بعد أيام من اختتام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان زيارته للقاهرة ، فوجئت إسرائيل بعدة ضربات موجعة جديدة على يد أوجلو وفريدمان . ففي 19 سبتمبر ، خرج وزير الخارجية التركي أحمد داود أوجلو بتصريحات مثيرة اقترح خلالها نظاما جديدا في الشرق الأوسط يقوم على التحالف بين أنقرةوالقاهرة . وأشار في مقابلة مع إحدى القنوات التركية إلى توقعاته بإقامة شراكة بين تركيا ومصر، البلدين الأقوى عسكريا والأكثر كثافة سكانيا والأعرض نفوذا في المنطقة، واللذين قال عنهما إنهما قادران على تأسيس حلف جديد في وقت يبدو فيه النفوذ الأمريكي بالشرق الأوسط في اضمحلال. وتابع أوجلو " هذا ما نريده.. ليس هذا محورا ضد أي دولة أخرى، لا إسرائيل ولا إيران أو أي بلد آخر، لكنه سيكون محورا للديمقراطية في أكبر بلدين بمنطقتنا من الشمال إلى الجنوب، من البحر الأسود حتى وادي النيل في السودان". ولم يقف الأمر عند ما سبق ، فقد صرح أوجلو أيضا بأن إسرائيل وحدها المسئولة عن الانهيار في العلاقات مع تركيا التي كانت حليفة لها في السابق ، كما اتهم الرئيس السوري بشار الأسد بالكذب عليه بعدما منح المسئولون الأتراك حكومته "فرصة أخيرة" لإنقاذ سلطته من الانهيار بوقف قمع المحتجين. وبالنظر إلى أن التصريحات السابقة تأتي بعد زيارة أردوجان للقاهرة ، فقد علقت عليها صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية بالقول إن أوجلو الذي ينظر إليه الكثيرون على أنه مهندس السياسة الخارجية التي جعلت من تركيا أحد أوثق اللاعبين صلة بالعالم الإسلامي أكد أن بلاده "في قلب كل الأحداث". ورأت الصحيفة في الانتقادات التي وجهها مهندس السياسة الخارجية التركية إلى حلفائه القدامى "إسرائيل وسوريا" وتبنيه حلفاء جدد تأكيدا للثقة التي تنعم بها تركيا هذه الأيام وهي تسعى لتكون في جانب الطرف الرابح في المنطقة. وتابعت " على خلاف إسرائيل القلقة، وإيران المرتابة، والولاياتالمتحدة التي ظلت سياستها الإقليمية محل انتقاد بسبب تخبطها وتناقضها الظاهر أحيانا، نهضت تركيا من عثراتها السابقة فقدمت نفسها نموذجا للتحول الديمقراطي والنمو الاقتصادي، في وقت تمر فيه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بتغييرات جذرية". ووصفت "نيويورك تايمز" أيضا القبول الحسن واللافت الذي حظيت به تركيا في العالم العربي وهي منطقة كانت أنقرة - على حد وصفها - تنظر إليها ذات مرة بازدراء بأنه تطور أشبه بالزلزال تماما مثل الانتفاضات والثورات العربية. هجوم فريدمان
ويبدو أن هناك كثيرين يتفقون مع ما ذهبت إليه "نيويورك تايمز" في تعليقها على المتغيرات المتلاحقة في الشرق الأوسط وخاصة فيما يتعلق بزيادة عزلة إسرائيل وتعاظم النفوذ التركي . ففي 19 سبتمبر ، شن توماس فريدمان أحد أشهر كتاب الأعمدة في الصحف الأمريكية هجوما لاذعا لم يسبق له مثيل على حكومة نتنياهو ، واصفا إياها بالعجز الدبلوماسي والافتقار للكفاءة الإستراتيجية. وكتب توماس فريدمان في عموده المعتاد بصحيفة "نيويورك تايمز" قائلا إنه لم يكن أكثر قلقا على مستقبل إسرائيل من اليوم ، حيث اقترن تداعي دعائم الأمن الإسرائيلي الرئيسة وهي السلام مع مصر واستقرار سوريا والصداقة مع تركيا والأردن بأكثر الحكومات عجزا دبلوماسيا وافتقارا للكفاءة الإستراتيجية في تاريخ إسرائيل ، ما جعلها في خطر محيق. وأضاف الكاتب الأمريكي المعروف بمواقفه المؤيدة لإسرائيل بحكم يهوديته أن ذلك الواقع جعل الحكومة الأمريكية تشعر بالضجر إزاء القيادة الإسرائيلية، لكنها مع ذلك ظلت أسيرة لعجزها فبمقدور اللوبي القوي المناصر لإسرائيل مع استعار حمى الانتخابات في الولاياتالمتحدة أن يُجبر الإدارة في واشنطن على الدفاع عن إسرائيل في الأممالمتحدة، حتى لو كانت تدرك أن تل أبيب تنتهج سياسات ليست