هيئة ضمان الجودة تعتمد 14 مؤسسة تعليمية فى المنيا    عصام خليل: الحوار الوطني يناقش غدا آليات تحويل الدعم العيني لنقدي    وزير التعليم العالي: استراتيجية جديدة لربط البرامج الجامعية باحتياجات سوق العمل    سر تفقد وزير الرى ومحافظ السويس كوبرى السنوسي بعد إزالته    آليات تحويل الدعم العينى لنقدى على طاولة مناقشات "الحوار الوطنى".. غدًا    المصرى للشؤون الخارجية: زيارة الرئيس السيسى لبكين تؤسس لمرحلة جديدة من التعاون    وزير الإسكان يُصدر قراراً بإزالة مخالفات بناء بالساحل الشمالي    بايدن: ترامب «يهدد الديمقراطية».. والآن يمكنكم القبض عليه    نصر الله: نفذنا عملية على بعد أمتار قليلة من موقع إسرائيلي    مرصد الأزهر يدين حادث طعن في مدينة مانهايم الألمانية    فرنسا تلغي مشاركة شركات إسرائيلية في معرض دولي للأسلحة الدفاعية    الجونة يقصي بلدية المحلة ويتأهل لدور ال 16 بكأس مصر    مودريتش: الجميع يعتبرنا الفريق المفضل للتتويج بدوري أبطال أوروبا ولكن    الأرصاد تحذر من اضطراب حركة الملاحة البحرية غدا    معجزة من المعجزات.. كيف وصف هشام عاشور زواجه من نيللي كريم؟    سماع دوي انفجارات بمناطق شمال إسرائيل بعد إطلاق 40 صاروخا من جنوب لبنان    جنا عمرو دياب تدعو لمقاطعة المنتجات الداعمة لإسرائيل | صورة    علماء الأوقاف: حقوق الفقراء والمساكين في المال لا تقتصر على الزكاة المفروضة    الصحة: المبادرات الرئاسية قدمت خدماتها ل39 مليون سيدة وفتاة    إنجاز عالمي جديد.. "الرقابة الصحية" تحصل على الاعتماد الدولي من الجمعية الدولية للرعاية    هل المشمش يرفع الضغط؟    صحة دمياط: ضبط 60 كيلو من سمكة الأرنب السامة قبل وصولها للمواطنين    محمد صبحى يوافق على تجديد تعاقده مع الزمالك    ماذا قال كاكا عن مواجهة ريال مدريد ودورتموند في نهائي أوروبا؟    حصاد وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني في أسبوع    تحية لكل من رحل تاركًا صوته خيالاً ومن لا يزال يصافحنا بصوته.. الإذاعة المصرية 90 عامًا من الخيال والمعرفة وصندوق الدنيا وبساط الريح    أحمد آدم: تاني تاني مناسب للأسرة.. وأعتمد فيه على كوميديا الموقف    موعد بدء التقديم لرياض الأطفال وأولى ابتدائي على موقع "التعليم"    بعد علمه بمرضه... انتحار مسن شنقًا بالمرج    نمو الاقتصاد التركي بمعدل 5.7% خلال الربع الأول    21 الف طن قمح رصيد صوامع الغلال بميناء دمياط اليوم    زيزو ليس بينهم.. كاف يعلن عن هدافي الكونفدرالية 2024    وصول جثمان والدة المطرب محمود الليثي إلى مسجد الحصري بأكتوبر "صور"    عمرو الفقي يعلق على برومو "أم الدنيا": مصر مهد الحضارة والأديان    ضمن مبادرة كلنا واحد.. الداخلية توجه قوافل طبية وإنسانية إلى قرى سوهاج    مرة واحدة في العمر.. ما حكم من استطاع الحج ولم يفعل؟ إمام وخطيب المسجد الحرام يُجيب    المفتي: عدم توثيق الأرملة زواجها الجديد لأخذ معاش زوجها المتوفي حرام شرعا    أزهري يوضح الشروط الواجب توافرها في الأضحية (فيديو)    "العاصمة الإدارية" الجديدة تستقبل وفدا من جامعة قرطاج التونسية    بالشماسي والكراسي.. تفعيل خدمة الحجز الإلكتروني لشواطئ الإسكندرية- صور    فرنسا تشهد أسبوع حافلا بالمظاهرات احتجاجا على القصف الإسرائيلى    في اليوم العالمي للإقلاع عن التدخين.. احذر التبغ يقتل 8 ملايين شخص سنويا    رئيس جامعة قناة السويس يُتابع أعمال تطوير المسجد وملاعب كرة القدم    تفاصيل حكم حبس حسين الشحات "سنة".. قانون الرياضة "السر"    محافظ أسوان يتابع تسليم 30 منزلا بقرية الفؤادية بكوم أمبو بعد إعادة تأهيلهم    وجبة غداء تهدد حياة 8 أشخاص في كرداسة    مصرع وإصابة 3 أشخاص إثر حادث تصادم وحريق سيارة ميكروباص على طريق الدولي الساحلي    «حق الله في المال».. موضوع خطبة الجمعة اليوم في مساجد مصر    الحوثيون: مقتل 14 في ضربات أمريكية بريطانية على اليمن    ميرور البريطانية تكشف عن بديل نونيز في ليفربول حال رحيله    تفاقم أزمة القوى العاملة في جيش الاحتلال الإسرائيلي    كيفية الحفاظ على صحة العين أثناء موجة الحر    تعرف على موعد إجازة عيد الأضحى المُبارك    الأعمال المكروهة والمستحبة في العشر الأوائل من ذي الحجة    البابا تواضروس يستقبل وفدًا رهبانيًّا روسيًّا    الطيران الحربي الإسرائيلي يقصف محيط مسجد في مخيم البريج وسط قطاع غزة    تامر عبد المنعم ينعى والدة وزيرة الثقافة: «كل نفس ذائقة الموت»    منتخب مصر يخوض ثاني تدريباته استعدادًا لمواجهة بوركينا فاسو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبل جديد للثورات - ثورة المفكرين (3 3)
نشر في محيط يوم 09 - 02 - 2013


مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية
بقلم د محمد رؤوف حامد

خامسا- المعرفة الإنسانية التغييرية القادمة (أو الموجة الثورية العالمية الجديدة):

يبقى إذن النظر فى المنهج بخصوص التغيير (أو الثورة) لمعالجة السلبيات القائمة وتجنب التفاقم فى تداعياتها. من المفترض أن يجرى هذا النظر فى سياق (أو فى إطار) يستهدف دعم الفعل الثورى الخاص بجماعيات المواطن العادى, والتى تبزغ ضد إنحراف السلطة, من أجل عموم المصالح الجماعية العامة للوطن والمواطنين, وترتقى فوق أية من ملابسات التدنى الى خصوصيات من أى نوع, عرقية أو دينية أو أيديولوجية ...الخ

ولأن المسألة تتعلق بذلك الفعل التاريخى الهائل "الثورة", فإن الأمر يتطلب إعادة التأمل بشأن معنى الثورة.

