يمنى الحماقي: التعويمات المتكررة تسببت في إفقار الطبقة المتوسطة    استقرار سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم    تعرف على أسعار ومميزات السيارة اليابانية سوزوكي سياز 2024 Suzuki Ciaz    «القاهرة الإخبارية»: قصف مدفعي للاحتلال على المناطق الشرقية لمدينة دير البلح    حظك اليوم برج العقرب 24_5_2024 مهنيا وعاطفيا..تصل لمناصب عليا    «الإفتاء» توضح مناسك الحج بالتفصيل.. تبدأ بالإحرام    كولر: حظوظ الترجي أكبر من الأهلي    موعد مباراة جنوى وبولونيا في الدوري الإيطالي    «غزة 2035».. خطة نتنياهو وواشنطن لهدم وإعادة بناء القطاع    أسعار الدواجن واللحوم اليوم 24 مايو    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 24 مايو 2024    مدرب الزمالك السابق.. يكشف نقاط القوة والضعف لدى الأهلي والترجي التونسي قبل نهائي دوري أبطال إفريقيا    بعد انكسار الموجة الحارة.. تعرف على حالة الطقس اليوم    نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 برقم الجلوس الصف الثالث الإعدادي الترم الثاني محافظة جنوب الوادي    مقتل مُدرس على يد زوج إحدى طالباته بالمنوفية    مصرع شخص فى مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بالفيوم    مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 24 مايو في محافظات مصر    هشام ماجد: أرفض المقارنة بين مسلسلي «أشغال شقة» و«اللعبة»    عودة الروح ل«مسار آل البيت»| مشروع تراثي سياحي يضاهي شارع المعز    غير مريح للبشر، اكتشاف كوكب جديد "قريب من الأرض"    ألمانيا: سنعتقل نتنياهو    فلسطين.. اندلاع اشتباكات بين المقاومة وقوات الاحتلال خلال اقتحام مخيم بلاطة    نقيب الصحفيين يكشف تفاصيل لقائه برئيس الوزراء    أوقاف الفيوم تنظم أمسية دينية فى حب رسول الله    شخص يحلف بالله كذبًا للنجاة من مصيبة.. فما حكم الشرع؟    عائشة بن أحمد تكشف سر العزوبية: أنا ست جبانة بهرب من الحب.. خايفة اتوجع    هيثم عرابي: فيوتشر يحتاج للنجوم.. والبعض كان يريد تعثرنا    تمنحهم رعاية شبه أسرية| حضن كبير للأيتام في «البيوت الصغيرة»    كسر محبس مياه فى منطقة كعابيش بفيصل وانقطاع الخدمة عن بعض المناطق    إصابة 5 أشخاص إثر حادث اصطدام سيارة بسور محطة مترو فيصل    «حبيبة» و«جنات» ناجيتان من حادث معدية أبو غالب: «2 سواقين زقوا الميكروباص في الميه»    وفد قطرى والشيخ إبراهيم العرجانى يبحثون التعاون بين شركات اتحاد القبائل ومجموعة الشيخ جاسم    متحدث الوزراء: المجلس الوطني للتعليم والابتكار سيضم رجال أعمال    الزمالك ضد فيوتشر.. أول قرار لجوزيه جوميز بعد المباراة    منتخب مصر يخسر من المغرب فى ربع نهائى بطولة أفريقيا للساق الواحدة    تشييع جثمان شقيق مدحت صالح من مسجد الحصرى بعد صلاة الجمعة    أصداء «رسالة الغفران» في لوحات عصر النهضة| «النعيم والجحيم».. رؤية المبدع المسلم وصلت أوروبا    الهندية كانى كسروتى تدعم غزة فى مهرجان كان ب شق بطيخة على هيئة حقيبة    بركات: مواجهة الترجي ليست سهلة.. ونثق في بديل معلول    السفير رياض منصور: الموقف المصري مشرف وشجاع.. ويقف مع فلسطين ظالمة ومظلومة    بوتين يصل إلى بيلاروس في زيارة رسمية تستغرق يومين    يوم الجمعة، تعرف على أهمية وفضل الجمعة في حياة المسلمين    سورة الكهف مكتوبة كاملة بالتشكيل |يمكنك الكتابة والقراءة    شعبة الأدوية: التسعيرة الجبرية في مصر تعوق التصدير.. المستورد يلتزم بسعر بلد المنشأ    الصحة العالمية تحذر من حيل شركات التبغ لاستهداف الشباب.. ما القصة؟    وفد قطري يزور اتحاد القبائل العربية لبحث التعاون المشترك    سعر الدولار مقابل الجنيه بعد قرار البنك المركزي تثبيت أسعار الفائدة    إخفاء وإتلاف أدلة، مفاجأة في تحقيقات تسمم العشرات بمطعم برجر شهير بالسعودية    إصابة فتاة إثر تناولها مادة سامة بقنا    «صحة البرلمان» تكشف الهدف من قانون المنشآت الصحية    "قمة اليد والدوري المصري".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    حظك اليوم برج الجدي الجمعة 24-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    افتكروا كلامي.. خالد أبو بكر: لا حل لأي معضلة بالشرق الأوسط بدون مصر    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: الحصول على العضوية الكاملة تتوقف على الفيتو الأمريكي    لمستخدمي الآيفون.. 6 نصائح للحفاظ على الهواتف والبطاريات في ظل الموجة الحارة    «فيها جهاز تكييف رباني».. أستاذ أمراض صدرية يكشف مفاجأة عن أنف الإنسان (فيديو)    انتهاء فعاليات الدورة التدريبية على أعمال طب الاسرة    في إطار تنامي التعاون.. «جاد»: زيادة عدد المنح الروسية لمصر إلى 310    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل سقطت نظرية شبنجلر حول انهيار الحضارة الغربية وتبوء حضارة التنين الأصفر محلها ?
نشر في محيط يوم 15 - 07 - 2012

