وسط الضجيج الذي تعود عليه الإنسان المصري منذ عام ونصف، وانغماسه في العمل السياسي تلك الحق الذي افتقده أكثر من ثلاثين عاما، انطلق معرض "ومضات من ملتقى الأقصر" في قاعة "الهناجر" بالأوبرا ليكون شاهدا على أهمية السيمبوزيومات الفنية؛ حيث يعرض ناتجه بشفافية أمام الجمهور ليتم تقييمه إن كان يستحق ما أنفقته عليه الدولة من ميزانيتها، أم لا يستحق. ورغم الانتقادات التي وجهت لسيمبوزيوم "الأقصر الدولي للتصوير"، الذي يستضيف كل عام نحو عشرة فنانين أجانب وخمسة عرب، وعشرة مصريين في الأقصر، تلك المدينة التي تتمتع بثلث آثار العالم، وذلك على مدى أربع سنوات وهي تاريخ إقامته، إلا أن الناتج كان غير متوقع حيث انتظرنا المعرض لانتقاده لما وجه له السنوات الماضية من اتهامات بأنه لم يأتي بفنانين مميزين يتركوا لمصر أعمالا فنية ذات قيمة تعوض ما تم صرفه عليه، وكان النقد موجه مباشرا للفنان د. إبراهيم غزالة مدير مراسم "الأقصر" ورئيس السمبوزيوم، لكننا بالعكس شاهدنا أعمالا مميزة شهدت على المجهود الذي تم بذله منذ أربعة سنوات. تلك الأعمال التي تم عرضها لم تكن جميعها التي نفذت في السيمبوزيوم، بل تم انتقاء بعض من نتاج أعماله ليتم عرضها بشكل لائق في القاعة، نظرا لكثرة الأعمال؛ حيث يقتني السيمبوزيوم عملين من كل فنان شارك في السيمبوزيوم سواء مصري أو عربي أو أجنبي. ضم المعرض الذي افتتحه د. محمد إبراهيم وزير الآثار، وحسن خلاف رئيس قطاع مكتب وزير الثقافة، نحو 36 لوحة، جميعها عن مدينة الأقصر استلهمها الفنانين برؤية كل منهم الخاصة، فمنهم من تناول طبيعة الأقصر برسم النيل والمراكب ومن خلفهم الجبل، ومنهم من استلهم عناصر الفن الفرعوني وتماثيل المعابد، كما قدم البعض صياغة جديدة لأعمالهم ولكن بروح الأقصر. وشارك في المعرض فنانين من أمريكا، فرنسا، المغرب، كوريا، البوسنة والهرسك، مالي، روسيا، أثيوبيا، اسبانيا، السعودية، باكستان، تونس، سلوفاكيا، ومصر. يستهل المعرض لوحة الفنان د. مصطفى عبد المعطي، وهي أبيض وأسود، استخدم فيها الخطوط الحانية في تمازج مع خطوطه الشبة هندسية التي يصيغها بتراكيب جمالية في بناء تشكيلي محكم، تبدو وكأنها أشكال فضائية لكنها تحمل الروح المصرية. وبجواره يعرض الفنان الروسي فالنتين سكشكوف لوحة منظر طبيعي لنيل الأقصر اهتم خلالها بتصوير تكدس المراكب على مرسى النهر، ويظهر الجبل من بعد. ومثله الفنانة نازلي مدكور التي رسمت مراكب النيل ولكن أكثر تجريدا للشكل المستهلك للمراكب وأكثر عمقا في صياغة جديدة للمشهد. أما الفنان سمير فؤاد فرسم البحيرة المقدسة الموجودة خارج القاعة الرئيسية من متحف الأقصر. قدم الفنان أحمد شيحا لوحة ذات ملمس بارز تحمل رموز فرعونية، مستخدما ألوان المصري القديم مما ترجعنا للإحساس بعبق التاريخ. كما رسمت الفنانة الأسبانية أليسا بونز مشهد مجرد من البر الغربي والذي يمتاز بوجود المساكن في قلب الجبل، فتبدو اللوحة وكأنها ترى البر الغربي من بعد بألوانه الحارة الصفراء مجردة تماما من التفاصيل. يماثلها الفنان محمد طلعت الذي رسم بيوت البر الغربي التي يحتضنها الجبل بأسلوبه الخاص، مستخدما اللون الأصفر الساخن مع درجات الألوان البيج والبني. ويقف الهدهد شامخا في لوحة الفنان د. أحمد عبد الكريم، فوق سمكة تعلو مركب فرعوني مستخدما اللون الذهبي وكأنهم منحوتة واحدة مترابطة تقف فوق قاعدة باللون الوردي، وتنقسم خلفية العمل إلى ثلاث مساحات لونية، الوردي على الجانبين، يتوسطهما اللون الأزرق الداكن، ويعلو رأس الهدد موتيفة أشبة بالنجمة تتصاعد بكثرة باللون الذهبي، وكأن الهدد ينشد أغنياته ويعلو صوته للآفاق.