الحقيقة أن معنى الثورة الآن, فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين, يختلف بقدر كبير عنه فيما مضى. فى زمن ما, كانت الثورة تتمثل فى إنتفاضة العبيد ضد السادة. ثم تطورت الثورة لتصبح عنف شعبى, على درجات مختلفة من التنظيم, ضد الطبقة الحاكمة. ومع الوقت إتخذت الثورة شكل الإنقلاب العسكرى, ثم تلا ذلك شكل العصيان المدنى كقوة لإزاحة النظام الحاكم. لكن, الآن, فى الزمن الحالى, الأمر يختلف جذريا.

أول أسباب الإختلاف (وأهمها) يكمن فى الطبيعة العالمية, والعولمية, لإنتشار (ونفوذ) القوى المفترض القيام بالثورة ضدها.

وثانى الأسباب يكمن فى تطورات العلم والتكنولوجيا, خاصة وسائل المعلوماتية والإتصال, والتى أتت بتغييرات جذرية فى كل من أدوات الفعل الثورى و أدوات إجهاضه.

وأما السبب الثالث فيتمثل فى القصور النسبى فى طول النفَس (أوفى ثبات العزم) عند الشعوب, مقارنة بالقوى الأنانية المتطرفة الثلاث المشار اليها أعلاه. ذلك أن حركة الشعوب لازالت تعتمد بشكل رئيسى على حركة الأفراد بأجسامهم (فى الإضرابات والمظاهرات والعصيانات ... الخ), وذلك بدون رأس جماعية قيادية لهذه الأجسام, تكون قادرة على رسم المسار الثورى (الثورة المصرية نموذجا). أما بخصوص قوى الأنانية والتطرف الثلاث فإن عناصر الدفع فيها لاتظهر بأجسامها بشكل مباشر, وإنما تتحرك من وراء ستار. سواء كان الستار هو المال, أو الأعمال المخابراتية, أو غسيل الأدمغة, أو إستخدام البلطجة (والبلطجية) ... الخ, وهى لاتترك أية فرصة للإنقضاض, ولا تترك مكانها أبدا بسهولة مهما كلفها الأمر.

الأسباب الثلاث السابق ذكرها تعنى أن طبيعة الفعل الثورى صارت فى حاجة الى التغيير بحيث يصبح هذا الفعل أكثر مناسبة للزمن الحالى. إنه بالتأكيد ليس الإنقلابات, وليس العنف الجسمانى, وهو -أيضا- ليس مجرد العصيان المدنى بمعناه التقليدى.

من جانب آخر, لأن القوى المطلوب التصدى لها هى قوى "عولمية", فإن التصدى لها لابد وأن يكون "عالميا".

هنا تكون الحاجة ماسة لإدراك الفارق بين خاصيتى "العولمية" و "العالمية".

من ناحية, بالقوى العولمية نقصد قوى النيوليبرالية والتطرف والصهيونية, وبالعالمية نقصد تلك التوجهات والحركيات والقوى المعبرة - حقيقة - عن المصالح الأساسية المشتركة (و/أو المتماثلة) للشعوب .. عموم شعوب العالم.

ومن ناحية أخرى, العولمية فيها إفتعال, لأن العالم يبدو – تحت "يافطة" العولمة – واحدا بينما هو ليس كذلك, فالغنى يزداد غنىً, والفقير يزداد فقرا, والتوجهات المتطرفة (كالصهيونية وتلك المتذرعة بالدين ... الخ) تتزايد فى السطوة و الإنحراف, وفى قدراتها كوسائل لتفتيت العالم. أما العالمية فتتصل بعموم مصالح الشعوب, أو بمصالح عموم البشر.

من ناحية ثالثة, العولمية ترتكز فى جزء كبير من جوهر أدواتها على منتجات العلم والتكنولوجيا (الإتصالات والمعلوماتية – الأتمتة – النانونيات ...الخ ), الأمر الذى أعطى طبيعة أو نكهة معينة للعولمة, جعلها تعرف أحيانا بالعولمة التكنولوجية. ونتيجة للشره المادى وعدم الحكمة, الكامنين فى الإستخدام النيوليبرالى للعولمة التكنولوجية, فقد إرتفعت قيمة وتأثيرات كافة الماديات (من منتجات وتداعيات العلم والتكنولوجيا). ذلك مع ثبات أو هبوط نسبى فى حركيات الفكر الإنسانى المحض وفى الإنسانيات (التطبيقية) عامة, حتى أن النتيجة قد أصبحت " التنامى (والقبول) للشذوذ المعرفى فى العولمة", والذى تُعدُ بعض المفاهيم النيوليبرالية نموذجا له (مثل أنه يكفى للإقتصاد العالمى أن يقوم به 20% ممن يقومون به, بينما على ال 80% الباقية أن تعيش من إحسانات ال 20% العاملة).

فى تنامى هذا الخلل بين نوعى المعرفة , التكنولوجية العلمية من طرف, وتلك الفكرية الإنسانية من طرف آخر, يكمن الجزء الأكبر من السر بخصوص إستفحال قوى الأنانية, و ضيق الأفق, و المصالح الخاصة. وذلك مع ضعف نسبى موازى فى أدوات قوة الثورة (أو قوة الفعل الثورى) من أجل المصالح الإنسانية العامة, فى الساحات العالمية والمحلية.

وهكذا, مع إشتداد الخلل فى القيم والمعايير والوسائل, نتيجة الأنانية والتطرف, ومع سوء الإستخدام لمسارات وفوائض التقدم التكنولوجى, تتولد الحاجة للتحول الجذرى فى الفعل الثورى. إنه التحول مما كان عليه من أشكال ومعانى فى أزمنة سابقة (مثل الإنقلابات العسكرية والعصيانات المدنية التقليدية) الى معان وأشكال أخرى مختلفة, تقوم على تطوير المعارف و الأفكار (والأنظمة) الإنسانية التغييرية, وتتناسب مع إحتياجات نوعية جديدة إستحضرتها (وتنبهُ لها) "الجماعيات الإنتفاضية" من جماهير المواطن العادى فى الشمال والجنوب, على السواء.

