عندما قرأت موعد المحاضرة التي سيلقيها رئيس وزراء ماليزيا السابق في مصرن دونت الموعد في أجندتي ووضعتها أمامي حتى لا يضيع وسط الكثير من المشاغل والانشغالات، وكنت أعاود تذكير نفسي بالموعد الذي حرصت أن أجلس قبل حلوله أمام شاشة التلفاز بأكثر من ربع ساعة خشية أن يفوتني من حديث الرجل شيء. الرجل معروف في العالم كله، وهو معروف نسبياً في عالم العرب والمسلمين. ولد عام 1925م درس الطب وتخرج طبيباً في جامعة الملاي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وتم تعيينه وزيراً للتعليم ثم نائباً لرئيس الوزراء، وفي العام نفسه الذي تولى فيه الرئيس مبارك حكم مصر تولى الدكتور مهاتير محمد رئاسة الحكومة في ماليزيا، عام 1981، وظل في موقعه عشرين سنة، وصلت ماليزيا خلالها ذرى لم تصل إليها دولة إسلامية أخرى، حتى اقترب نصيب الفرد الماليزي من الدخل القومي إلى 10 آلاف دولار سنوياً، وحقق السلام الداخلي من خلال سياسات إنتاجية وتنموية، ورفض تطبيق وصفات البنك والصندوق الدوليين على اقتصاد بلاده، وتحدى الصلف الأمريكي، وأسمع أمريكا وإسرائيل ما لم تسمعه من أي حاكم عربي. وبعدما أحس أن ماليزيا على الطريق الصحيح، وقد حققت ما حققته من تقدم ورقي في عهده خرج على الناس وقال: (وقتي انتهى، لن أتولى أي مسؤوليات رسمية بعد 31 أكتوبر 2003، لأنه من المهم أن يتولى قيادة ماليزيا جيل جديد بفكر جديد)، وترك الدكتور المفكر مهاتير محمد الموقع الذي لا يتركه أحد، ويتشبث به الكثيرون سواء حققوا شيئاً لشعوبهم أو لم يحققوا، باقون إلى أن توافيهم المنية، يقفون بكل ما أوتوا من قوة وتسلط ضد فكرة التغيير. وهو صاحب تجربة ثرية ومتعددة المستويات والاتجاهات، وهو فضلاً عن ذلك كله صاحب انجاز ضخم في ماليزيا الدولة التي انتقلت في عهده الذي لم يزد عن 22 عاماً من موقع متدني على خريطة العالم إلى موقع أكثر تقدماً وتأثيراً، وكان المثير في تجربة الرجل أنه قرر الانسحاب من السلطة وهو في قمة مجده، وبعد أن استطاع نقل بلاده إلى مرحلة جديدة متقدمة من النهضة الاقتصادية. وبعد أن أثبت للعالم إمكانية قيام دولة إسلامية بالنهوض اقتصادياً بالاعتماد على شعبها والوحدة والتآلف بين جميع أفراده بمختلف ديانتهم وأعراقهم. لم تكن خلطة مهاتير محمد خلطة سرية، بل وصفها وشرحها وفصلها في الكثير من مؤلفاته، وهي تقوم على ركائز ومحددات أساسية، على رأسها أولوية العمل على وحدة الشعب، حيث ينقسم سكان ماليزيا إلى السكان الأصليين وهم المالايا، الذين يمثلون أكثر من نصف السكان، وقسم آخر من الصينيين، والهنود وأقليات أخرى، كما توجد الديانة الأساسية وهي الإسلام، بالإضافة لديانات أخرى مثل البوذية والهندوسية. ولقد نص الدستور الماليزي على أن: "الدين الرسمي للدولة هو الإسلام مع ضمان الحقوق الدينية للأقليات الدينية الأخرى". وضعت خلطة مهاتير محمد العلنية هدف تصنيع ماليزيا وتحديثها وإدخال التكنولوجيا إليها في مقدمة أهداف خطة التنمية الطموحة التي دأب على تنفيذها بصبر وتصميم كبيرين، وانطلقت ماليزيا في عهده إلى جذب الاستثمار نحو ماليزيا، وتوجيه الأنظار إليها، ثم، وهذا هو المهم في درس مهاتير محمد، اختارت ماليزيا في عهده الديمقراطية كأسلوب للحكم، وكان هذا هو التحدي الكبير الذي واجه التجربة الماليزية وقد حققت بشهادة الجميع شوطا كبيراً في التقدم على الطريق الديمقراطي. ولذلك كان أول ما حرص الرجل على أن يوجهه إلى مصر هو كلامه البليغ عن الديمقراطية، فأشار في بداية محاضرته إلى أهمية أن تتبنى مصر الآن النموذج الديمقراطي في بناء الدولة، وأعترف أني توقفت طويلاً أمام حديث الرجل عن الديمقراطية باعتبارها نموذج للحكم معروف ومجرب، ولكن لفتني أنه أشار إلى أن الديمقراطية ليست الطريق الأسهل للحكم، فالاستبداد نموذج أكثر سهولة لحكم أي دولة. وقبل أن أعيد التفكير في كلام الرجل راح يؤكد على