أعطى المصريون لمبارك ولكل نظام لاحق سيأتي في السلطة درساً لن يُنسى على الإطلاق، وأهم تلك الدروس أن نظام الحاكم الفرد.. الديكتاتور الواحد الأوحد دون سواه بات أمراً مستحيل التكرار بعد اليوم، في اعتقادى أن أحد أهم منجزات الثورة في حال تحقق مطالبها على الشكل الذى يتمناه الثوار هو إعادة الروح لدولة المؤسسات والتخلي عن فكرة انتظار التعليمات من الجهات العليا، حيث غالبا ما يستخدم هذا المصطلح "الجهات العليا" للإشارة إلى رئيس الجمهورية حيث تقبع كل السلطات في يده، وإن كان في أغلب الأحيان لم يكن مبارك يدرى بما يدور ويحدث.. فكانت الجهات العليا الفعلية تتمثل في حاشيته وابنه وزوجته، من الصعب حقاً أن تعيش في وطن جمهوري يتلخص مفهومه في شخص الرئيس دون سواه، وطن رئاسي يحكمه أسرة الرئيس وأهل بيته وأصدقائهم من مسئولين فاسدين.. أغلبهم الآن خلف القضبان، وأظن أن الطلقاء المتبقين منهم سيلحقون بهم عاجلاً أو آجلاً. في 25 يناير 2011 انطلقت مظاهرات مناهضة للأوضاع التي وصل إليها حال الشعب المصري، تتواصل الأحداث وصولا إلى جمعة الغضب في ميدان التحرير وانتفاضة غضب في شوارع مصر وميادينها.. سقط الكثير من القتلى ووقعت إصابات عديدة تقدر بالآلاف، كان مبارك دائماً يتأخر في الظهور يفضل أن يتعامل مع المصريين على أنه الرجل الذي لا يظهر إلا في اللحظة الحاسمة ليغير مسار الأمور، يترقب الأحداث ببطئ ويتابعها دون أدنى قرار لطمأنة الشارع أو تهدئته.. بل كان دائما يزيد من نفور المصريين منه وغضبهم من نظامه.
في 29 يناير يعلن مبارك تعيين أحمد شفيق رئيس وزراء وعمر سليمان نائباً للرئيس، وبينما كانت الملايين تطالبه بالرحيل عن السلطة فورا.. يخرج في الأول من فبراير ليعلن أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية في سبتمبر 2011! ليأتى بعد ذلك الحادي عشر من فبراير حيث تعم فرحة غير مسبوقة الشوارع المصرية في مختلف المحافظات، فرحة ليست ناتجة عن فوز المنتخب القومي ببطولة رياضية أو تأهله لكأس العالم.. فرحة ليست بسبب عيد فطر أو عيد أضحى أو نهائي الدوري المصري، فرحة لم أراها من قبل فى نفوس المصريين، لقد كان باختصار إعلان تنحى مبارك عن حكم البلاد، لحظات لا تتجاوز الدقائق المعدودات يعلن فيها عمر سليمان أن مبارك قد تخلى عن منصبه.. لقد كانت اللحظة التي انتظرها الملايين منذ عقود!
لحظة أخرى تعددت الآراء حولها وتباينت المواقف اتجاهها، في يوم 2 يونيو 2012 حيث الجلسة السادسة والأربعين لمحاكمة القرن، والتي فيها أصدر القاضي أحمد رفعت الحكم على مبارك والعادلى بالسجن المؤبد، وصدمة قوية ببراءة مساعدي وزير الداخلية في قضية قتل المتظاهرين، وبراءة مبارك من تهمة الفساد المالي، وبراءة نجليه علاء مبارك وجمال مبارك من التهم المنسوبة إليهما، باكورة من البراءات كادت أن تحدث ثورة أخرى لولا طغيان أحداث سياسية ومجتمعية أخرى كانت أكثر أهمية لمستقبل الوطن.
من بين التراث المكتوب للمبدعين المصريين لا أجد خاتمة لهذا الموضوع أفضل من قصيدة كتبها "صلاح جاهين" يقول فيها: القمح مش زي الدهب / القمح زي الفلاحين / عيدان نحيلة جدرها بياكل في طين / زي اسماعين .. ومحمدين / وحسين ابو عويضة اللي قاسى وانضرب / علشان طلب حفنة سنابل ريها كان بالعرق / عرق الجبين / القمح زي حسين يعيش ياكل في طين / أما اللي في القصر الكبير / يلبس حرير / والسنبلة يبعت رجاله يحصدوها من على عود الفقير.
فاتعظ يا كل رئيس قادم بأنك شخص وأن مصر وطن، ولن تحصد السنابل بعد اليوم من على عيداننا لأن ثمة أجيال جديدة لن ترضى بالذل أو الهوان بعد اليوم ولك في "مبارك" عبرة وعظة، فمصر تغيرت.