وفي لوحة كبيرة رسم الفنان د. رضا عبد الرحمن رجل وامرأة وتناولهما مثلما كان يتناول المصري القديم أشخاصه؛ حيث يظهر الجزء العلوي من الجسد بشكل أمامي، في حين يظهر الرأس والجزء الأسفل من الجسد بشكل جانبي، بالإضافة إلى استخدامه نفس ملابس المصري القديم ولكن الملامح تبدو بشكل معاصر. وبألوان واضحة وصريحة رسم الفنان د. عاصم عبد الفتاح امرأة يستلهم وجهها من المصري القديم لكن بأسلوب معاصر مستخدما الألوان المبهجة، تمسك في يدها ورود وهي واقفة في غرفتها، التي أعاد الفنان صياغتها تشكيليا من جديد؛ لتتراكب عناصر الغرفة بأشكال جديدة وبأسلوب فريد. أما الفنان السوري سهيل بدور فرسم امرأة في لوحة كبيرة تعزف على آلة المزمار الموسيقية، تجلس على منضدة دائرية، تتبعثر من خلفها مكونات الغرفة وتتحول إلى كتل لونية، والفنان لم يرسم المرأة بأسلوب واقعي بل أهتم بالتعبير وتدفق الإحساس الذي يجعلنا وكأننا نسمع نغمات الآلة الموسيقية التي تحتضنها المجموعة اللونية المبهجة التي استخدمها. كما اعتمد الفنان عصمت داوستاشي على أشخاص وعناصر الفن الفرعوني في لوحته؛ حيث يرسم في النصف الأيسر من اللوحة النصف العلوي من جسد رجل فرعوني، وتظهر على ملابسه نقوش تمثل زهرة اللوتس الفرعونية، ويأتي خلفه المسلة والنسر، أما الجانب الأيمن من اللوحة فيأتي برجل فرعوني يحمل المركب الفرعونية فوق رأسه، وتجلس امرأة من خلفه، ومن أمامه استخدم الثعابين الفرعونية لتحقق الترابط بين جميع عناصر اللوحة لتكون في نسق تشكيلي متآلف ومتناسق مفعم بالروح الفرعونية. وتناول الفنان أحمد نبيل أسرة من الأقصر تمارس أعمالها اليومية؛ حيث صور امرأة وهي تقدم الطعام لحصان، والأشخاص وأشياءهم من حولها كالزير، وبعض الطيور التي تربى في البيوت، ويعلو اللوحة أحد البيوت الشعبية الجميلة التي يسكنها أهالي الأقصر. ورسم الفنان الراحل مصطفى مشعل رجل وامرأة وكأنهما يجلسان فوق سطح النيل، وكما رسم مساكن القرية والأشخاص يتحركون من بعد، معتمدا على الشفافية في اللون التي تثري اللوحة. كما رسم الفنان حلمي التوني امرأة تقف في مقدمة باب مستوحى من أبواب المعابد الفرعونية، وتحمل فوق رأسها سمكة كبيرة، واللوحة بالأبيض والأسود، لكن اللون يتسلل على استحياء إلى أظافر ووجه المرأة لتزينها. اعتمد أيضا الفنان السلوفاكي ماريان كوماتشك على شفافية اللون في لوحته التي استلهم أشخاصها من الرسوم الجدارية للفراعنة، وتتزاحم العناصر وتتشابك على سطح اللوحة بين العناصر والموتيفات الفرعونية المختلفة، مستخدما ألوان أكثر دفئا ورومانسية كالموف الرومانسي. واختلف المنظر الطبيعي في لوحة الفنان د. عبد السلام عيد حيث استخدم كولاج من الورق الأبيض والملون، أضفت على اللوحة ملمس، وأظهرت الطبيعة بنكهة مجردة مختلفة. مامادو دايان من مالي اختلف عن جميع الأعمال المعروضة؛ حيث قدم لوحة عبارة عن تقسيمات هندسية تتحرك على سطح اللوحة في إيقاع منتظم، مستخدما خامة تعطي ملمس الرمل وكأنها خامة "الجرانيوليت". ورسم الفنان د. عبد الوهاب عبد المحسن تمثال "ممنون" حارس العالم الآخر والذي يتواجد في مدخل البر الغربي، على خلفية من تكوينات لونية هادئة اللون من اللبني والروز الفاتح، ومن فوقها تتحرك موتيفة أشبه بالنجمة المجردة على خلفية العمل بأكملها. كما شارك في المعرض فنانين آخرين قدموا أعمالا تحمل رؤى متنوعة لانطباعاتهم عن الأقصر صاغوها بإحساس صادق.