"المعرفة الإنسانية التغييرية" إذن, هى المدخل (والإطار) الأساس للفعل الثورى (العالمى) المنتظر. إنه الفعل الذى يحمل الإمكانية والقدرة على السير فى الطريق (أو الطرق) الأنسب لتخليص العالم من شرور قوى الأنانية والهيمنة والتطرف, وكذلك للتحول من سلبيات العولمة الى إيجابيات العالمية.

الفعل الثورى هنا لايتمركز فى إحداث إنقلاب فى نظم الحكم, وإنما فى نشأة تغيير عالمى جذرى فى الأطر المرجعية الفكرية للمعايير والأحكام. وفى المقابل, يكون التغيير فى نظم الحكم, على المستويات المحلية جزءا من إنعكاسات و تداعيات "الثورة فى المعرفة الإنسانية التغييرية".

أما عن تفاصيل أشكال وأبعاد وحركيات منظومة المعرفة الإنسانية التغييرية (أو الثورية), فإن المقاربة العملية الأنسب لها تحتاج الى (أو تنتظر) "ثورة المفكرين", والتى ستجرى الإشارة اليها فى الجزء "سادسا" من الطرح الحالى.

برغم ذلك, فإنه يمكن هنا التجاسر بطرح عاجل لبعض المداخل (و/أو الخصائص) الأولية لها ( أى للمعرفة الإنسانية التغييرية) , والتى تجىء كما يلى:

1) التغيير الصحى يكون عالمى ومحلى متصل, حيث المحلية أساس للعالمية وأداة تبصير لها, والعالمية إطارا للتكاملات والتوازنات بشأن المحلية.

2) المعرفة الإنسانية التغييرية هى معرفة تطبيقية عبر تخصصية. إنها تقوم على الإستيعاب الكلى للمعارف الإنسانية النظرية المحضة كما تظهر فى مختلف المجالات (فى الفلسفة والسياسة والتاريخ والإجتماع والإقتصاد والتنمية الإنسانية...الخ). وهى ترتكز على الغايات الإنسانية الكبرى, وتأخذ فى الإعتبار الظروف الإنسانية (من أزمات وتباينات), وكذلك حدود الإمكانات المادية الحالية (علم وتكنولوجيا وثروات) وتلك المستقبلية (ماء – طاقة – غذاء ...الخ).

3) شرط أساسى للتوصل الى هذه المعرفة, ولحسن تطبيقها, ولتحقيقها قيمة مضافة تطويرية من خلال التطبيق, أن يكون هناك تواصل ديناميكى ثنائى الإتجاه, بين الأكاديميين والمفكرين من جهة, والقوى المهنية والسياسية الخاصة بالإنسان العادى من جهة أخرى (مثل النقابات والأحزاب). ذلك أنها عندئذ تكون معرفة إنسانية تغييرية "شعبية".

4) الأهداف التطبيقية الجزئية لهذه المعرفة تتضمن أغراضا على غرار:

- منهجة علمية تطبيقية لمحاصرة قوى الأنانية والتطرف.

- نحت نوعية جديدة أكثر مناسبة من العلاقات بين جماهير المواطن العادى, من جانب , وأدوات الإدارة و الحكم من جانب آخر.

- إستيعاب" نقدى خاص" للجزئيات غير العادية فى تجارب تغييرية معينة, مثل الضرائب ومقاومة الفساد فى سنغافورة والسويد, والتنمية الإقتصادية فى الصين وتلك الإجتماعية فى ماليزيا, والتكنولوجيات الجديدة فى الهند, والديمقراطية والقضاء على الجوع فى البرازيل. كل ذلك من حيث الظروف والمميزات والعيوب والمستقبليات.

- التوصل الى وسائل جديدة للتفعيل المعرفى التغييرى لدى عقول العامة, وربط ذلك بالتأثير على عمليات إتخاذ القرار.

- إنضاج (و/أو تطعيم و/أو تغيير الفكر الأكاديمى النظرى المحض) من خلال المقاربات النوعية المنطقية لمشكلات وأمراض الواقع التطبيقى الحقيقى.

يمكن القول إذن أن العالم الآن (ومعه الكرة الأرضية) أكثر مايكون إحتياجا لثورة معرفية إنسانية تغييرية. ثورة إندماج الحكمة بالعلوم والتكنولوجيا, و بالقيم الإنسانية العليا طويلة المدى, وبالحاجات الأساسية للمليارات من جماهير المواطن العادى.

إنه زمن يحتاج الى التحالف بين حكماء وعلماء العالم (ياحكماء العالم إتحدوا).

هنا يمكن القول أنه طالما لم تصل الإنسانية الى نهاية العالم, فإن من المنتظر للفعل الثورى (المعرفى) التغييرى أن يأتى, وأن يتطور.

من هذا المنظور تتحدد الإشكالية (أى إشكالية الثورة) أكثر وأكثر فى حاجة العالم الى "ثورة المفكرين".

وإذا كانت الإشكاليات (أو النماذج) الأكثر إحتياجا وإلحاحا بخصوص "ثورة المفكرين" تكمن الآن فى الثورات العربية فى الجنوب (وعلى رأسها الثورة المصرية), وفى القلاقل التى تملأ الشارع السياسى الجماهيرى فى الشمال (كما جرت الإشارة فى البند ثالثا أعلاه), ترى ماهو المأمول – براجماتيا – من المفكرين فى هذه المناطق من العالم؟ أو فى العالم ككل؟

سادسا - ثورة المفكرين:

1- من "فكر القوة الى قوة الفكر":
فى تقديرنا أن العولمة قد إستحضرت الى العالم, دولا وشعوبا, هيمنة مايمكن تسميته "فكر القوة".

لقد جرى ذلك فى الشمال - أساسا - بواسطة السياسات النيوليبرالية, والتى أدت الى أمواج هادرة من البطالة والتسريح والإنهاء لمجتمعات الرفاه.

