" إذا غاب عنا جسده .. فإن أعماله لا تغيب " هكذا عبر نجيب محفوظ عن حزنه لفقدان الأديب الكبير يحيى حقى عام 1992 ، قائلا أن أعماله آثرها باقى فى نفسه و لن يمحى أبدا . اليوم تطل علينا ذكرى مولد صاحب القنديل " 7 يناير 1905 " ، و التى مازالت أعماله تضئ صفحات الأدب المصرى و العربى كأحد مؤسسى القصة القصيرة .
يتحدث نجيب محفوظ فى مقدمة كتاب " رسائل يحيى حقى إلى ابنته " لنهى حقى و الصحفى ابراهيم عبد العزيز و تقديم نجيب محفوظ ، أن هذا الكتاب يتناول الجوانب الإنسانية لأديب كبير باعتبار أن الجانب الإنسانى يلقى الضوء على أدبه و اختياره لموضوعاته و كيفية معالجته لها و رؤياه الفنية ، فحقى يمثل كتابا خاصا حافلا بكل القيم و المعانى الإنسانية النبيلة ، فكان معلما لكل المبدعين و آبا لكل الأدباء .
و طالب محفوظ بجمع الأعمال الكاملة ليحيى حقى فى مكان واحد خوفا عليها من الضياع ، و أن تتاح فى المكتبات العامة و الخاصة ، هذا فى رأيه أقل عمل يقدم احتفالا بذكرى حقى ، فلا يرى الاحتفال و التقدير بالتماثيل أو إطلاق اسم الأدباء على الشوارع ، فهناك شارع نوبار ، و لكن قليلا من يعرفون من هو " نوبار " ؟ ، و أن ذكرى صاحب القنديل ستظل تضئ حياتنا دائما .
عن بداية معرفته بيحيى حقى كانت عندما قرأ لأول مرة رائعته " قنديل أم هاشم " معلقا عليها بقوله أعجبتنى لدرجة أنها " خيشت فى عقلى " ، و أنه عشق حقى دون أن يراه فأعجب بأدبه و جمال أسلوبه قائلا عنه أنه من مؤسسى القصة القصيرة فى مصر و العالم العربى .
مما دفعه للتعرف عليه فسأل عنه و عرف يعمل بالسلك السياسى ، و كان أول لقاء بينهم فى نادى القصة ، و كان يزوره فى منزله مع آخرين و يحدثهم حقى عن الأسلوب و دقته و الأشياء التى اهتم بها فى حياته ، و اقترب العملاقان أكثر عند تأسيس " مصلحة الفنون " التى تولاها حقى كأول و آخر مدير لها و كان مساعديه محفوظ و أحمد باكثير .
و يقول محفوظ أنه اقترب منه أكثر حيث كان مديرا لمكتبه ، و استطاع أن يلمس فيه البساطة و التقدمية و الإقدام و الاستنارة دون إدعاء ، و أنه لم يكن أبدا يتعامل بمنطق الرئيس و المرؤسيين بل كان دوما يتعامل بالود و الصداقة ، و يترك مكتبه و يجلس معهم ، و عند المغادرة يركب محفوظ مع حقى سيارته ليوصله إلى المنزل ، فكانا يتبادلان أطراف الحديث فى المكتب و السيارة عن الأدب و الحياة .
يحكى محفوظ أنهم أحيانا كانا يختلفان فى وجهات نظر ، و لكن اختلاف بين اثنين لديهم استعداد للخلاف ، كما لديهم استعداد للاتفاق ، و هو شيئا نفتقده كثيرا فى يومنا هذا ، و لم تكن علاقتهم فقط مغلقة على علاقة أديب بأديب بل تعمقت أيضا على المستوى الإنسانى .
و يتحدث محفوظ عن استمرار علاقتهم على الرغم من مباعدة ظروف الحياة بينهم ، حتى فى مرحلة الشيخوخة ، حيث فضل حقى الانعزال عن الحياة العامة و لكنهم ظلا يسألا عن بعضهم عبر الهاتف .
عندما فاز محفوظ بنوبل للآداب قال أنه أهداها ليحيى حقى كواحد من المبدعين الممتازين الذين يستحقوها ، قائلا أن القصة القصيرة التى يكتبها حقى من أجمل ما كتب فى الأدب المصرى و العربى المعاصر ، فهو يعد من أحد مؤسسى هذا الفن .