في دراسة مبسطة نشرت في موقع محيط منذ سنوات تحت عنوان رئيس: (قراءة في سيناريوهات المستقبل)، وبعنوان فرعي: (واشنطن تُسقِط " الحضارة الغربية" في مزبلة التاريخ، والتنين الأصفر "البديل المؤقت" .. إلى حين نضج "بدلاء" آخرين) ،،،

،،، أشرنا إلى ما انتهى إليه "أوزفالد شبنجلر" (وهو من أبرز المفكرين وفلاسفة التاريخ الغربيين الذين يأخذون بالنظريات الدائرية Cyclical Theories في تفسير المراحل التي تمر بها الحضارات الإنسانية) ، عن أن الحضارة الغربية تعيش الآن مرحلة احتضار، حيث أنتهى- في نظره- عمرها الافتراضي ، وأن التنين الأصفر سيكون الوريث لها من بين الحضارات الإنسانية الأخرى التي ما زالت تعيش حتى تاريخنا المعاصر.

ولما كانت النظريات وبخاصة الدائرية منها، تجمع على أن الحضارة تكون في طريقها للاندثار (حين يصبح الاتجاه المادي هو المسيطر على الاتجاه الفكري والروحي والديني وعلى السلوك الإنساني بعامة فيها) .. وحين نشاهد أن (الإغراق في المادية المفرطة)، يكاد يكون المهيمن على ثقافة الصين (المعاصرة) في مجالات الاقتصاد والسياسة وغيرها .. فهذا يدفعنا للتساؤل عما إذا كانت نظرية شبنجلر نحو الصين بدأت تتهاوى، أم ما زال هناك ما يدعم صدقها؟!!.