وأما فى الجنوب فقد مورس "فكر القوة" من خلال مزيج من السلوكيات الديكتاتورية للأنظمة الحاكمة, ومن علاقات الفساد الخاصة لهذه الديكتاتوريات مع النيوليبراليات المحلية, والتى هى تابعة لمصالحها مع الغرب. ذلك إضافة الى ماأحدثته سياسات (وإنعكاسات) العولمة من تغييرات فى شؤن المال والإقتصاد كانت أضرارها بالنسبة للتنمية فى الجنوب تتوازى مع (بل وربما تزيد عن) منافعها بالنسبة للنيوليبرالية العالمية (من الأمثلة هنا: سياسات التجارة العالمية, وبيع المصانع الوطنية فى إطار ما عرف بسياسات إعادة الهيكلة).

الجديد المضاد ل (أو الذى جاء فى مواجهة) ممارسات فكر القوة فى الشمال والجنوب, على السواء, تَشَكَلْ فى صورة جماعيات جماهيرية هادرة. كانت هذه الجماعيات فى الجنوب مُمَثلة فى الإنتفاضات الثورية العربية, وفى الشمال مُمَثلة فى تظاهرات جماعية كبرى ضد السياسات النيوليبرالية.

هذا الجديد (الشعبى) المضاد لممارسات فكر القوة فى الشمال والجنوب, جاء متوافقا, من حيث التزامن, ومن حيث طبيعة الأمور. وذلك كفعل مضاد لممارسات وأفعال فكر القوة, والتى هيمنت على سلوكيات الأنظمة السياسية الحاكمة.

من هنا, يمكن النظر الى هذه الجماعيات الجماهيرية الهادرة, فى البلدان العربية والأوروبية, بإعتبارها العَرَضْ (و/أو المدخل) العملى التاريخى للنموذج الإسترشادى المضاد, والذى هو "قوة الفكر". من ناحية أخرى, فى غيبة العبور الى قوة الفكر تكون هذه الجماعيات الجماهيرية الهادرة أقل مناعة ضد شراسة إلتفافات "فكر القوة".

ماتوجد حاجة الى تأكيده, بخصوص إمكانية بزوغ "قوة الفكر" كنموذج إسترشادى جديد New Paradigm فى تسيير شؤن الشعوب, هو أن القدوم الوارد لهذا النموذج ليس أمرا خاضعا للصدفة.

إذا كان من الصحيح أن "جماعية" جماهير المواطن العادى فى حركتها الكبيرة الهادرة قد جاءت بتلقائية بالغة, إلا أنه من الصحيح أيضا, وبنفس القدر, أن هذه التلقائية جاءت من قلب الإرادة, وأنها أيضا قد تضمنت الإرادة. بالفعل, كانت هذه التلقائية فى الحركية الجماعية تمثل إرتقاءا مفاهيميا جموعيا يصل الى إدراك "أننا جميعا معا سنكون أقوى من قوة النظام". بمعنى آخر, أن قوة الجماعية (الجماهيرية) قد برزت, وتجسمت, بإعتبارها الملاذ الوحيد القادر على مجابهة قوة النظام (مهما بلغت شراسته وفاعلية أدواته).

قوة الجماعية هنا ليست إلا "قوة فكر جماعى تلقائى" جاءت بحكم الضرورة, التى تنامت وتجسمت مع الزمن, من أجل مواجهة عنف الفساد من جانب النظام (فى البلد العربى), أو عنف التطرف فى السياسات النيوليبرالية من جانب النظام (فى البلد الغربى).

إنها إذن (أى الجماعيات الشعبية التغييرية) تمثل مدخلا إبداعيا فطريا الى "قوة الفكر" فى مواجهة "فكر القوة" عند الأنظمة (و/أو الأحزاب) الحاكمة, فى الشمال والجنوب, على السواء.

هاهى إذن "قوة الفكر" تبزغ كضرورة فى مواجهة "فكر القوة", والذى كان قد جرى تأصيله بواسطة السياسات النيوليبرالية, والتى تُمثل الجانب الأكبر من سلبيات العولمة, الى جانب كونها قوة دفع رئيسية لها.

من هذا المنظور يمكن ل "قوة الفكر" أن تُميز مرحلة جديدة فاصلة فى تاريخ تطور العالم, حيث هى تأتى فى سياقات ناقدة لمرحلة الهيمنة الأحادية لسياسات براجماتية متطرفة, جاءت على أثر تحلل التوازن الدولى الذى ساد فترة زمنية سابقة, عُرفت بفترة الحرب الباردة, والتى كانت قد تميزت بالسياسات التنموية وبالرفاه الإجتماعية.

وإذا كانت الإنتفاضات الجماهيرية الجماعية, فى الجنوب والشمال, يمكن رؤيتها كمدخل مبدأى (أو بدائى) لعصر قوة الفكر (العالمى) فى مجابهة فكر القوة (العولمى), فإنه يمكن جذب الإنتباه الى أن الحاجة الإستشرافية الى قوة الفكر فى مواجهة (وكبديل ل) فكر القوة, قد بدأت فى التشكُل فور سقوط التوازن الدولى السابق بين الشرق والغرب, وبدء ظهور العولمة.

فى هذا الإتجاه تأسست العديد من الكيانات الدولية والقطرية, وذلك فى شكل منتديات ومؤتمرات وجمعيات أهلية ومراكز بحثية تهدف الى مناهضة العولمة, وكشف ماتلازم معها من سياسات إفقار وإفساد وإزدواج فى الشرعيات .

وفى هذا الإتجاه أيضا بزغت كتابات ورؤى محلية تحلل سلبيات العولمة, وتكشف وتكتشف السيناريوهات الممكنة لمواجهتها وتخطيها (من بين ذلك "الوطنية فى مواجهة العولمة" و "القفز فوق العولمة" – دار المعارف – القاهرة – 1999 و 2003 ,على الترتيب). بل وقد ظهرت بالفعل توجهات ترى فى قوة الفكر النموذج الإسترشادى الممكن لمجابهة فكر القوة الذى صاحب العولمة (المستقبل بين فكر القوة و قوة الفكر – المكتبة الأكاديمية – القاهرة – 2006). ولقد ظهر فى هذا الخصوص الرأى بإحتمالية مجابهة العولمة ب "حركيات ذهنية عبر حدودية يمكن بشكل ما أن تكون تطبيقا ثوريا لرأس المال الذهنى فى مجال التحولات المجتمعية" (مقال "العولمة والقوى القاطرة للتقدم: نهايات وبدايات" – الأهرام – 4 يونيو 2004).

هكذا الأمر إذن. العولمة لم تأتى صدفة, ولقد أحدثت قدر من التغييرات التى ساهمت فيما ساد ويسود العالم من عنف تراكمى (إقتصادى وسياسى وإجتماعى). غير أن هذا العنف قد تصاعد الى القدر الكافى لتوليد أفعالا مضادة لمجابهته.

