الاتحاد: عيد تحرير سيناء يحمل ذكريات الفخر والسيادة المصرية على أغلى بقعة من أرضنا    «نقل النواب» تناقش طلبات إحاطة.. ووحيد قرقر يطالب بالجدية في تنفيذ المشروعات    المجلس القومي لحقوق الإنسان: مبادرة حياة كريمة شاهد على إرادة الدولة    الخط الثالث للمترو يعلن مواعيد التشغيل الجديدة بداية من الخميس    «سياحة النواب» تصدر روشتة علاجية للقضاء على سماسرة الحج والعمرة    المستشار القانوني لسوق السمك ببورسعيد: تراجع الأسعار 70% بسبب المقاطعة    تحذير من فيضانات تضرب الصين.. «تحدث مرة في القرن»    رسائل جمهور الأهلي للشناوي وإمام عاشور قبل موقعة دوري أبطال إفريقيا    "ذا صن" تكشف موعد رحيل محمد صلاح عن ليفربول    تصل إلى 41 درجة.. كيف يتجنب طلاب المدارس مخاطر ذروة الموجة الحارة غدا؟    هالة خليل: إقناع منتج بعمل بطولة امرأة صعب.. والإخراج يحتاج لمحارب    «وداعا صلاح السعدني عمدة الفن المصري» بالعدد الجديد من «مسرحنا»    هالة خليل عن تكريمها من مهرجان أسوان: «سعيدة بتقييم محتوى أعمالي»    عادات خاطئة في الموجة الحارة.. احذرها لتجنب مخاطرها    وداعًا حر الصيف..طريقة عمل آيس كريم البرتقال سهل وسريع بأبسط المقادير    اتحاد الكرة يحصل على موافقة 50 ألف مشجع لمباراة مصر وبوركينا فاسو    الخميس المقبل.. أحمد موسى يُحذر من الاجتياح البري لرفح الفلسطينية    خصومات متنوعة على إصدارات «هيئة الكتاب»    تعرف على الأمنية الأخيرة لشيرين سيف النصر قبل وفاتها ؟ (فيديو)    شاب يقتل والده بسبب إدمانه للمخدرات.. وقرار من النيابة    الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضيه    بروتوكول بين جامعة المنوفية الهيئة الاعتماد لمنح شهادة "جهار - ايجيكاب"    دياب يكشف عن شخصيته بفيلم السرب»    صحة كفرالشيخ في المركز الخامس على مستوى الجمهورية    «قضايا الدولة» تشارك في مؤتمر الذكاء الاصطناعي بالعاصمة الإدارية    بالفيديو.. خالد الجندي يشيد بفخامة تطوير مسجد السيدة زينب    مقتل وإصابة 8 مواطنين في غارة إسرائيلية على منزل ببلدة حانين جنوب لبنان    «بروميتيون تاير إيجيبت» راعٍ جديد للنادي الأهلي لمدة ثلاث سنوات    يد – الزمالك يفوز على الأبيار الجزائري ويتأهل لنصف نهائي كأس الكؤوس    أبو عبيدة: الرد الإيراني على إسرائيل وضع قواعد جديدة ورسخ معادلات مهمة    بائع خضار يقتل زميله بسبب الخلاف على مكان البيع في سوق شبين القناطر    إنفوجراف.. مراحل استرداد سيناء    «التعليم العالي» تغلق كيانًا وهميًا بمنطقة المهندسين في الجيزة    ختام ناجح لبطولة الجمهورية للشطرنج للسيدات ومريم عزب تحصد اللقب    القومي للكبد: الفيروسات المعوية متحورة وتصيب أكثر من مليار نسمة عالميا سنويا (فيديو)    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    السياحة: زيادة أعداد السائحين الصينيين