ما نشهده الآن في السياسات التي تتبعها الصين في التعامل الاقتصادي والسياسي مع المجتمعات الأخرى وبخاصة المجتمعات النامية والمتخلفة .. أن الهدف الرئيس الذي يحرك تعاملها مع هذه المجتمعات يتمركز (بشكل يقترب من القطع) حول عامل الربح والخسارة، دون النظر للمعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية التي تعتبر محورية في الحفاظ على حيوية الحضارات الإنسانية.

فمن الناحية الأقتصادية، لا يخفى أن معيار الربح والخسارة هو المعيار الرئيس الذي يحكم تعامل الصين في المجال الاقتصادي والتجاري على مستوى العالم كما ذكرنا. فالهمُّ الأول والأخير للقائمين على الاقتصاد الصيني هو تحقيق الربح بأي وسيلة، انطلاقا من اعتقادهم- على ما يبدو- بأن حيوية الحضارة وقوتها واستمرار تقدمها وهيمنتها على العالم، يكمن في (تفوق الجانب المادي على أي مكون آخر من مكونات الحضارة)، وأن دور العامل الفكري والروحي في الحفاظ على حيوية الحضارة ونضارتها لا يعدو- في نظرهم- عن كونه دوراً مساعداً إن لم يكن هامشياً!!)

وحين يُواجهون بهذا الأمر يبررون سلوكهم هذا بأنهم لا يلجأون للخداع أو الكذب في تعاملهم التجاري مع الآخرين . وحين تحاجُّهم برداءة منتج ما، يجيبونك بأن هناك العديد من النماذج لهذا المنتج .. تتفاوت في أسعارها تبعا لما تتصف به من شروط الجودة، حيث تعرض على المستورد أكثر من نموذج للمنتج الواحد ، مرفق به بيان بأسعار كل منها وخصائصها، وللتاجر المشتري- بعد ذلك- حرية اختيار النموذج الذي يريده، علماً بأن ما يأتي في آخر سلم درجات الجودة من المنتج غالباً ما لا يعيش بما يتناسب والثمن الذي يدفع مقابله.

هنا قد يقال بأن لا غبار على هذا السلوك طالما يطلع المستورد على كل ما تتصف به نماذج المنتج الذي يريده من خصائص تتعلق بالجودة وبخاصة من الناحيتين الصناعية والتجارية ، لكنه لا يستقيم مع وجوب ما تتطلبه الحضارة من اقتران بالقيم الروحية والإنسانية التي تعد المكون الأساس في شرط استمرار حيويتها.

فأقل ما يقال في هذه الحجة التي يعتقد البعض أنها تبرئ الصين من تهمة الإغراق في المادية، أنها تشجع الفساد في العالم وبخاصة في المجتمعات الفقيرة والنامية التي عادة ما لا تُحكِم الرقابة على جودة المنتجات المستوردة بسبب الحاجة والعوز من ناحية، وبحكم انتشار الفساد من ناحية أخري. وهنا ينتفي المكون الأخلاقي والروحي الذي ينبغي توافره في الحضارة الحية حتى تواصل مسيرتها. فوجود هذا المكون يرقى لمرتبة الدعامة الرئيسة التي تقوم عليها الحضارات، والتي يرتبط استمرارها بصلابة هذه الدعامة وقدرتها على الصمود أمام عوامل الهدم التي عادة ما تتعرض لها، إذ ليس هناك ما يوصف بحالة السكون في عالم يحكمة التغير في كل شيء.

صحيح أن الكثير من المفكرين المعاصرين يرون أن الصين تتقدم بمعدلات سريعة نحو تبوأ المكانة الأولى في العالم (اقتصادياً على الأقل)، خلفاً لأمريكا أو لهيمنة الحضارة الغربية على العالم على ما ذهب شبنجلر. لكن من الصحيح أيضاً أن التدقيق في جوهر الأسباب الرئيسة وتوابعها التي تدفع الصين في هذا الاتجاه، لا تختلف عن نظيراتها التي دفعت بالغرب وبخاصة أمريكا لتحتل المركز الأول في العالم، حيث يمثل أقتصادها ربع الاقتصاد العالمي، كما أنها تملك أقوى قوة عسكرية تضاهي كل ما تملكه أوروبا مجتمعة.

