفرك عيناي بلذة الناعسين نظرت من شباك مرسمي الكبير فلم أجد "سي نفرو" ذلك الهرم الجميل في مكانه, قفزت في الترعة ولم يهمني شكلي ولا المضمون, وناديت بصوت مجنون أين أنت "يا سينفرو" يا هرمي الجميل لقد جئنا دهشور نسكن رحابك وجمالك في جو الأصيل. تزاحمت أفكاري مرتبكة متزاحمة. أين أنت يا "سي نفرو" يا من يحن قلبي إليه كل حين. وأخذت أجري على أعشاب بحيرة دهشور, وإذا بقهقهة الحمير بصوت نعرة العارفين, ومحبة المهذبين, وأنادي أين أنت يا "سي نفرو". يا من يداعبه القمر راقصا بضوءه ونحن قابعين بين أحضان النخيل, فتعلو هاماتك إلى نجوم الليل في عناق حميم, فتضاء بصيرتي بمعاني العزة, وتاريخ مصر المجيد, فأناجيك هل تسمعني وأنت تائه عني بعيد. وهكذا روى لنا أحمد عبد الكريم "قصصه القصيرة" التي ولدت لديه فكرة المعرض, وجعلته يستلهم روحه المصرية رغم وجوده ببلد أخرى, فكان مصدره الذي استوحى منه أعماله هو: معماريات القاهرة القديمة, والحواديت الشعبية, والنيل والنخيل والإنسان المصري, الريف المصري وبخاصة "دهشور", الاغتراب والمراكب الورق, والفن المصري القديم في مرحلة إخناتون وروحانية المكان والصحراء والنيل. استخدم الفنان ألوانا وتقنيات مختلفة خاصة به لم يبوح عن أسرارها, فقد أدخل الفنان متغيرات اللون والملمس والخط للتعبير عن مدى ما تعبر عنه أحجار وطرقات شوارع القاهرة, مما حقق باللوحة جماليات لها خصوصية التعبير والمفردات. كما اتخذ الحكاوي الشعبية التي كانت مسطورة ومرسومة على جداريات معماريات القاهرة موضوعا , بعد معالجتها وصياغتها بطرق جديدة, فاجتمعت كل من المعماريات وحكاويها مع الرموز الشعبية الأخرى من رجال ونساء وخيول وأسماك بل أدخل الفنان تغيرات تقنية لتجمع اللوحة بين المسطح والمجسم. ثم انتقل عبدالكريم إلى ريف مصر وخاصة منطقة دهشور التي تجمع بين أطراف الخضرة والحقول الممتدة, من شاطيء النيل حتى بدايات الصحراء الغربية, حيث أهرامات دهشور, وامنمحات الثالث, وسنفرو هذه المنطقة التي مازالت تحتفظ بخصوصية المكان والزمان والإنسان حيث تشع روحانية الفن المصري القديم, وقد زاوج ولاحم الفنان بين الرموز المعمارية والنخيلية والنيلية في توافق نتج عنه تقديم أعمالا لها خصوصية الصياغة, والتعبير داخل الحركة التشكيلية المصرية. حينما سافر الفنان إلى إحدى الدول العربية شعر بالاغتراب نفسيا وتاريخيا ومكانيا فاتخذ من المراكب الورقية رموزا تعبر عن حالة اغترابه, ومحاولته الاحتماء بالرسوم والتصاوير التي كان يستشعرها هناك, حتى لا يتم انفصاله عن وطنه, واستمر يبدع هذه الأعمال أربع سنوات. يحاول الفنان العودة والاستقرار منذ عام 1997, فبدأ بعمل الرسوم التحضيرية لإعادة تحفيز ملكات التأمل والملاحظة والمقارنة والدراسة للطبيعة, بالإضافة إلى قراءاته المتخصصة في أسطورة المضامين العقائدية للفن المصري القديم, لوحة لأحمد عبد الكريم وخاصة مرحلة اخناتون والدولة الحديثة, حيث خرج الفنان عن المألوف لعمل مدرسة تشكيلية حديثة. الفنان أحمد عبد الكريم ألوانه ثرية ومتنوعة, فنرى مجموعة من اللوحات يغلب عليها الألوان البرتقالية النارية, تعبر عن الوجوه المستوحاة من المصري قديم, يتخللها خطوطا ورسومات فرعونية محاطة باللوجة بل ومتداخلة معه أيضا, وكذلك تجمع بينها وبين النخلة ورموز الفن الشعبي, وصاغ لوحاته كأنه يحكي أسطورة ممتزجة بروحانية الأماكن, والريف المصري