وبينما عنف العولمة قد تأسس على نفوذ التحالفات بين المال والسياسة, فلقد وضح أن المجابهة الرئيسية له (أى لعنف تحالفات المال والسياسة) لايمكن إن تكون إلا بالإعتماد على قوة الفكر.

وإذا كانت قوة الفكر فى بوادرها الأولية (الإرتقائية) قد تجلت فى عظمة جماعية المواطن العادى (من خلال فكرة أننا سنكون أقوى عندما نكون جميعا معا فى رفض الأوضاع القائمة), فإن قوة الفكر ستتنامى أكثر, وتكون أعظم تأثيرا, من خلال مايمكن أن يكون من "جماعية المفكرين".

وهكذا, يمكن القول أن الثورة فى الزمن القادم, والذى يبدأ الآن, هى ثورة قوة الفكر (والتى تأتى كنتاج لثورة المواطن العادى وكتواصل تفاعلى إرتقائى معها).

المسألة إذن أن "اللخبطة" العولمية الجارية حبلى بأعراض لثورة من نوع جديد.

2- ثورة المفكرين – الحاجة والضرورة:

بينما قد مثّلت "جماعية" جماهير المواطن العادى إبداعا كلياً فى مواجهة دكتاتورية أنظمة الحكم فى الجنوب, وكذلك فى مواجهة الإنحراف بالديموقراطية فى الشمال, إلا أن حركيات الشارع السياسى, سواء فى الجنوب أو الشمال, لم تشهد إبداعات أخرى موازية أو تالية, يكون من شأنها إستكمال ودعم الحركيات الثورية (الجماعية) لهذه الجماهير.

فى هذا الخصوص, أخفقت الكوادر السياسية (و/أو الثورية) فى التحالف بشأن مهام إستكمال وحماية المسارات الثورية (أو الإحتجاجية), بل كانت بعضها, فى أحيان كثيرة, تبتعد عن هذه المسارات, بقدر إقترابها من مسارات تتعلق برؤى أو مصالح خاصة.

وهكذا, تُركت الجماعيات الجماهيرية, وماتحمله من عزم, للتحركات التلقائية أو العفوية, وللقوى المضادة, وللتعلم الذاتى , وذلك فى غياب رأس قيادية جماعية تدير تسيير المسار صوب تحقيق مطالب الجماهير.

هذا النقص فى الإبداع المجتمعى, بشأن إستكمال إحتياجات الثورات (أو الإنتفاضات الثورية) الشعبية, يحتاج – فى ظل غياب قوى سياسية قوية ورشيدة – الى رؤى يمكن أن تكون بمثابة البوصلة بالنسبة للجماهير, وأن تتبصر بها (ومن خلالها) القوى السياسية الأقدر على الإنتماء للإطار المرجعى الوطنى,والذى هو أعلى من الحزب أو الجماعة.

بمعنى آخر, هناك حاجة الى "فكر جماعى وطنى" يدعم وصول الثورات أو الإحتجاجات الجماعية الى سقف متطلباتها.

فى هذا السياق يمكن القول بأن العمليات التفكيرية وإن كانت فى الأساس تمارس على مستوى الفرد, إلا أنها ترتقى وتتعاظم فى فاعلياتها ومخرجاتها إذا مامورست – أيضا – على على مستوى جماعى وبشكل تقانى علمى سليم, أى بالحوار وبالإعتماد على المنهج العلمى فى التفكير.

عناصر الفكر الجماعى هذا هم المفكرون, غير أن المقصود بالمفكرين هنا -أيضا- كل من يحمل هما فكريا منظما بخصوص تقدم مجال عمله أو تخصصة أو تقدم المجتمع ... الخ, وليس فقط أصحاب الرأى من الكُتاب والأكاديميين.

فى الواقع الحالى تنحصر مخرجات المفكرين فى مقالات وحوارات تليفزيونية تبدو معظمها صراخية و/أو متضادة. وأما فى وجود فكر ناجم عن جماعية المفكرين , بخصوص مسارات الثورات وسيناريوهات تحقيق مطالب الإحتجاجات, فإن مهمة المفكر الفرد عندها ستكون دعم إنجاز المسار المطروح بواسطة العقل الجمعى للفكر الوطنى, والذى سيكون هو (أى المفكر الفرد) مساهما فيه بشكل مباشر أو غير مباشر .

فى هذا الشأن يمكن القول بأنه, الى حد كبير, قد إنتهى دور المفكر الكبير الأوحد, تماما كما قد إنتهى دور القائد الكبير الأوحد.

مع التطورات والتعقدات المذهلة فى المعارف والأحداث صارت الإنسانية, على مستوياتها المحلية والعالمية (أو الجزئية والكلية), بحاجة الى إرتقاء كل مفكر فرد الى "الإمتداد" بعملية التفكر, وذلك بحيث تتواصل, بشكل صريح ومباشر, مع إمتدادات مماثلة من كل مفكر فرد آخر.

ذلك يعنى أن التفكير كعملية إبتكارية, وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالمعارف والإحتياجات والرؤى والتوجهات التغييرية المجتمعية, يمتد ليصبح جماعيا.

إرتقاء عمليات الفكر والتفكر الى المدار الجماعى, والى الجماعية, يكون عندئذ بمثابة التعويض والعلاج لتقاعس السياسيين عن الإرتقاء الى جماعية المواطن العادى.

ربما أيضا فى هذا الشأن يمكن القول بأن إرتقاء عمليات الفكر والتفكر الى المدار الجماعى, والى الجماعية, سيكون بمثابة المدخل الى الميكانيزم التصحيحى (أو التعويضى) لتسيُد سطوة المال (خاصة من خلال سؤ الإستغلال السياسى والمادى للعولمة التكنولوجية) على المصالح العامة والحقوق الإنسانية لكتل جماهير المواطن العادى.

