كان المفكر الجزائري مالك بن نبي سباقا في تحرير الفكرة من براثن السقوط في فخ الوثن واضعا جملة من الشروط الموضوعية اللازمة لأي إنطلاقة نهضوية، والتي تتعامل مع "الفكرة" بوصفها كائنا حيا تمدد عبر الزمان والمكان، تنطلق في الأفاق تارة لتؤسس إمبراطورية واسعة من حدود الصين شرقا إلى الأطلسي غربا، أوتتجمد في قندهار وجبال تورا بورا تارة أخرى. تأسيسا على الكلام السابق يمكن القول إن الشعب المصري تسيطر عليه منذ قديم الزمن " الفكرة الدينية" منذ أن توحدت أسماء وصفات فراعنة مصر مع الألهة فصار الحاكم ابنا للأله لسان حاله يقول دوما " يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري" .. لذا فإن أي قراءة سياسية أو اجتماعية لا تستعيد دور الفكرة الدينية في العقل الجمعي المصري تبدو قراءة منبتة الصلة عن الواقع. عظمة الفكرة الدينية أنها تتجذر في العقل الجمعي بوصفها نتاجا مقدسا، يصعب المساس به أو تغيره،وهو ما يحافظ على البنية الاجتماعية والثقافية للجتمع في بعض الأحيان خاصة في فتراة الاضمحلال والعجز عن انتاج مكون فكري أو ثقافي يواجه الزحف الاستعماري.. لكن خطورتها أيضا قد تنطلق مما سبق حيث تتسلط الفكرة وتتوحش وتتحول إلى "وثن" يقدسه الناس حتى ولو علا وجه التراب أو بالت عليه القطط والفئران. مع الحديث المتجدد عن أي إنطلاقة نهضوية نريدها لمصر، تتهافت القلوب تارة نحو تركيا، وتارة أخرى متوجهة إلى ماليزيا، ومرة ثالثة تهفو إلى أندونيسيا، وكأن أزمة الأمة المصرية عاجزة عن ولادة الأفكار، رغم أن جوهر الأزمة الحقيقي هو "تحرير الأفكار" مما اعتراها من تراب أو " وثنية" القرن العشرين. عند تشريح كلمة " الوثنية" يظهر للوهلة الأولى أنها في الأساس فكرة دينية ارتبطت بشكل أو بأخر بنبي أو مصلح أو داعية أو ولي، لكن مع مضي الوقت، وبفعل التلوث الفكري تمحورت الفكرة واعادت انتاج نفسها مخرجة مركبا كيميائيا جديدا يتشابه في الشكل مع الأصل المقدس / النقي لكنها بشكل أو بأخر لا تعدو أن تكون فكرة ميتة أو بمعنى أدق فكرة مميتة. الحديث مثلا عن عدم الخروج على الحاكم فكرة دينية مشروعة انتجها العقل المسلم في زمن العدل حيث لم تكن هناك ضرورة للخروح سوى لبث الفتن، أو تفتيت جسد الأمة، لكنها الفكرة نفسها التي تمحورت وأعادت انتاج نفسها لتستقر ثانية عند كهنة المعابد المقدسة في طهران والرياض ومسقط وعمان، وقبلها القاهرة وتونس وفي ذلك ذكرى لمن ألقى السمع وهو شهيد. شحن الناس إلى صناديق الانتخابات دون وعي في " معركة الصناديق" لاى تعدو أن تكون أيضا ضربا من الوثنية، لآنها استبدلت التنافس بين فكرتين بشريتين، إلى صراع أحد طرفيه معلق بروح السماء، والأخر متشبث بالحياة الدنيا.. أليس هذا عين ما فعلته الكنيسة التي حولت صراعها المادي مع الأباطرة الي صراع بين الرب والسلطة الزمنية؟ أخيرا والكلام هنا لمالك بن نبي.. " ومن عظمة القرآن أنه أطلق لفظ الجاهلية على الفترة التي كانت قبل الإسلام مع أنها كانت حافلة بالشعر والأدب".. لكنها سنة الله في خلقه " عندما تغيب الفكرة .. يبزع الصنم".