ودهشور. لدى الفنان خيالا متدفقا فقد جعل الإنسان المصري القديم يجلس وتحولت رأسه إلى نخلة كبيرة, وفي بعض اللوحات تحولت إلى سمكة, كما تحولت ساق الشجرة إلى ساقي إنسان, وتعددت المشاهد والأماكن التي يصورها الفنان في لوحاته فمنها: مشهد لكرسيين يثبتان جوار بعضهما رسم علي قاعدتهما قلبان, يخرجان من خلفية ملونة مستوحاة من الطبيعة, فهو يحرك مخيلة المتلقي حيث أنه يشعرنا أن من الممكن أن يكون هذا مشهدا لمرسمه, وينتقل بنا لمشهد آخر عن نفس الكرسي وتجلس علية بطة كأنه يصور الريف المصري برؤية جديدة, كما قسم بعض اللوحات لتجمع مشاهد مختلفة كما كان يفعل المصري القديم في لوحاته, وقد حول أيضا الفنان رؤوس نسائه إلى رأس سمكة. بدت بعض اللوحات غريبة عن باقي مجموعة المعرض, فكان الاختلاف واضح في استخدام اللون والتقنية, بالرغم من اتفاقهما في نفس الموضوع, ولكن الفنان عالج هذه اللوحات بطريقة أخرى. الفنان أحمد عبد الكريم شارك في العديد من المعارض الجماعية داخل مصر وخارجها, كما أقام الكثير من المعارض الفردية داخل مصر وخارجها, وحصل على جوائز عديدة, حاصل على دكتوراة الفلسفة في التربية الفنية, وأستاذ بقسم التصميم بنفس الكلية. وعلى هامش معرض "قصص قصيرة" دار هذا الحوار بينه وبين شبكة الأخبار العربية "محيط": محيط: هل الفنون البصرية تعيش في معزل عن العلوم الإنسانية؟. عبدالكريم: لا .. فمهما كانت عوامل الإغتراب قائمة بينهما, فالفنون البصرية كائن حي يمتد عبر الزمان والمكان, وهذا متجسد في أعمال الفنانين على المستويين الفردي والحضاري. محيط: كيف يثري الفنان تجربته الفنية؟. عبدالكريم: الفنان يعيش بين ضلوعه وأنفاسه ومشاعره وأحاسيسه أحيانا أفكارا مبعثرة, يحاول قدر إمكانه أن يستثمر إمكاناته لاكتساب مزيد من المعرفة , لا بغرض جمع المعلومات, ولكن بهدف إيجاد مداخل ثقافية متنوعة لإثراء تجربته الجمالية. محيط: ماذا يعني مصطلح سيموطيقا الفنون البصرية والتي تميز بها معرضك ؟
عبد الكريم: في حالة من حالات الحراك الثقافي وقع تحت بصري وسمعي مجموعة من الدراسات حول مصطلح "السيموطيقا", من خلال دراسة اعدت وترجمت تحت إشراف "سيزا قاسم" وبعض المؤلفات الأخرى في هذا المجال. لوحة لأحمد عبد الكريم فوجدت هذا المصطلح خاص بعلم "اللسانيات" ومجال الرموز والعلاقات والإشارات, فهذه العلامات ترسم أو تصمم وأيضا توظف جماليا بقصدية من الفنان على سطوح الأعمال الفنية ذات البعدين, أو مجسمة ثلاثية الأبعاد ولابد وأن تحمل بين صياغتها مضمونا فلسفيا أو تعبيريا ذاتيا في إطار جمالي. كما أن هذه الدراسات والبحوث قد تناولت مصطلح "السيموطيقا" وهو علم دراسة العلامات أو هي نسق العلامات ذات الدلالات المعرفية. وقد اتفقت الدراسات على أن المصطلح يشمل مصطلحات أخرى مثل العلامة ، الرمز ، الإشارة والأيقونة. فالعلامة تمثل شيئا آخر تستدعيه بوصفها بديلا له "الدخان علامة النار ". الإشارة هي علامة طبيعية أو صناعية تعمل على إثارة المستقبل "إشارات المرور". الرمز هو إثبات علاقة دائمة في ثقافة ما بين عنصرين "الميزان رمز العدالة". الأيقونة هي التي تدخل في علاقة مشابهة مع الواقع الخارجي, وتظهر نفس خصائص الشيء المشار إليه مثل الصورة الشخصية. طفت الروح المصرية على جميع لوحات المعرض، واستعادت ذاكرة الوطن مشاعر الغربة الدفينة ، فالنخلة ودهشور وروح الفن المصري القديم أبطال معرض "قصص قصيرة" .