ما يراه ضرورياً لتحقيق النموذج الديمقراطي، الذي ينبني على أساس استخدام سلطة التصويت، وهي سلطة تنصيب الحكومات عن طريق صناديق الانتخابات، أو عن طريق الاقتراع بحجب الثقة أو منحها في البرلمان، وفي المقابل يجب الإقرار بمبدأ أن الحكومات لا تأتي بالعنف، ولا يكون بقاءها في السلطة عبر العنف. ما يعني أن يكون المجتمع كله، بكل قواه السياسية والاجتماعية على استعداد لتقبل الهزيمة عبر صناديق الانتخابات، قبل أن يكون مستعداً للفرح بالفوز فيها، ذلك أن الذين يرفضون الهزيمة سوف يلجئون إلى وسائل أخرى للبقاء في السلطة، أو الحصول عليها عن طريق العنف والفساد والغش والتزوير. وكان من أجمل ما قال أنه: "يجب عليك تقبل أنك لن تبقى في السلطة إلى ما لا نهاية، ولا يجوز أن يفوز الحزب الحاكم بنسبة 99 % من الأصوات في الانتخابات، لأنه يجب أن يكون هناك معارضة حقيقة في المجتمع، معارضة تلعب دورها في إبقاء الحكومة على المسار الصحيح، وصحيح أن المعارضة يمكن أن تكون غير منطقية في بعض الأحيان ولكن هذه هي الديمقراطية، وهي كما تأتي بالحكومات يمكنها أن تخلعها، وتأتي بغيرها. حديث الرجل بديهي، ويكاد لا يكون فيه جديداً، ولكن قيمته الحقيقية أن ما يقوله هو حصاد تجربة واقعية، تحقق فيها الكثير، على أرض الواقع، فهي ليست نظريات، ولا هي مجرد أفكار معلقة في الهواء، بل هي خبرة رجل وتجربة دولة يجب أن تكون تحت أعيننا في مصر ونحن نحاول أن نؤسس لمصر الجديدة بعد ثورة هي الأنبل في تاريخ ثوراتنا على مدار التاريخ. تذكرت كل هذا اليوم وأنا أتابع الخطوات التي اتخذت على مسار المرحلة الانتقالية، وأكاد أقول أننا صفقنا لكلمات مهاتير محمد، واستقبلناه بحفاوة تليق بنا وبه، ولكننا لا زلنا بعيدين عن فهم الدرس الذي جاء يلقيه في وعينا. لا يبدو لي أن القائمين اليوم على أمر المرحلة الانتقالية في مصر وعوا الدرس المهاتيري جيداً، ويبدو لي أن درس ماليزيا ضاع منا، أو أننا ابتعدنا عنه كثيراً، وبقي في وعي أولي الأمر اليوم درس الحزب الوطني المنحل، درس تفصيل القوانين على مقاسات صغيره، وبأهداف لا قيمة لها، ولغايات لا تبشر بخير. كل القوانين المتعلقة بتشكيل نظام سياسي ديمقراطي معيبة، ولا يوجد قانون واحد صدر على طريق تحقيق نموذج ديمقراطي حقيقي في مصر، وانظر ملياً في قوانين تنظيم الأحزاب وقانون مباشرة الحقوق السياسية ومن بعدهما قانون الانتخابات تجد فيها روائح ترزية القوانين على طريقة الحزب الوطني المنحل أكثر مما تتبدى فيها روح ثورة 25 يناير. وأستطيع أن أبشر القوى السياسية وعلى رأسها القوى الإسلامية بأن القراءة المتأنية لمجموعة القوانين التي صدرت وآخرها قانون الانتخابات الذي أعلن عن بنوده وطريقة تقسيمه للدوائر الانتخابية وحسبة برما التي أتى بها، كل هذا له نتيجة منطقية واحدة هي تشتيت وتقليص التمثيل النسبي للقوى الفاعلة في المجتمع، وظني أن القوى الإسلامية الأكثر تنظيماً وتأثيراً في الشارع المصري اليوم ستكون هي أكبر الخاسرين من تفويت مثل هذه القوانين بدون تعديل يضمن عدم إنتاج نظام الحزب الوطني من جديد بمسميات ووجوه جديدة تتبع السياسات نفسها. من يقرأ القوانين التي صدرت المتعلقة بتشكيل النظام السياسي القادم بتمعن وروية، على أساس تغليب الصالح العام فوق أي مصالح مرحلية ومؤقتة سوف يتأكد له أن ساحة البرلمان القادم لن تشهد تمثيلاً حقيقياً للأحزاب السياسية، سواء القديم منها أو الجديد، بل ستشهد تشرذماً وانقساماً جديداً بين القوى الوطنية والإسلامية لن يكون المستفيد منه غير بقايا نظام الرئيس المخلوع. والنتيجة برلمان ضعيف وقوى مبعثرة، متشككة وغير قادرة على بناء مصر المستقبل، وحينها ستكون المحصلة النهائية لثورة يناير هي إزاحة دولة جمال مبارك من السلطة وبقاء دولة أبيه قائمة بوجوه جديدة أشد نفاقاً ووبالاً على مصر. اللهم هل بلغت اللهم فاشهد. **كاتب وصحفى مصرى