في مصلحتها هي بالذات وليست في صالح أمريكا. وتابع أن إسرائيل ليست هي المسئولة عن الإطاحة بالرئيس المصري المخلوع حسني مبارك أو عن الانتفاضة الشعبية في سوريا أو عن إقدام تركيا على البحث عن زعامة إقليمية ولفظها لإسرائيل على نحو مريب ، غير أنه يستدرك قائلا إن الأمر الذي يتحمل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مسئوليته هو عجزه عن تقديم إستراتيجية للتعامل مع كل تلك التطورات بطريقة تحفظ لإسرائيل مصالحها على المدى الطويل. واستطرد فريدمان " لنتنياهو إستراتيجية تقوم على عدم فعل شيء تجاه الفلسطينيين أو تركيا يقتضي منه الوقوف في وجه قاعدته الحزبية أو التنازل عن بعض معتقداته أو يثير عداوة شريكه الرئيسي في الائتلاف الحاكم وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان اليميني المتطرف ، ثم بعد ذلك يطلب من الولاياتالمتحدة إيقاف برنامج إيران النووي وإعانة إسرائيل على الخروج من كل مأزق". وأضاف "نتنياهو بعد كل ذلك يحرص على ألا يطلب منه الرئيس أوباما أي شيء بالمقابل ، كالكف عن بناء المستوطنات مثلا ، فيحشد النواب الجمهوريين في الكونجرس ضده ليحشره في زاوية ضيقة ويؤلب عليه القيادات اليهودية" ، زاعما أن أوباما معادٍ لإسرائيل وأنه يفقد أصوات اليهود. وأشار فريدمان إلى أنه كان ينبغي على إسرائيل إما أن تضع خطتها الخاصة بالسلام أو تصوغ دبلوماسيتها في الأممالمتحدة بحيث تنسجم مع قرارها الذي ينص على حق كل من الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي في إقامة دولة في فلسطين التاريخية ، لكن نتنياهو لم يفعل أياً من ذلك، مشيرا إلى أن الولاياتالمتحدة هرعت لنزع فتيل الأزمة حتى لا تضطر لاستخدام حق النقض "الفيتو" ضد قرار بإقامة دولة فلسطينية وهي خطوة إذا ما حدثت ستكون وبالا عليها في العالم العربي. واستشهد في هذا الصدد بما كتبه الصحفي ألوف بن في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية ، حيث قال :"إن الجهود الدبلوماسية التي بُذلت طوال سنوات لإدماج إسرائيل كجارة مقبولة في منطقة الشرق الأوسط انهارت خلال الأيام الماضية بطرد سفيري إسرائيل من أنقرةوالقاهرة وبإجلاء موظفي السفارة الإسرائيلية على عجل من الأردن ". وواصل فريدمان مقتبسا من مقال الكاتب الإسرائيلي القول :" إن المنطقة تلفظ إسرائيل التي تعزل نفسها يوما بعد يوم في بروج مشيدة وفي ظل قيادة تأبى أي تغيير أو تحرك أو إصلاح ، لقد أظهر نتنياهو سلبية مطلقة إزاء التغييرات المفاجئة والمثيرة في المنطقة وسمح لخصومه بأخذ زمام المبادرة وفرض أجندتهم ". واختتم الكاتب الأمريكي عموده بالقول :" إن من سوء الطالع أن إسرائيل اليوم ليس لديها زعيم أو حكومة تنتهج دبلوماسية حاذقة " ، معربا عن أمله في أن تتمكن إسرائيل من إدراك ذلك قبل أن تدفعها حكومتها إلى عزلة دولية أعمق وتجر معها الولاياتالمتحدة أيضا. انتقادات داخلية واللافت للانتباه أن الانتقادات لسياسة نتنياهو لم تتوقف عند ما سبق ، حيث خرجت أصوات من داخل إسرائيل نفسها تحذر من تبعات رفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية وضياع تسوية "الدولتين" باعتبارها مصلحة لتل أبيب أيضا. ففي تصريحات لصحيفة "معاريف" في 19 سبتمبر ، دعا رئيس جهاز المخابرات العامة الاسرائيلية "الشاباك" الأسبق عامي أيالون إسرائيل للتصويت لصالح الدولة الفلسطينية في الأممالمتحدة وإعادة المستوطنين لغربي الجدار العازل . وأبدى في هذا الصدد قلقه من المسيرة السياسية العالقة, مشددا على أن عزلة إسرائيل الدولية توجه الفلسطينيين للأمم المتحدة وكل ذلك يلزم إسرائيل بإطلاق مبادرة سياسية جديدة. وأوضح أيالون الذي رعى حملة منذ 2002 مع الأكاديمي الفلسطيني سري نسيبة لدعم دولة فلسطينية بحدود 67 أنه بغياب "أنظمة عربية معتدلة" عقب