مضيفا على قلة ما أبدعه حقى فيعد " نقاوة " تبقى ما بقى للأدب أن يقرأ ، و إن كل آثاره مرشحة للبقاء و الخلود ، و لم يكن مبدعا فقط فى القصة بل كان من المبدعين فى كتابة المقال و النقد أيضا .
و هذة مقتطفات من رسائل يحيى حقى لابنته و أول فصل فى الكتاب يتحدث عن تجربة الصحفى ابراهيم عبد العزيز الشخصية مع يحيى حقى ، جميعها تعرفنا بالأديب الإنسان : يقول حقى : لا أدرى ماذا كنت سأفعل فى شيخوختى ، إذا لم يكن بجانبى البرنامج الثانى و القرآن الكريم ،و هما مصدر كل حصيلتى الثقافية ، أتمنى لهم امتداد فترة الإرسال .
و من ضمن مجموعة ردوده على قراءه قوله : أعتقد أن خير مدرسة لكاتب القصة هو ممارسة الحياة و القراءة لكبار الكتاب فى الغرب و الشرق ، و لا يستطيع أى إنسان أن يكشف عن دخيلة نفس إنسان آخر التى هى منبع القصة .
كما قال : الموهبة قد تكون من عند الله سبحانه و تعالى و لكنها أيضا تحتاج إلى تدريب و تمرين و إطلاع على تطور فن القصة و قواعده ، و أنه لم يوجه نفسه ليكون كاتبا إنما بالهواية مع وجود الموهبة الكامنة التى نماها بالقراءة و الثقافة .
كان يحب دوما التواصل مع قرائه و دائم الاعتذار إليهم أن اضطرته الظروف للتأخر عن الرد على رسائلهم ،فيكشف لنا عن عن مدى تواضعه و بساطته و حرصه على قرائه .
أحب حقى زوجته " نبيلة " كثيرا التى أصيبت بمرض خطير سحب النور من عينيها ، و عندما ماتت سحبت النور من حياة يحيى حقى فقال عند رحيلها " تركت فى نفسى حسرة لا تنقضى " ، و كتب مقالا فى وفاتها ختمه بقوله : " خرجنا من حيرة الموت إلى حيرة أشد قسوة حيرة الحياة ، كانت قد أرخت لنا قبضتها قليلا فسارعت و شدتها بقوة و جبروت على أولاد لها ضعاف حائرين " ، كانت ابنته " نهى تقرأه و تبكى ألما على الرضيع الذى فقد أمه حتى اكتشفت أنها هى الرضيع .
سألته نهى عن أول قصة كتبها فأجابها : أنه كتبها على حسب ما يذكر بين عمر ال 16 و ال 20 و لكن لا يذكر اسمها ، و انما القصة التى أحبها جدا و مازال يتذكرها هى " فلة و مشمش و لولو " تحكى عن مغامرات الحيوان ، قائلا اعتبر أن دليل الإنسانية هو الرفق بالحيوان .
فكم كان عظيما يحيى حقى و رمزا لمعنى الانسانية قائلا : أكره الإنسان الذى يتكلم من لسانه و ليس قلبه ، فهذا هو الرياء الاجتماعى .
كان يقول عن محفوظ : أنا سعيد لأنى أعيش فى عصر نجيب محفوظ أو عصر الرواية الطويلة ، فهو رائد من رواد فن القول ، كما أحب صلاح جاهين ، و كان يعتبر رباعياته أحب قوالب الشعر لديه ، و عن صديقه و تلميذه و ابنه الروحى " محمد روميش " ، فاتصل بابنته يوما يقول : روميش يموت ..و أنا لازلت أعيش ؟ كيف ؟ فأجابته أنه قدر الله ، فقال لها أنه يعلم و لكن قال لها لا تعلمين مدى ارتباطى بهذا الإنسان صافى القلب ، لو كان لى ابن لما أحببته كما أحببت هذا الإنسان .
و عن اعتزازه بمصريته قال حقى : رغم أن لى جذورا ترجع إلى أجدادى و أجداد أجدادى تقول أنى تركى ، فإننى و الله إذا حلل دمى إلى آخر قطرة من ستجدوننى مصريا متيما بأرضها التى ولدت فيها و نشأت و ترعرعرت فيها و كبرت و عشت فيها و سأموت فيها .