ومن ثم فإن من المنطقي القول بأن الصين غارقة هي الأخرى في وحل المادية المفرطة التي تعيشها الحضارة الغربية الأن، والتي تضعها في مرحلة الاحتضار على ما تقول النظريات الدائرية التي أشرنا إليها، ما يجعل القول بأن الحضارة الصينية هي التي ستسود العالم بعد انهيار الحضارة الغربية مثاراً للريبة والشك.

هنا يظهر الصراع واضحاً بين النظريات التي ترى أن بإمكان الحضارة أن تستعيد نشاطها إذا ما عاد الاتجاه المثالي لسابق قوته، حيث تقوم الحضارة بتجديد نفسها على ما يقول عالم الاجتماع "سوروكين"، أو أن التقدم التكنولوجي يكون العامل الحاكم في استعادة الحضارة لحيويتها على ما يقول "وليم أوجبرن" ،،،

،،، وبين نظرية شبنجلر التي تقول بأن ثمة عمراً افتراضيا للحضارة الواحدة يقدر بنحو ألف عام .. وحين ينقضي هذا العمر تكون قد شارفت الحضارة على نهاية المرحلة الثالثة من مسيرتها وهي مرحلة الاحتضار حتى الفناء ولا تعود أبداً للحياة.

وفي هذا المقام، علينا أن لا ننسى أن المرحلة التي سادت الصين قبل تحولها للاقتصاد الحر، كانت خاضعة للنظام الشيوعي الذي لم يكن المكون الديني والروحي للثقافة يلقى فيه ترحيباً إن لم يكن رفضاً واضطهاداً، ما يعني أن النظرة المادية المفرطة هي التي كانت تسود تلك المرحلة. كما ينبغي أن لا ننسى أن الصين الحاضرة ما زالت تخضع "رسمياً" للنظام الشيوعي، وإن كانت قد أفرغت هذا النظام من معظم مضامينه وبخاصة الاقتصادية والتجارية. وهذا يعني في النهاية أن المكون الروحي والديني والفكري للحضارة، لم يجد له بعد مكاناً في حضارة الصين الحاضرة. كما يعني أنه لو تحقق للصين تبوأ المرتبة الأولى في العالم (من حيث التقدم الاقتصادي والقوة العسكرية بدلاً من أمريكا)، فإن وصف المرحلة الحالية التي تمر بها (حضاريا) لن يختلف جوهرياً عن وصف "شبنجلر" للمرحلة التي تمر بها الحضارة الغربية في الوقت الراهن.

وحتى يتضح للقارئ ما نعنيه بشكل أفضل، نعرض بشيء من التفصيل للنظريات التي تناولت هذا الموضوع، وبخاصة من زاوية هذين الاتجاهين اللذين يعرفان بالاتجاه التشاؤمي الذي تتبناه نظرية شبنجلر، وبين الاتجاه التفائلي الذي يمثله العالمان الأمريكيان"سوروكن" و "أجبرن"، وذلك من خلال استذكارنا للمقال الذي أشرنا إليه، والذي سبق نشره قبل نحو خمسة أعوام إن لم تخني الذاكرة.

نص الدراسة

قراءة في سيناريوهات المستقبل .. (واشنطن تسقط "الحضارة الغربية" في مزبلة التاريخ ، والتنين الأصفر "البديل المؤقت" إلى حين نُضج "بدلاء" آخرين)

قبل خمسين عاماً أو يزيد ، خلص المفكر أوزفالد شبنجلر من دراسته لنشأة الحضارات الإنسانية وارتقائها ثم اضمحلالها وفنائها إلى استنتاج مؤداه : أن الحضارة الغربية التي وصلت الذروة في تقدمها المادي تمر الآن بمرحلة الاحتضار والاضمحلال ثم الفناء ، لتحل محلها حضارة الجنس الأصفر .

