أرسل الله تبارك وتعالى رسوله بالحق ليظهره على الدين كله وجعل رسالته عامه للبشر فقال تعالى : ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) وقال (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( بُعثت للناس كافة ) .
فدعوة الاسلام بلاغ إلى الكافة إنسهم وجنهم ألآ يعبدوا إلا الله تعالى ولا يشركو به شيئا فمن استجاب فقد زحزح عن النار وفاز بحسن الخاتمة وجنة عرضها السماوات والأرض وإن كانت الأخرى فلا يلومن إلا نفسه .
ولقد أدى رسولنا رسالة ربه على الوجه الأتم وعرض الإسلام على قومه وترفق بهم ولم يجعل عليهم بالرغم من إيذائهم وإخراجهم له من بلده وهو صابر محتسب يقول لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً وقد تحقق ذلك بالفعل .
ولعل الملاحظ لحركة دعوة رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب أطياف المجتمع سادة وعبيداً أغنياء وفقراء أقوياء وضعفاء كانت له لغته الراقيه وأسلوبه الفريد الذي اعتمد المنهج العقلي والقلبي معاً ، فخاطب الناس على قدر عقولهم ومس شغاف قلوبهم وتواصل مع قريش فلم يقطع أواصر القرابه بل دفع معهم بالتي هي أحسن وعفا عنهم فدخلوا في دين الله أفواجاً بعد أن فتح الله له مكة وأظهره عليهم .
ولقد عالج الإسلام مبدأ الخطاب والتواصل والمحاجة مع مكونات المجتمع بتصنيفاته المختلفة كما بين العقوبات المشروعة التي تستعمل عند الخروج على النظام الإسلامي في تفصيل رائع ومنصف ليس هنا موضع الحديث عنه ...ولكن حديثنا ينصب على قضية التواصل المشروع الذي يؤتي ثماراً طيبة ويوجه عناصر المجتمع إلى ما فيه الصلاح والفلاح .
فلغة الخطاب تتنوع من حالة إلى أخرى فالخطاب الموجه للحكام يختلف عن الخطاب الذي يوجه للعامة ودعوة الرجال لها مداخل مختلفة عن دعوة النساء والخطاب الذي نتوجه به للمثقفين يحتاج إلى إتقان يليق بعقولهم المتفحصة للأمور وهكذا الحال عند مخاطبة الأغنياء والفقراء أو العصاة أو المنافقين أو هل الكتاب فكل طائفة لها رسالة ذات فحوى لابد وأن تصل في صورة التي تؤثر أو ترشد أو ترفع الالتباس عن أصحابها وفي النهاية تنهض بالمجتمع إلى ما هو أفضل وأسمى .
إن التاهيل وإعداد فريق من الدعاة القادرين على أداء هذا المهام هو أول الطريق الصحيح للوصول إلى مكونات المجتمع والتواصل معه لأن التصدى لمثل هذه الأمور دون تخصص يؤهل لذلك يفضى إلى فشل يعود بالضرر على حركة الدعوة إلى الله فلا يصح الإقدام على مثل هذه الأمور تحت دعوى عاطفة حب الدين والحماس لنصرته .
إن التواصل الجيد مع مكونات المجتمع و أطيافه يمر من خلال الفهم المتجدد للتجارب السابقة في ذات المجال واختيار قضايا الأمة الكبرى كمدخل للتناول ومراعاة المشكلات .
التى تتعرض لها الجماهير كي تتم معالجتها من منظور دعوى إسلامي يتحقق من ورائه التواصل المستهدف والرابطة المنشودة والتطوير المطلوب .
كما أنه لن يتحقق الإفادة الكاملة من هذا التواصل إلا إذا كان القائمون على الخطاب قدوة حسنة في الخلق والسلوك بما يجعل الحديث مقبولاً يدخل إلى القلوب بقدر ذلك الصدق منهم في موافقة القول العمل وحسن التعبير عند عرض القضايا على الجماهير .