وفى الأساس, من المنظور التطبيقى قريب المدى (فى مصر كمثال),يكون هذا الإرتقاء إمتدادا ودعما للجوهر فى الإحتياجات والآمال (الجماعية) لجماهير المواطن العادى. ذلك بحيث تتمكن هذه الجماهير من إنجاز الأهداف "الجماعية" التى إرتقت الى ممارسة الثورة من إجلها (كما حدث فى بزوغ ثورة 25 يناير), ولا تتعرض للإنحراف من خلال قصور ما فى قوى السلطة (المجلس العسكرى), أو من خلال مرجعيات سياسية أدنى من مستوى مرجعية الثورة أو مرجعية الوطن. وذلك ( أيضا وبالتمام) كما حدث فى مسار 25 يناير, نتيجة قصور ومحدوديات فى الأفق والمرجعيات عند القوى السياسية, والتى تعامل بعضها - أفرادا وجماعات- مع الثورة, من منظور خصخصة الفرصة. من هذا المنظور, عند بعض الكوادر السياسية اللامعة, كان الطموح يتعلق بما يشبه خصخصة الزعامة. وأما عند الجماعات السياسية المتخذة من الشكل الدينى إطارا – أو حصانا – لها, فالطموح يبغى خصخصة السلطة (فى البرلمان والرئاسة والحكومة,...الخ). كل ذلك, من هؤلاء الأفراد الكوادر, أو من هذه الجماعات, بزغ كبديلا أنانيا للثورة وللوطن.

3- ثورة المفكرين- الأهداف والوسائل:

بداية, يمكن القول (أو التوقع) بأن ثورة المفكرين ستتمثل فى جماعيتهم, أى فى "جماعية المفكرين". ذلك بمعنى أن يضيف المفكرون الى ممارساتهم (وواجباتهم) الفكرية مسؤلية (وواجب) العمل معا.

أما عن الأشكال العملية لطريقة عمل المفكرين معا فمن الممكن أن تتباين كثيرا وأن تشهد إبتكارات عديدة. وعليه, فإن أهم مايمكن الإشارة اليه هنا, فى حيز هذا الطرح التمهيدى ل"جماعية المفكرين", هو أن الغرض من هذه الجماعية يتمحور فى إرتقاء المفكرين الى تقديم أعظم مايمكن تقديمه (جماعيا) من رؤى, وإستراتيجيات, ومقترحات يكون من شأنها التوضيح, والدعم, والمساعدة, والمساندة, للمتطلبات التغييرية التى تنشدها جماعيات المواطن العادى فى موجاتها الثورية, أو التى تكون جماهير المواطن العادى فى حاجة اليها لرفع معاناة ما عنها, أو لتجنيبها هذه المعاناة.

من هذا المنظور تكون "جماعية المفكرين" أداة ثورية على المستوى المجتمعى, و/أو الوطنى, و/أو الإنسانى العام. إنها عندئذ تكون مُنيرة لجماعيات جماهير المواطن العادى, وهادية للقيادات السياسية.

الإضافة الثورية لجماعية المفكرين يمكن أن تتجسم فيما يلى:

أ‌) جماعية المفكرين كأداة لسد نقص طارىء (أو حديث) فى الإبداع المجتمعى. هذا النقص يتمثل فى الفجوة (أو الهوة) بين الجماعيات الإبداعية لجماهير المواطن العادى (من حيث جدتها وجوهرها ومقاصدها) من ناحية, وأوجه القصور والبراجماتيات الموازية, من جانب النخب السياسية التقليدية (الأحزاب والحكومات), تجاه إحتياجات جماهير المواطن العادى, من ناحية أخرى.

ب‌) جماعية المفكرين كأداة منتجة لماهو أعلى بكثير من إمكانات المفكر الفرد, أى كأداة مُحدثة للسينيرجيا (أى Synergism), أو للتضافرية, والتى يمكن أن تصنع من هذه الجماعية بديلا للمفكر الكبير الفرد فيما يتعلق بالقضايا المجتمعية (أو الوطنية أو الإنسانية) المستقبلية المعقدة.

الإشكالية هنا أنه مع تفرع وتعقُد هذا النوع من القضايا (خاصة فى ظل تطورات المعارف وتطورات العولمة, وكذلك تطورات تداعياتهما) صار من الصعب (بل ويكاد أن يكون من المستحيل) أن تتعدى إمكانات المفكر الكبير الفرد, بخصوص المساهمة بالمنظورات الكلية الكفئة, حدود مجال تخصصه (أو عمله) سواء هو التاريخ, أو الفلسفة, أو العلوم السياسية, أو علم الإجتماع, أوعلم النفس, أو العلوم الطبيعية, أو علوم الديانات, ...الخ,...الخ.

من ناحية أخرى, يمكن القول بأن المفكر الكبير الفرد, المتخصص فى مجال ما بعينه, وإن كان يستطيع أن يدلى بدلوه (ورؤاه) كفرد فى القضايا المجتمعية (أو الوطنية أو الإنسانية) المستقبلية المعقدة, إلا أن نضج عطائه (بالنظر الى تعقدات القضايا وكلياتها وشمولياتها), سيكون جزئيا, أى أدنى من إستحقاقات معالجة هذه القضايا. ذلك إضافة الى إنخفاض مستوى موضوعية رؤاه, الأمر الذى قد يرجع الى الإنحياز -التلقائى- لمرجعيات التخصص, أو لمرجعيات أيديولوجية خاصة.

ت‌) جماعية المفكرين كبوتقة (أو كمصدر) لثراء التنوع, الأمر الذى يمكن أن يقود لإنعكاسات حميدة لهذا الثراء على الحركيات المجتمعية فى كلياتها, وفى دقائق تفاصيلها.

ث‌) جماعية المفكرين كوسيلة ذهبية Golden Tool (أى يكاد لايُعلى عليها) فى تقديم أحسن معرفة ممكنة, فى الوقت الذى يحتاجها فيه المجتمع. ذلك بمعنى تقديم هذه المعرفة تماما فى الوقت المناسب, أو مايمكن أن يُطلق عليه Just in Time Knowledge. وعليه, فإن جماعية المفكرين يُمكن أن تُعد وسيلة ذهبية للإرتقاء المجتمعى, خاصة فى ظل الظروف الأكثر حرجا و/أوتعقيدا.

ج‌) جماعية المفكرين كجسر لذهاب المجتمع الى المستقبل لإستحضار أحسن مافيه (وأحسن ممكناته) مناسبة.

ح‌) جماعية المفكرين كمدخل معرفى/علمى لوضع أساسيات لأحسن إدارة ممكنة للمجتمع, وذلك كبديل للإعتماد (و/أو الإنحياز) لأية أيديولوجيا ما, منفردة بذاتها, والتى قد تكون منحرفة عن الموضوعية المناسبة للواقع وللمستقبليات, وذلك لطبيعة إنغماسها فى خصوصيات من الجماليات والمثاليات.