وفي محاولتنا اختبار صحة هذه الاستنتاج أو لنقل الفرضية من خلال المعلومات والحقائق الموضوعية التي تتصل بمظاهر التقدم الذي يجتاح مجتمعات الصين واليابان ودول شرق وجنوب شرق آسيا بمعدلات غير مسبوقة ، وبقراءة متأنية للسياسات المتأنية التي تنتهجها تلك المجتمعات في ظل النظام العالمي أحادي القطب ، نجد أن القول بصحة هذا الاستنتاج هو أقرب للصواب منه إلى الخطأ ، الأمر الذي لا بد وأنه يشغل حيزاً كبيراً من تفكير مخططي الاستراتيجية الأمريكية.

لذا فإن التخوف من صحة هذه النظرية التي تقول بحتمية انهيار الحضارة الغربية لتقوم على أنقاضها ثقافة الجنس الأصفر ، يبدو أنه يلقي بظلاله على سياسات الولايات المتحدة الداخلية والخارجية ، تماما كما الحال بالنسبة لعلماء الاجتماع والمؤرخين وفلاسفة التاريخ المعاصرين الذين حاولوا دحض النظرة التشاؤمية التي ينظر بها شبنجلر لمصير الحضارة الغربية ، وحتمية انهيارها وفنائها .

ذلك أن التقدم الهائل الذي أحرزته الصين بخاصة خلال العقود الثلاثة الماضية ، والذي شمل جميع الميادين الصناعية والتجارية والإنمائية وغيرها ، يبدو أنه يؤيد تلك النظرة التشاؤمية التي ينظر بها شبنجلر للنهاية التي تنتظر الحضارة الغربية. ولعل من المفيد هنا أن نعرض بإيجاز لهذه النظرية والنظريات الأخرى المعارضة لها ، قبل أن نسترسل في التعامل مع هذا التفسير لدورة الحضارات والثقافات الإنسانية ، باعتباره نتاج نظرية علمية يمكن أن نفسر بها اتجاهات السياسة التي تنتهجها إدارة بوش في التعامل مع قضايا العالم بعامة ، والقضايا التي تهم العالمين العربي والإسلامي بصفة خاصة ، ونبني عليها مواقف وتقديرات هي أقرب للصواب منها للخطأ .

(1)
النظريات التي تتنبأ بقرب فناء الحضارة الغربية
"نظرية أوزفلد شبنجلر"

حاول شبنجلر في كتابه تدهور الغرب the decline of the west أن يحل مسألة انتظام الثقافات والحضارات الإنسانية ، وأن يحدد مراحل التغير التي تمر بها من حال إلى حال ، وقرر أنه ليس هناك تاريخ واحد ينتظم الجنس البشري ، ومن ثم فإن التقسيم التقليدي لتاريخ الإنسانية إلى تاريخ قديم ووسيط وحديث هو تقسيم تعسفي وعقيم وغير منهجي ، ذلك أنه يضع الحقائق في غير موضعها ، ويجعل من تواريخ حضارات وثقافات إنسانية عريقة مجرد توابع تدور في فلك الحضارة الغربية .

فالدلالة التاريخية الكبرى عند شبنجلر ، تكمن في تواريخ هذه الثقافات التي تتميز الواحدة منها بخصائص وسمات وأسلوب حياة تختلف عن سائر الثقافات والحضارات الأخرى ، ما يعني أن كل حضارة تمثل في ذاتها تاريخاً مستقلاً لا يتأثر أبدا بتاريخ حضارة أخرى ، ومن ثم فإن القول بوجود تاريخ واحد للجنس البشري ينطوي على وجود ثقافة أو حضارة إنسانية ما أن تشيخ وتفنى ، حتى يفنى معها الجنس البشري كله ، وهذا ما يجافي الواقع .