ولعله يكون من المناسب أن نتناول بعض ما ورد من آثار حول موضوعنا في هذا المقال لتوضيح قدر من الأدلة تؤكد صحة ما نقوله في البداية يتعرض القرآن الكريم للخطاب العام للبشرية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير )
وقال جل شأنه محذراً كفار مكة إن هم أعرضوا عن قبول دعوة الرسول (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)
وخاطب أهل الإيمان داعياً إياهم لحماية أنفسهم وذريتهم وكل من هم تحت ولايتهم من عقاب الله تعالى فقال (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)
وخاطب المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والعداوة الدين ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم )
وخاطب أهل الكتاب على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في محاجة لطيفة (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا )
وهكذا مواضع كثيرة يتنوع فيها أسلوب الخطاب في لين عند بداية الدعوة ثم تحذير وتغليظ عند الإعراض وهي حكمة بالغة من الله تعالى لنتعلم ونلتزم بها ولقد أرسى نبينا صلى الله عليه وسلم هذا المنهج في تعامله مع كافة أطياف المجتمع في المدينة وتابعه على هذا الخلفاء الراشدون ومن سار على الهدى من بعدهم في إدارتهم لشئون المجتمع .
ومن بين المشكلات التي عالجها رسولنا الكريم صلى الله عليها وسلم بحسن خطابه وتعبيره البديع حين حزن بعض صغار السن من الأنصار عندما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقراء المهاجرين ببعض العطايا ولم يعط الأنصار فذكر لهم فضلهم في إيوائه ونصرته والتضحية من أجل هذا الدين ودعا لهم ولذريتهم من بعدهم بالرحمة والمغفرة والبركة في الرزق وأشار لهم بحبه إياهم ويكفيهم أن يعودوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالهم فبكوا حتى أخضلوا لحاهم .
وحينما تلاحى قوم من الأنصار عند أحد الآبار وذكر بعضهم بعضاً بما كان في الجاهلية من قتال فثارت الحمية وتنادى القوم للشجار قام إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبا ومذكراً وزاجراً (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) فسكن غضب الجميع ورجعوا إلى الحق وعادت الألفة والمحبة وتناسوا هذا الموقف .
ولما أجتمعت الخوارج ضد الإمام على رضى الله عنه بعث إليهم بعبد الله عباس فناظرهم بالحجة والبرهان فرجع أكثرهم عن موقفة ولم يقاتلهم إلا بعد أن أفسدوا بسفك الدماء .
وانظر معى أيها القارئ الكريم إلى موقف أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز حين خرج عليه بسطام اليشكري المعروف باسم (شوذب) فأرسل له رساله جاء فيها (إنه بلغني أنك خرجت غضباً لله ولنبيه وليست أولى بذلك منى فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس وإن كان في يدك نظرنا أمرنا)
وتحضرني مناظرة رائعة أجراها الإمام أبو بكر الباقلاني مع بعض القساوسة حين طلبوه للمناظرة حول بعض القضايا فذهب إليهم وأوضح لهم ما أشكل عليهم فهمه بحجة قوية وبرهان دامغ ثم انتقل بهم إلى سؤال هام فقال لهم كيف حال الزوجات والأبناء فقالوا يبدوا أن الشيخ لا يعلم عنا أننا لا نتزوج فقال لهم ولم ؟! قالوا لأننا ننزه أنفسها عن دنس الزوجة والولد فقال سبحان الله أنتزهون أنفسكم عن دنس الزوجة والولد وتنسبون إلى الله لزوجة والولد ؟!!
(كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) فبهت القساوسة من قوة الاستدلال وسكتوا تماماً .
وهكذا كان التواصل بين أطياف المجتمع كله بالدعوة والموعظة والتذكرة والمحاجة بالتي هي أحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والزجر أحياناً و إغلاظ القول إن كان الموقف يستدعى ذلك وحينئذ نكون قيد أمسكنا بخيوط المجتمع نحدثه ونتعاطى معه ونبين له الحقيقة كاملة ولا نعتزل الحياة رافضين لها مع إمكان التأثير فيها بتقليل الشر ومدافعة أهل الباطل وإحلال مبادئ العدل والحق والخير والبر .
إنه من المنطقي والبدهى أن كل مسلم ينتهج فكراً مغايراً لدينه لا يعرف حقيقة المنهج الإسلامي القويم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فإذا أحسن القائمون على الدعوة التواصل بخطاب واضح المعالم لن نجد هناك من يقول بآراء ماركس ولينين من بين المسلمين وعنده كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدى السلف الصالح من الأمة قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )
هذا ونسأل الله تعالى أن يوفق إلى هداية أمتنا الإسلامية إلى دينها وأن يهدي عصاة المسلمين إلى الطريق المستقيم وأن يفتح أبواب الهداية أمام الخلائق أجمعين فهو الهادي والموفق إلى صراط الذين أحسن إليهم فلم يضلهم أو يغضب عليهم .
وصلى الله علي سيدنا محمد
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، ولا تعبر بالضرورة عن الموقع أوالقائمين عليه