ما زال مسلسل التعذيب الوحشي للمعتقلين من المتظاهرين السوريين الذين ثاروا لكرامتهم على "نظام الأسدين"، يجري على قدم وساق. ففي آخر مشهد عرضته الفضائيات ومواقع الإنترنت ظهر شيطان في صورة إنسان وقد خلع قميصه .. ويضرب بعصى غليظة أحد المعتقلين بكل قسوة في كل موقع من جسمه، وبِكمٍّ مروع من الحقد والكراهية التي كانت بادية بوضوح على وجهة، يعاونه في ذلك ثلة من زبانية الأمن السوري وهم يركلون الضحية بكل وحشية وقسوة لا يمكن أن تصدر عن بشر. ثم يأتي مشهد آخر يظهر فيه عدد من المعتقلين وقد قيدت أيديهم خلف ظهورهم .. وتتعرض وجوههم للكمات مبرحة وركلات أرجل جلاديهم بأحذيتهم الغليظة. وكم راعني ذلك المشهد الذي أظهر اثنين أو ثلاثة من هؤلاء الجلادين وهم يتناوبون على تعذيب معتقل لا أعتقد أن عمره يزيد عن العشرين عاماً، بالصفع المبرح والمهين على وجهه، وبركل رأسة بكعوب أحذيتهم. ولم يكتفوا بذلك بل أخذ أحدهم "يفرك" بحذائه رأس الضحية بكل ما أوتي من قوة، وكأن تلك الضحية ليست أكثر من حشرة يريد سحقها!!. والواقع أن هناك عددا من المؤشرات التي تدل على أن هذه الممارسات الإجرامية، باتت سلوكا عاديا يمارسة جلادو النظام دونما وجل أو خجل، ما يعني- في نهاية الأمر- أن "نظام الأسدين" بات جسماً غريباً عن الشعب السوري، وأن إمكان تجسير العلاقة بينه وبين الشعب أصبح مستحيلاً. ولعل من أبرز المظاهر التي تدل على صدق هذا القول: 1- باتت مشاهد تعذيب المعتقلين ممن يشاركون في المظاهرات تتكرر بصورة ممنهجة ومتواصلة، كما أن وحشية التعذيب آخذة في التصاعد بشكل غالباً ما ينتهي بالضحية إلى الموت. فالنظام لا يخجل من أن يلقي القبض على متظاهر .. ويقوم بحجزه وتعذيبة لأيام عديدة حتى تصعد روحه لبارئها، ثم يقوم جلادوه بتسليم جثمان الضحية لأهلها دون أن يحاولوا إنكار فعلتهم أو إخفاء آثار التعذيب من عليها. وإذا ما حاولت الفضائيات ومواقع النت إثبات جرائم هذا النظام عن طريق بث تلك المشاهد، وإذا ما حاولت الهيئات الأممية ومنظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية استنكارها وإدانتها لهذا التعذيب الوحشي، فإن هذا النظام لا يتورع عن قلب الحقائق رأساً على عقب، فيدعي بأن تلك المشاهد جرى تزويرها و "فبركتها" لصالح جهات خارجية تسعى لإشاعة الفوضى والقلق والاضطراب في الشارع السوري الذي يدعي بأنه يدين له بالولاء التام. ويبدو أن "نظام الأسدين" لا يمل ولا يخجل من تكرار هذا الادعاء، برغم مشاهد المظاهرات الصاخبة التي انتهت إلى المناداة بإسقاطه وإعدام رئيسه بشار الأسد بعد ستة شهور متواصلة من عمليات القتل والتعذيب والتشريد التي مارسها جلادوه بحق المتظاهرين المسالمين. فهذا الأسلوب الدموي واللاإنساني في في التعامل مع المعتقلين الذين ينادون بالحرية، أصبح معلما رئيساً وعاديا من معالم حكم النظام القائم في سوريا. 2- إطلاق النار على ركب الشهداء أثناء تشييعهم أصبح هو الأخر مشهدا عاديا، اعتقاداً من النظام بأن زرع الإرهاب والخوف في قلوب السوريين وإرهابهم وإذلالهم هو الوسيلة الوحيدة لقمع المظاهرات. كما لا يتورع عن قتل عدد من هؤلاء المشيعين واعتقال العشرات منهم وخطفهم وتعذيبهم، إمعانا في زرع الخوف لدى كل من يشارك في تشييع أحد ضحايا التظاهر. 3- بات عقد مجالس العزاء- بالنسبة للنظام- أمراً محرما، حيث لا يتورع جلادوه من استخدام الرصاص الحي في فضها. ولا مانع لديه من وقوع بعض الشهداء والجرحى من أجل فض هذه المجالس، والقيام باعتقالات تشمل بعضاً من أهل الضحية والمعزين. ولعل ما حدث مؤخراً في مجلس عزاء أحد المغدورين من المتظاهرين الذي حضره بعض السفراء الأجانب، ما يدلل على صدق ما يقال عن هذا السلوك الهمجي المشين. فبعد أداء هؤلاء السفراء واجب العزاء ومغادرتهم للمكان، قام جلادو النظام بإطلاق الرصاص فوق رؤوس المتظاهرين بهدف تفريقهم، ما أدى لوقوع إصابات بين المعزين. 