في 2023 بنسبة 254% مقارنة ب2022    محافظ كفرالشيخ يتفقد أعمال التطوير بإدارات الديوان العام    مجلس الوزراء: الأحد والإثنين 5 و6 مايو إجازة رسمية بمناسبة عيدي العمال وشم النسيم    11 معلومة مهمة من التعليم للطلاب بشأن اختبار "TOFAS".. اعرف التفاصيل    عضو ب«التحالف الوطني»: 167 قاطرة محملة بأكثر 2985 طن مساعدات لدعم الفلسطينيين    غدا.. اجتماع مشترك بين نقابة الصحفيين والمهن التمثيلية    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    محافظ قنا يستقبل 14 مواطنا من ذوي الهمم لتسليمهم أطراف صناعية    تنبيه عاجل من المدارس المصرية اليابانية لأولياء الأمور قبل التقديم بالعام الجديد    رسميا .. 4 أيام إجازة للموظفين| تعرف عليها    منها الطماطم والفلفل.. تأثير درجات الحرارة على ارتفاع أسعار الخضروات    افتتاح الملتقى العلمي الثاني حول العلوم التطبيقية الحديثة ودورها في التنمية    عربية النواب: اكتشاف مقابر جماعية بغزة وصمة عار على جبين المجتمع الدولى    سلك كهرباء.. مصرع شاب بصعق كهربائي في أطفيح    بدأ جولته بلقاء محافظ شمال سيناء.. وزير الرياضة: الدولة مهتمة بالاستثمار في الشباب    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    تقارير: الأهلي سيحصل على 53 مليون دولار نظير مشاركته في كأس العالم للأندية    اتحاد عمال مصر ونظيره التركي يوقعان اتفاقية لدعم العمل النقابي المشترك    "بأقل التكاليف"...أفضل الاماكن للخروج في شم النسيم 2024    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ندوبٌ في جبينِ الفجر
نشر في محيط يوم 03 - 10 - 2011

سلسةُ مقارباتٍ ثقافية للحال المصرية بعدَ ثورة يناير2011 م.
حقًا إنه فجرٌ جديدٌ، وعد به الخامس والعشرون من يناير2011 م، لكنْ ثمَّة ندوبٌ في جبينه نخشى أن تتفاقمَ مضاعفاتها.
الحلقة الأولى:
في تفسير ما حدث في ضوء لعبة المجاز والحقيقة
مفتتح:
لعل أولَ سؤالٍ يغازل التلقي في هذا الاستهلال هو لماذا هذا العنوان:
"ندوبٌ في جبينِ الفجر" الذي جعلته عتبةً للدخول لسلسلة المقاربات التي ترهص لها هذه الحلقة؟
والإجابة على هذا السؤال تقتضي شقين:
أولهما: أن العنوان ليس شيئًا ترفًا أو نافلةً من القولِ تقف اعتباطًا على باب الكلام، بل هو- كما يذهب المشتغلون بالخطاب- المضمون المكثف لما سيرد تحته من دراسات وتحليلات لواقعٍ ما، أو لظاهرةٍ ما، أو لكلامٍ ما. فعنوانُ الكلامِ مركزُ دلالاته، وعتبةُُ الدخول لمعناه وأبعاده. فهو (أي العنوان) لا يجيء اعتباطيًّا، ولا يَهَبُ نفسهُ للحديثِ مجانًا، وإنَّما يجيءُ علامةً لُغويةً ترابطُ عند مُدْخَلِ الحديث، فتصبحُ جوازَ مرورٍ نحو مكامن المعنى، بل تصبحُ - أيضًا– وسيطًا فاعلاً بين الكلامِ ومتلقيه. وهذه من بعض السمات الوظيفية اللغوية للعناوين وفق ما تذهب إليه المدارس الحديثة جلها في مقاربات الخطاب.