سقوط نظام مبارك لن يستطيع الفلسطينيون اليوم تقديم ما كان بوسعهم تقديمه قبل عام. وأشار إلى أن اعتراف الأممالمتحدةبفلسطين دولة مستقلة يشكل فرصة لإسرائيل ، داعيا الأخيرة للتفاوض مع الفلسطينيين بشأن الحدود دون الاكتراث للتبعات القضائية لنشوئها, وأضاف "علينا إعادة المستوطنين اليوم وليس غدا بسن قانون يمنحهم فرصة التعويض عن انسحابهم بعدما ذهبوا لهناك بمهمة من قبل الدولة". وأكد أيالون أن مثل هذه الإجراءات مفيدة لإسرائيل ، ودعا نتنياهو لملائمة سياسته مع الواقع وإبداء موقف قيادي والتفوق على اعتبارات شخصية وحزبية ، قائلا :" في حال اصطدم الفلسطينيون مع المستوطنين لك أن تتخيل ردود الفعل العنيفة في القاهرة وإسطنبول وعمّان". وفي السياق ذاته ، دعا الكاتب الإسرائيلي يهوشع سوبل إلى تجنيد دعم الرأي العام الإسرائيلي والضغط على حكومة نتنياهو للاعتراف بالدولة الفلسطينية. وأكد سوبل -الذي وقع على نداء لمثقفين يهود وعرب من فلسطينيي الداخل بهذا الخصوص- أن دولة الجوار الفلسطينية هي مصلحة إسرائيلية أيضا, مشددا على أن سلاما بين قوي وضعيف لن يدوم. وأضاف في تصريحات لقناة "الجزيرة" أنه يجمع تواقيع شخصيات على نداء يؤيد الدولة الفلسطينية خدمة للسلام كقيمة عليا ولكونه مصلحة كبيرة لإسرائيل, منوها بتوقيع نحو 500 شخصية إسرائيلية على النداء. وقال :"نحن نوشك على فقدان فكرة الدولتين مما سيدخل الشعبين في دائرة حرب أهلية دموية ويعرض إسرائيل كدولة ديمقراطية لمخاطر جمة بل لمخاطر وجودية". ومن جهته ، لفت الكاتب الاسرائيلي غدعون ليفي أيضا نظر الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى أن القلق على مستقبل إسرائيل كدولة صديقة يلزمه بدعم إقامة دولة فلسطينية باعتبارها الطريق الوحيد لنزع فتيل برميل بارود من شأنه أن ينفجر في المنطقة بوجه إسرائيل والولاياتالمتحدة. ودعا ليفي الرئيس الأمريكي لعدم بيع مصالح بلاده ورؤيته مقابل ما وصفه ب"حفنة أصوات", محذرا من تكرار مواقف الانتهازية التي لازمته قبيل انتخابات الرئاسة السابقة. وأضاف "هذه فرصة لإرساء السلام في المنطقة الأخطر على مصير العالم, وإبداء قلق لسلامة إسرائيل لكن للأسف بدلا من ذلك تلقينا جورج بوش ثانيا". كما حذر الكاتب الإسرائيلي عكيفا إلدار من أن فقدان تسوية الدولتين يعني إضاعة فرصة سلام أخيرة وتحويل إسرائيل لدولة مصابة بالجرب كما كانت جنوب إفريقيا في عهد الأبارتهايد "الفصل العنصري". واستبعد إلدار في تصريحات لقناة "الجزيرة" أيضا تفضيل نتنياهو المصلحة القومية على بقائه في السلطة , محذرا من قيادته إسرائيل نحو الانتحار. بل وذهب يهودا شنهاف المحاضر في علم الاجتماع في جامعة تل أبيب إلى أبعد مما سبق ، عندما أكد أن فكرة "الدولتين" غير عادلة وليست واقعية رغم توجه السلطة الفلسطينية للأمم المتحدة لأنها لا تأخذ بالحسبان مصالح مختلف أطراف الصراع كاللاجئين وفلسطينيي الداخل . وأضاف شنهاف أن فكرة "الدولتين" ورغم تأييدها لحق الفلسطينيين بدولة مستقلة فإنها تظل مصلحة للنخب الإسرائيلية والغربية فقط ، وأشار إلى أن حل "الدولتين" يعتبر استمرارا لتنكر إسرائيل لحقيقة الصراع ، مشددا على أنها تنم عن رؤية هذا الصراع بعيون 1967 لا بعيون 1948. وتابع "هذه الرؤية لا توفر السلام لأنها تتجاهل لب القضية وجوهر الصراع، قضية اللاجئين وعودتهم لديارهم". والخلاصة أن سياسات حكومة التطرف في إسرائيل جلبت عليها العزلة والانتقادات حتى من المقربين ، ولذا يتوقع كثيرون أن تأتي الأيام المقبلة بمفاجآت غير سارة للكيان الصهيوني خاصة إذا ما تم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وما يستتبع ذلك من توابع قانونية تتمثل في رفع دعاوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل بتهمة الاستيطان وارتكاب جرائم حرب .