خ‌) جماعية المفكرين كوسيلة لتنشيط (وحسن إستيعاب) الذكاء المجتمعى, والذى يُعد أساسا لإرتقاء المجتمعات والأمم.

4- ثورة المفكرين – القضايا:

مما سبق يتضح أن القضايا المقصودة للتناول والحل من خلال ثورة المفكرين هى قضايا مجتمعية كلية مركبة, وهى ترتفع – مهما بلغت دقتها وخصوصيتها – فوق مستوى المجالات أو التخصصات, وكذلك فوق مستوى تقليديات العمل السياسى.

برغم أن القضايا المجتمعية المركبة من هذا النوع ربما تزخر ببعض الإختلافات بين مجتمع وآخر, إلا أن التعامل معها بالتناول الفكرى الكلى المحض, بواسطة جماعية المفكرين فى المجتمع المعنى, سيقود الى توليد معرفة تطبيقية جديدة, مفيدة لبقية المجتمعات.

من الأمثلة, بخصوص القضايا المجتمعية (وعبر المجتمعية) التى برزت من خلال الجماعيات الثورية والإنتفاضية فى البلدان العربية والأوروبية, يمكن الإشارة الى مايلى:

1) السُلّم (أو الترتيب) المرجعى للإنتماءات (الدين – الوطن – العائلة – الأيديولوجيا – الإنسانية ... الخ).

2) إشكاليات عدم التكافؤ فى فرص العيش ( و/أو فى الممارسة الديمقراطية), والميكانيزمات الممكنة لتخطيها.

3) الحريات بكل أنواعها, ومستوياتها, والمتطلبات والضمانات الضرورية لإتاحتها و الحفاظ عليها.

4) الطريق (أو الطرق) الى مجتمع الرفاه, وفقا للخصوصيات المجتمعية (من إمكانات ومشكلات,...الخ), وتخطيا للتشوهات التى تحدث بواسطة الرؤى السياسية الخاصة, مثل النيوليبرالية, ومثل سؤ إستغلال العولمة التقانية.

5) أساسيات النشاط السياسى المُهذب ( والذى يمكن تسميته Good Political Practice) , أى الذى لايقصد الى "إستغفال" و/أو سرقة الآخر, أو الغير, أو العامة. وكذلك وسائل المحافظة على تهذيب الممارسات السياسية من سؤ إستخدام ماهو غير سياسى فى الأساس, مثل العقائد الدينية.

6) الحفاظ على الوعى من التشوه, خاصة الوعى الوطنى, والوعى الإنسانى.

7) المقاومة والتجبيه ضد الفساد, والإستبداد, والعنف.

8) منهجيات دعم الجماعيات الجماهيرية, ودور النخبة السياسية والبيروقراطية و الفكرية تجاهها.

9) أصول الحكم فى زمن القرن ال 21 عموما, وعلى المستويات الوطنية.

10) قضايا وحدة الوطن, والتى بينما هى قضايا مصيرية طويلة المدى, فإنه تجرى شيطنتها بواسطة مقاربات وجهات أجنبية عدائية, بالتعاون مع أخرى محلية عميلة, أو جاهلة.

5- ثورة المفكرين – النماذج قريبة الإحتمال:

لاشك أن الجماعيات التى تشكلت مؤخرا (الى حد ما بدءا من 2010) من جماهير المواطن العادى تمثل منبرا جديدا لتدافعات (أو تداعيات) سياسية من نوع جديد (سواء هى إيجابية أو سلبية). وبينما الجدة فى هذه التدافعات تدل, بشكل أو آخر, على تخطى هذه الجماهير لمصداقية السياسيين (من الأطياف المختلفة), فإنها تفتح الباب للجدّة الخاصة بجماعية المفكرين.

المسألة إذن تتمثل فى نشأة تدافعات سياسية صارت موجودة بالفعل, ولم تؤدى بعد الى الحد الأدنى من الإستقرار السياسى الذى يمكن أن يُمهد لتطورات (أو إمتدادات) خطية حميدة محتملة يمكن التنبؤ بها, ولو فيما يختص بالزمن القريب نسبيا.

هذه الوضعية من التدافعات السياسية, والتى أدت الى مايمكن إعتباره فجوة (أو إضطرابات) فى الإنتقال الى مرحلة مابعد جماعيات جماهير المواطن العادى, هى ذاتها الوضعية الدافعة الى إحتمالية (وإمكانية) بزوغ "جماعية - أو ثورة- المفكرين".

فى هذا الصدد, ربما يمكن القول بتوفر قدر من الظروف الموضوعية التى تؤدى الى إحتمالية عالية نسبيا لبزوغ جماعية (أو ثورة) المفكرين فى بعض البلدان (أو المناطق), والتى يمكن الإشارة اليها كمايلى:

- مصر / تونس:

ظروف ومفارقات عديدة أدت الى قدر من التشابه بخصوص ملابسات وتداعيات الإنتفاضة الثورية التى شهدتها كل من مصر و تونس.

الأكثر أهمية فى هذه الشأن أن سياقات الإنتفاضة الثورية فى كل من مصر وتونس قد تميزت بدرجة عالية من التحضر (فى الرؤية والسلوك) من جانب الجماهير, وأيضا درجة تحضر نسبية ملحوظة من رأسى النظامين, تمثلت فى عدم الولوج الى حرب أهلية من أجل الإستمرار فى الإحتفاظ بكرسى الرئاسة, وذلك أيا كانت الأسباب التى أدت بهما الى ذلك.

من ناحية أخرى, وبرغم ما شابه تصرفات المجلس العسكرى فى مصر من قصور وتردد وأخطاء فى أرض الواقع, إلا أن العسكر فى البلدين كانا (ولايزالا) فى منأى عن الصراع من أجل السلطة, والى حد كبير حارسين للأمن القومى فى مرحلة مابعد بزوغ الثورة وحتى الإستقرار المأمول.

من ناحية ثالثة قادت السياقات فى أرض الواقع الى هيمنة نسبية أعلى للإتجاهات السياسية المستندة الى الشكل الدينى, مما أدى (ويؤدى) حاليا الى صراعات فى التوجه الأيديولوجى, خاصة بين مايبدو دينى ومايبدو ليبرالى أو علمانى.

هذه الملابسات الثلاث, فى مجموعها, تقود الشارع السياسى فى البلدين (مصر وتونس), بالتدريج, الى حيز الذهاب الى التفاعلات والتعمقات ذات الطبيعة الذهنية والفكرية فيما يتعلق بالإطار الثقافى للسلطة.