وثانيهما: أن عددًا من الندوب بدأت – بالفعل - تعتور جبين الفجر الجديد (المراوغ حتى لحظة كتابة هذه السطور)، الفجر الذي ناضل من أجله المصريون وضحوا بأرواح شبابهم فداءً له. وقد ظهرت بعض هذه الندوب – التي نسوق بعضها على سبيل المثال لا الحصر - جليَّةً فيما يحدثُ من استقطابٍ بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة حول هوية مصر السياسية والثقافية خلال المرحلة المقبلة
هل هي ليبرالية/ حداثية/ مدنية؟ أم إسلامية؟ - (فيما يسلم العقل والمنطق السليم للمثقف المنتمي لحضارته وتراثه العربي والإسلامي- كما سنوضح في مقالةٍ لاحقة - بعدم التعارض بين الديني والمدني) ،
إذ يتضح لدى كل فصيل فكري أو سياسي رغبته في إقصاء الآخر، فيما يجدر بهذه الفصائل وتلك التيارات أن يكون الاستقطاب فيما بينها حول ملامح خارطة طريق تضع مصر على عتبات المستقبل سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، ومن ثمَّ حضاريًّا. وليس أدل على خطورة هذا الاستقطاب من محاولات المد والجزر التي دارت ولم تزل تدور رحاها بين التيار الإسلامي وفريق العلمانية حول مسألة الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً ،
وأي ثوبٍ يليق بمصر أن ترتديه خلال القادم من الزمن: الثوب المدني أم الديني. كل ذلك انعكس ولم يزل ينعكس على وتيرة التفاعلات السياسية الراهنة في البلاد والتي منها النتائج المتواضعة للاجتماعات التي تتم بين المجلس العسكري وقادةِ الأحزاب السياسية.
وهذه الندوب هي فقط على سبيل المثال لا الحصر كما ذكرنا. وكما تؤكدها شواهد الواقع وبقاء الحال حتى الآن على ما كانت عليه قبل بشائر الفجر المراوغ؛ فمنذ أن نجحَ شعار "ارفع رأسك فوق أنت مصري".. الذي كانت منحوتة ثوريةً بامتياز من منحوتات ميدان التحرير،
منذ أن نجح هذا الشعار في خداعِ الوجدان ودغدغة مشاعر بنات الأحلام التي تتوق نسائمَ الحُرية، منذها وأنا أراقب المصريين حولي : من منهم سيجرؤ على رفع رأسه أولاً؟، فمنذها وحتى الآن وهم حائرون ..يحاولون.. يفشلون.. يعاودن .. يخفقون، فما أن يرفع أحدهم رأسه إلا وتنخفض ثانيةً إلى أسفل ، بعدما ينقلب إليها البصر خاسئًا وهو حسير ! فأثقال كثيرة تتآمر على الرأس المسكينة فتحنيها حتى ليكادُ أسفلها يلتصق بصدر حاملها. فالدَّيْنُ مفجع، والفقر مدقع، ورصاص البلطجية ووميض أسلحتهم البيضاء يتسيد الموقف فوقها ساخرًا منها ومن حاملها، فتفضل الرأس المسكينة الانحناء لأسفل ليسلم حاملُها من شَرَكيْن: شَرَك البلطجة فوقها، والشَرك الذي نصبته لها بالوعات الصرف وحُفَرُ الطريق ومطباتُها من تحتها..منذها وحتى الآن ولم يجرؤ مصريٌّ على رفع رأسه ،
فيا للعجب !. ثمانيةُ شهورٍ وخير أجناد الأرضِ إما فاقدو الحيلة في تأمين الشارع المصري وإمَّا أنهم لا يريدون ذلك في الأساس لحاجةٍ في نفس يعقوب لا يعلمها إلا القائمون على الأمر في مصر المحروسة.