4- عدم إعطاء النظام أي أهمية للضغوط التي يمارسها المجتمع الدولي عليه، سواء على المستويات العربية أو الإقليمية أو الدولية، والتي غالباً ما تأتي في صورة شجب واستنكار وفرض عقوبات على رئيس النظام ورموزه. 5- تنكر النظام لكل الوعود التي يقطعها على نفسه سواءً حيال مواطنية أو الوسطاء الذين يأتون إليه بقصد وقف سيل الدم الذي يخضب مدن سوريا وقراها وضياعها بيد الجيش وقوى الأمن والشبيحة، وليساعدوا النظام على الخروج من المأزق الذي وضع نفسه قبل الوطن السوري فيه. 6- تصميم هذا النظام على الأخذ بالخيار الأمني في التعامل مع المتظاهرين وقمع المظاهرات، مع إدراكه بأن هذا الخيار قد ينتهي به إلى الفشل في قمع التظاهر ونشر الخوف بين الشعب الذي ينادي بإسقاط النظام وأعدام رئيسه أيضاً. 7- في ظل فشل الخيار الأمني في قمع المظاهرات، بات من المؤكد أن النظام سيلجاً إلى الخيار الأخير الذي يعتقد بأنه قادر على استثمارة لصالح بقائه وبقاء عائلة الأسد في الحكم، ونعني "إثارة فتنة طائفية" يكون وقودها الشعب السوري بكل مذاهبه وأعراقه وطوائفه، بما فيها الطائفة العلوية التي ينتمي إليها بشار. في هذا المقام، قد يقال بأن لجوء النظام إلى محاولة استقطاب ما يسمى بالأقليات (إذا جاز هذا التعبير) في سوريا، ناجم عن اعتقاده بأن هذا الاستقطاب سيساعد في حسم المعركة مع المتظاهرين لصالحه. ولتحقيق هذا الهدف، يدعى النظام أن الغالبية العظمى من المتظاهرين ينتمون للطائفة السنية دون غيرها، فيضع بذلك سوريا كلها أمام خطر أشد، وهو تقسيمها لفريقين متصارعين: أحدهما يمثل الأكثرية وهم السنة، والآخر يمثل الأقلية ويضم باقي الأقليات، الأمر الذي يعزز- في نظره- بقاءه في الحكم. بينما الحقيقة التي يدركها السوريون جيداً أكثر من غيرهم، هي أن المتظاهرين الذين يملأون شوارع المدن والقرى السوريه ليل نهار، يمثلون الشعب السوري بكل مكوناته من الطوائف والمذاهب والأديان والأعراق، بما في ذلك الطائفة العلوية التي أعلن عدد من رموزها تبرأهم من بشار وجرائمة، كما وُضع أخرون منهم تحت الإقامة الجبرية خشية انظمامهم للثورة. والأكثر من ذلك أن حبل الكذب قد امتد به ليصل إلى حد الادعاء بأنه الحاضن لهذه الأقليات، وأنه الوحيد القادر على توفير الحماية لها. بينما الحقيقة هي أنه هو الذي يحتمي بها ويستغلها في تبرير الجرائم التي يرتكبها بحق المتظاهرين، الذين يطالبون بإسقاط النظام الذي سلبهم أعز ما يملكون، وهو الشعور بالعزة والكرامة والانتماء الحقيقي للوطن ، والذي عمل "نظام الأسدين" على سلبه من السوريين على اختلاف طوائفهم. 8- من الواضح جيداً أن لدى بشار الأسد يقين بأنه سيكسب المعركة مع المتظاهرين في النهاية، اعتقاداً منه بأن قادة الجيش وقوى الأمن وما يسمون بالشبيحة الذين جرى اختيارهم ليقوموا بدور فرق الموت، إنما يدينون بالولاء المطلق له ولأسرة الأسد. ومهما يكن من أمر، فإن منبع هذا الشعور- في رأي الكثير من المحللين السياسيين- يأتي من البيئة التي تربى فيها بشار الأسد منذ نعومة أظفاره وحتى لحظة توليه الحكم في سوريا. فهذه البيئة تعتبر- من وجهة نظر هؤلاء- المسئولة عن تكريس هذا الشعور في عقل بشار ووجدانه، لدرجة أصبح معها يرفض رفضاً قاطعا، التسليم بضرورة تقديم تنازلات من أي نوع حيال رياح التغيير التي تهب الآن على سوريا والوطن العربي، وهي رياح تجمع الشعوب العربية والدول الإقليمة والقوى العالمية، بأنها ستعصف- في النهاية- بكل الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي. ومهما يكن من أمر، فإن هذه المظاهر وغيرها الكثير، تثبت أن "نظام الأسدين"، لن يتخلى طواعية عن استخدام الخيار الأمني في قمع المظاهرات. بل تثبت أيضاً أن قناعته بهذا الخيار، ترقى لدرجة اعتباره الوسيلة الوحيدة القادرة على قمع المظاهرات التي باتت تغطي كل مدن سوريا وقراها وطوائفها وأعراقها. هنا يتساءل المرء: في ظل المعطيات الراهنة على الأرض .. إلى أين يتجه الوضع في سوريا ؟. هذا ما سنحاول الإجابة عليه في المقال التالي إن شاء الله.