وهكذا, وضعية الشكل والحركيات فى الشارع السياسى فى كل من مصر وتونس تستدعى الفكر والمفكرين, الأمر الذى يوفر مناخا مواتيا لبزوغ جماعية المفكرين, والذين يزخر بهم كل من البلدين.

- الولايات المتحدة الأمريكية:

توقع حدوث شيئا على غرار الثورة على مستوى المفكرين فى الولايات المتحدة الأمريكية يرجع الى تصاعد فى عدم رضاء المفكرين من كبار الأكاديميين الأمريكيين عن السياسات الأمريكية, سواء داخل أمريكا أو خارجها. من نماذج عدم الرضاء يأتى كتاب مستقبل الثورات الذى جرت الإشارة اليه أعلاه, كما يأتى فكر أكاديميين كبار مثل ناعوم تشومسكى (عالم اللغويات), و الإقتصادى جوزيف ستيجلتز. ذلك إضافة الى حدوث قدر من التغيير فى الإنتباه السياسى عند المواطن الأمريكى العادى من جرّاء الأزمة المالية (2008).

وربما يمكن القول أيضا أن وصول أوباما الى الرئاسة الأمريكية, ومن بعد ذلك نجاحه فى التمديد الى فترة ثانية, وخوضه الصراع (الإنتقائى) من أجل التأمين الصحى العام للمواطن الأمريكى (ومؤخرا من أجل إستحقاق الدولة لفرض مستوى جديدا من الضرائب من أجل زيادتها كأداة لمعالجة مشكلات مثل البطالة), إنما كلها أمور تشير الى مقاربات أولية للتغيير فى الفكر السياسى الأمريكى.

هذا, وإن كانت الجماعية الفكرية التغييرية فى أمريكا محتملة, إلا أنه من غير المحتمل أن تؤثر هذه الجماعية فى إتجاه إحداث تغيييرات رئيسية فى علاقات السلطة فى أمريكا فى وقت قريب.

من جانب آخر يمكن التوقع بأن الإنعكاسات الإيجابية للجماعية الفكرية الأمريكية المحتملة ستكون خارج الولايات المتحدة, بأكثر بكثير مما ستكون عليه داخلها, وذلك لإعتبارات أمريكية صرفة تتعلق أساسا بلعلاقات السياسية للقوى المالية.

- المنطقة الأوروبية:

القوى الممكنة الدافعة لبزوغ فكر جماعى تغييرى فى أوربا ربما تأتى فى سياق تصاعد فكرى كردود أفعال للسياقات التى أدت الى جماعيات المواطن العادى. كما أنها ربما تأتى أيضا كنتاج للمقارنات بين ظروف الرفاه الإجتماعية للمواطن الأوروبى فى الدول الإسكندنافية, وتلك فى بقية البلدان الأوروبية, حيث الصعوبات المعيشية المتصاعدة (خاصة فى التوظيف وتكلفة الحياة)

- فنزويلا:

الإشارة الى فنزويلا كبلد مرشح لجماعية المفكرين تأتى فى سياق تصاعد التدافع السياسى الصريح بين النموذج الإشتراكى من جهة, والنموذج النيوليبرالى من جهة أخرى. الأمر الذى يجعل هذا التدافع السياسى يمكن أن يقود الى العمل الجماعى الفكرى يعزى الى عاملين رئيسيين.

العامل الأول يتعلق بتصاعد فى الوعى السياسى عند المواطن الفنزويلى الفقير, وأما الأمر الآخر فربما ينشأ فى سياق عدم الرضا, عند أصحاب الفكر المحض فى فنزويلا, عن لجوء شافيز لتغيير الدستور خصيصا للتمهيد له للترشح لفترة رئاسة ثالثة.

- المنظمات المدنية عبر الدولية:

ربما يجدر أيضا جذب الإنتباه, فى معرض الإشارة الى النماذج قريبة الإحتمال, الى وجود منظمات - شبه فكرية - عبر دولية, يمكن (عند توافقها) أن تلعب أدوارا محسوسة فى جماعية المفكرين على المستويات المحلية والدولية. إنها – على وجه الخصوص – المنظمات المناهضة للعولمة.

- ويكيلكس:

مع بزوغ الفكر الجماعى, ومع حدوث قدر من التوافق بين المنظمات المناهضة للعولمة, يمكن التوقع بنشأة فكر شعبى عالمى فى إتجاه التعضيد لمنظمة ويكيلكس, ولمنظمات أخرى على غرارها. ذلك حيث مع قوة الفكر تتزايد الحاجة الى الشفافية والى المعلوماتية الخاصة بتحجيم فكر القوة.

وكخاتمة لهذا الطرح, يمكن القول بأن العقد الثانى من القرن الحادى العشرين قد بات مؤهلا لأن يشهد مقاربات فكرية (نوعية) جديدة لمشكلاته وعُقدِه. إنها مقاربات تنشأ فى إطار سياقات وإمتدادات للجماعيات (وأو الثورات) الشعبية التى بزغت مؤخرا فى الجنوب والشمال على السواء.

وفى الوقت الذى يمكن فيه لهذه المقاربات الفكرية أن تكون داعمة لجماعيات جماهير المواطن العادى فى الشارع السياسى, فإنه من المتوقع منها أن تحمل بذورا لتغييرات أصيلة فى الفكر الأكاديمى (والتنموى) فى مجالات المعارف والعلوم الإنسانية (السياسة – الإقتصاد – الإجتماع ... الخ). وهى تغييرات قد تصل الى حد بزوغ إنقلابات (و/أو تصحيحات) فى النظريات القائمة.

من جانب آخر, يمكن القول بأن التغييرات الفكرية عندما تأتى من رحم معاناة (وإعتراضات) الملايين من جماهير المواطن العادى, فى الشمال والجنوب على السواء, فإنها ستكون تغييرات جذرية الى حد كبير, الأمر الذى سيجعل منها مصدرا رحبا لتغييرات بسيطة متصاعدة على مدى زمنى طويل نسبيا (عدة عقود).

وهكذا, معاناة (ومتطلبات) المواطن العادى تصبح المحور الرئيسى (وقوة الدفع) للتغيير.

اقرا الاجزاء السابقة

مستقبل جديد للثورات - ثورة المفكرين (1 3)

مستقبل جديد للثورات - ثورة المفكرين (23)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.