تفسير ما حدث في ضوء لعبة المجاز والحقيقة - تكثرُ وتتكاثرُ، وطبيعيٌ ومنطقيٌ أنْ تكثرَ وأن تتكاثرَ الأسئلة الثقافيةُ الباحثةُ في تفسير ما حدث وما يحدث وما يتوقع له الحدوث خلال القادم من الزمن، في ضوء ثورة يناير2011 م. فالمعروفُ أن الكلامَ، كلَّ الكلامِ أو معظَمَهُ يفرضهُ منطقُ السؤالِ عن السببيةِ والكيفيةِ، في ضوء علاقة هاتين بكلٍّ من الزمان والمكان والبشر. وكما يقولُ المتنبي:
فقليل من الكلام اشتياقٌ وكثيرٌ من ردِّهِ تعليلُ.
ولأن ما حدث أبعد وأكثر غموضًا وعمقًا من أن يطالَهُ غوَّاصٌ ماهر، فضلاً عمَّن يدعون الغوص، ولكونه غامضًا ومدهشًا فهو مثير للأسئلة، وكما يقول نيل أرمسترونج عالم الفضاء الأمريكي الشهير:
"الغموضُ يخلقُ الدهشةَ والتساؤلَ، وهما معًا يجسدانِ أساسَ رغبةِ الإنسانِ في الفهمِ والمعرفة".
كما أننا أبناء ثقافةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ أعلت من شأن السؤالِ، وجعلته مفتاح الرؤية ومفتاحَ العلمِ والمعرفة والثقافة، بل ومفتاح المشاركة في الحياة العامة. فنحن أبناء ثقافةٍ مرتكزاتها تقوم على القرآن والسنة.
القرآن الذي لم ينكر على سائلٍ سؤالَهُ مرةً، ولم يحجر - مرةً - على سؤالٍ، فضلاً عن كونهِ لم يحجر على الأسئلة المغرضة التي لم تسع لمعرفةِ الحقِّ، ومن ثمََّ لإحقاقه وإقراره والعمل به، وإنما سعت ولم تزل تسعى لإبطاله والتشكيكِ فيه، فقد جاء النص القرآني يحترم السؤال ويُجِلُّهُ ويجعله مدخلاً لحوارِ الأخذ والعطاء من منطلقاتٍ حضاريةٍ بحتة. فقال ضمن ما قال: "يسألونك عن الروح قل الروحُ من أمر ربي" (الإسراء 85).. "يسألونك عن الساعةِ أيانَ مرساها..." (الأعراف 187، والنازعات 42).. والآيات في هذا السياق كثيرةً.
وقد جاءت السُّنَّةُ معليةً من شأن السؤال بوصفه أداةً وطريقةً للتعلم، فضلاً عن كونه مفتاحًا للمعرفةِ وللعلم ولليقين والتثبيت على الإيمان وعلى الحق. فقد جاء في صحيح مسلم عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منّا أحد. حتى جلس إلى النبي صلي الله عليه وسلم فأسند ركبتيهِ إلى ركبتيهِ ووضعَ كفيهِ على فخذيه، وقال:
"يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا).قال : صدقت.
فعجبنا له، يسأله ويصدقه‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌؟.... الحديث.
فالسؤال هو جوهر ثقافتنا في الأساس نحن أبناء الثقافة العربية التي قال سفيرها ذات شعرٍ:
ولو أنِّي جُعلت أميرَ قومٍ لما قاتلتُ إلا بالسؤالِ
فإن الناسَ ينهزمون منهُ وقد ثبتوا لأطرافِ العوالي.
لذا فالحديثُ في هذه الحلقة يبحث من منظور الإبداع في تفسيرٍ مغايرٍ لما حدث، أي في تفسير يومِ الخامس والعشرين من يناير من وجهة نظر فلسفية لا تنكر على وجهات النظر الأخرى ما ذهبت إليه من تفسير وأسباب للحدث العظيم، وإنما فقط تحاول أن تقدّم تفسيرها الخاص من وجهة نظر إبداعية.
لقد هيمن المجازُ في عهد الرئيس المخلوع على كلِّ شيءٍ حتى أصبحَت المجازات ركيزةً أساس في الحكم والإدارة وكسب ثقةِ الشعب، فرئيسٌ لم يكن مؤهلاً أن يكونَ رئيسًا وفق ما يقتضيه تاريخُ مصر وحضارةُ مصر وريادتها وعروبتها، وما يجب أن تكونَ عليهِ درجة حضورها الإقليمي والدولي، ولكن لعبة المجازات التي درج عليها الخطاب الإعلامي والخطاب الفني الموجه جعلت منه رئيسًا وصانعًا لنصر أكتوبر وحكيمًا واستراتيجيًّا من الطراز الرفيع الذي روّجت له المجازات الخائنة في خطابنا الإعلامي وفي خطاب الرئيس نفسه (الذي غيّر مفهوم "المعركة" عبر لعبة المجاز من كونها دالاًّ استراتيجيًّا لتصبحَ دالاً اقتصاديًّا فحسب، ألم يقل أكثر من مرةٍ في خطاباته سأخوض معركة التنمية، أو خضنا معركة التنمية، وتعبيرات مجازية أخرى من هذا القبيل تنزاحُ بمفهوم المعركة من دلالاته العسكرية لدلالات أخرى مراوغة؟!)، بل ورجل الحرب والسلام، وقائدًا لمسيرةٍ من الإصلاح هي نفسها كانت مسيرةً من المجاز فلم يكن الإصلاحُ إلا فيما تقوله وتسوغه مفردات الخطاب السياسي والإعلامي التي كانت تتحدث كثيرًا مدعومة بالصور المختلقة عن مصر التنمية، ومصر الصناعة، ومصر السياحة، ومصر الخضراء - (كأننا لم نعرف أن نصيب الفرد من المساحات الخضراء في القاهرة لا يتجاوز بضع عشر سنتيمترا، فيما يزيد عن 20 مترًا مربعًا في عواصمَ أوروبية كثيرة).
وما احتضنته الأقواس في الفقرة السابقة ليس إلا غيضًا من فيضٍ سقناه فقط مثالاً للتدليل الحي على خطورة شِراك المجاز وألاعيبه ودوره في توطيد دعائم دولةِ الافتراض والترويج للحكم المستبد الفاسد، بعد استمراء المصريين لكؤوس الخديعة المُعَدَّة لهم على موائد الكذب الصريح تارةً، والكذب المتوسل بتراكيب المجاز تارةً أخرى.
وبألاعيب المجاز نفسها صنع الإعلام المصري وزيرًا من المجاز وسفيرًا من المجاز (وقد كان لصاحب هذه السطور أن تحدث مع بعض سفراء مصر خلال ذلك العهد المشار إليه؛ فكانت تصفعه الدهشة بسؤالها: كيف أصبح هذا الرجل سفيرًا لمصر؟ كيف وهو لا يحسن إدارة الأحاديث البينية العادية، فضلاً عن الرسمية؟ كيف وهو لم تستقم في كلامه جملة واحدة، بما يعكس نضوبًا في وعيه وشُحًّا في معرفته لا يقلان عن مثيليهما فيمن اختاره لهذا المنصب الدبلوماسي الرفيع .. ما المعايير التي أعملها النظام حتى تصبح واجهة مصر الدبلوماسية بهذا السوء؟!) وحكومات متوالية قوامها وزراء تم إعمال الولاء بدلاً من الكفاءة شرطًا لتنصيبهم، ومجالس تشريعية لم تكن – أيضًا – إلا مجازًا كبيرًا أوجده التزوير وسوّغه وكرّس له الخطاب الإعلامي، حتى تحول الشعب نفسه إلى شعبٍ من المجاز أكله الهم والعوز والحاجة، فلم يبق من أفراده إلا خشبٌ مسندة، لا نبض فيها ولا روح، ولا حلم تعيش النفوس من أجله. بعد أن شُغِلَ الناسُ برغيف الخبز (الحاف، بل الحافي مع وافر التحية لمن حفر في ذهني وجع الخبز الحافي، الأديب الراحل محمد شكري صاحب رائعة "الخبز الحافي").
هكذا دشنتِ المجازاتُ دولتها، وبنى الافتراضُ إمبراطوريته الفاسدة الأمر الذي جعل كاتب هذه السطور يَصرِخُ- ذات شعرٍ - في وجه المجاز قائلاً:
أريدُ مجازًا يُروِّضُ وجهَ الرؤى في الظلامْ
ويكْشِفُ عمَّا يُكِنُّ الخبيئُ،
وإنِ خَوَّفَتْهُ فِخَاخُ الكلامْ
ويفْتَحُ نافذةً من يقينهْ
على ضفةٍ
من رؤاهُ العميقةْ
أريدُ مجازًا
يقولُ لآلهةٍ من مجازٍ مخادعْ
وهِمْتمْ؛
فإن الذين بَنَوْكُم ضعيفو المواهبْ
إذا الحرفُ شرَّحَ ما سطَّروهُ
تبينَ كيفَ تكونُ العِبارةُ عاهرةً
وفقَ كلِّ المذاهبْ.
q خلاصة القول إننا كنا نعيش في دولةٍ من الافتراض ليست من الحقيقة في شيءٍ، حتى جاءت اللحظةُ الفارقة، تلك اللحظة التي تواجه فيها عالمان: عالم الفيسبوك وسائر وسائل التفاعل الأخرى عبر الشبكة العنكبوتية، وهو العالم الافتراضي الذي شكّل عينَ الحقيقة في تلك المواجه، وعالم الحقيقة الذي شكل عين الافتراض ممثلاً في دولة المجاز التي سوق لها الإعلام الرسمي على أنها دولة الرفعة والازدهار والحرية، دولة المؤسسات والأحزاب، دولة الرئيس الملهم والحكومة الرشيدة، فإذا بعالم الفيسبوك العالم الافتراضي يصبح عالم الحقيقة يزمجر فيستحث لاءات الرفض في مراجلها فتغلي فتذيب جليد المجازات على الرغم من عتاب صاحب هذه السطور على مريدي هذا العالم ظنًّا منه أنه لم يعد لديهم سوى تداول النقد وصب مشاعر الغضب على رموز الفساد حروفاً وأحاديث عبر ذلك العالم الافتراضي، فيما تقتضي لحظة التغيير العبور من نعومة الفرض إلى جسارة الواقع عبر النزول إلى الشارع، فقال فيهم في قصيدة بعنوان سيدة الافتراض، التي نشرت قبل الثورة بأيامٍ:
....
فلِكلِّ فاتحةٍ عناءُ البدءِ...
لكِنْ...ثمَّ خطوٌ
مثلُ وجهِ الصبحِ يدركُ خيبةً كبرى
على وجهِ البدايةِ
حينَ وحدكَ لا تزالُ متيمًا بِغَدِ الحقيقةِ،
فيما كلُّ الناسِ حولكَ لا تعيشُ سوى افتراضٍ
لا تقولُ سوى افتراضٍ
لا تحبُّ سوى افتراضْ
فالحبُّ...
والأحلامُ...
والأملُ المرصَّعُ بالندى محضُ افتراضْ:
فالناس تَضْحَكُ عبرَ شاشاتِ "المَسِنْجَرْ"
والحزنُ والأفراحُ يجمعهمْ إذا اتسعت بهمْ
سِجَّادةُ النقالِ أو بهوُ الحديثِ المستفيضِ
على ضفافِ "الشاتِ"
أو رملِ "المَسِنْجَر "
والحاكمُ الأبديُّ قد يُقصى عن الكرسيِّ
(في الفِيسبوكِ)...
أو عُرْفِ "المسنجرِ"
في بلادٍ كلُّ ما فيها افتراضْ.
* كاتب وشاعر من مصر...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.