ويرى شبنجلر أن الحضارة الواحدة تمر بثلاثة مراحل تبدأ بالنشأة والتكوين ، ثم النضج والاكتمال ، وتنتهي بالشيخوخة والانحلال حتى الموت والفناء ، ولن تعود للحياة أبداً .. فالتاريخ بهذا المعنى يكمن في تواريخ كل من هذه الثقافات ، ذلك أن الثقافة الواحدة كائن حيّ ، له طريقه واتجاهه الذي لا يمكن أن يحيد عنه ، والذي ينتهي إلى الشيخوخة ثم الفناء .

ويدلل على ذلك ، بأن الحضارة الغربية بكل إنجازاتها التي حققتها بتقدمها العلمي والتكنولوجي والصناعي .. تسير الآن نحو الركود والجمود ، بعد أن أخذت تفقد مقومات حيويتها ونشاطها وقدرتها على الخلق والإبداع اللازم لاستمرارها ، الأمر الذي يودي لا محالة لاندثارها وفنائها ، وانتقال دورها إلى آسيا التي تدل كل الشواهد على أن حضارة الجنس الأصفر سوف تأخذ مكانها ، تماماً مثلما حدث عندما انتقل هذا الدور من اليونان إلى الرومان .

وهذه النتيجة التي توصل إليها شبنجلر ، تتفق مع آرائه في تغير الثقافات والحضارات ، حيث يرى أن عمر الثقافة الواحدة يصل إلى حوالي الألف عام ، وأن الحضارة الغربية التي بدأت - في رأيه - حوالي عام 900م ، تعيش الآن مرحلة احتضارها ، حيث تشهد حالة من التدهور والجمود التي سوف تنتهي باندثارها وفنائها .

والواقع أن شبنجلر يعبر بآرائه هذه عن مبلغ التشاؤم الذي وصل إليه من خلال نظريته لواقع الحضارة الغربية ، والذي بلغ به حداً جعله ينظر إليها على أنها مصدر خطر يهدد العالم بأكمله . ومبعث هذا الخطر يعود- في نظره - لمحاولة حشد أجزاء العالم الأخرى لتمثُّل مقومات هذه الحضارة ثقافةً أو منهج حياة ، ما قد يعني أن تدهورها يرتبط بتدهور الحضارة الغربية ذاتها . وهنا نقف قليلاً لنرى مدى صدق هذه النظرية على توجه الولايات المتحدة نحو فرض أو تصدير عناصر الحضارة الغربية لسائر المجتمعات الأخرى ، وبخاصة المجتمعات العربية والإسلامية .

فقد عملت أمريكا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية على فرض ثقافتها وأسلوب حياتها على اليابان وعلى دول جنوب شرق آسيا التي بسطت عليها نفوذها مثل كوريا الجنوبية . وظنت - بعد نجاحها النسبي في تغيير بعض مظاهر السلوك الحياتية في اليابان بخاصة - أنها قادرة على عولمة الثقافة الغربية وفرض مفاهيمها وقيمها على المجتمعات الأخرى ، بدليل أن بعض المسئولين الأمريكيين في إدارة بوش سربوا أنباء عن دراستهم لإمكانية تطبيق النموذج الياباني على العراق بعد احتلاله .

هذا مع الفارق في الهدف .. حيث توظف الاستراتيجية الأمريكية المعاصرة كل إمكانات أمريكا الاقتصادية والعسكرية وتفوقها العلمي والتكنولوجي نحو بسط سيطرتها على العالم والتحكم في اقتصادياته وتجيير ذلك كله لصالح رفاه المجتمع الأمريكي . وهنا - أيضا - نكتشف أن توجهات الاستراتيجية الأمريكية هذه ، تنسجم مع تخوف شبنجلر من أن دفع جميع المجتمعات الإنسانية لتمثل عناصر الثقافة الغربية ، سوف يربط مصيرها بمصير تلك الحضارة التي تمر الآن بمرحلة الشيخوخة والاحتضار التي سوف تنتهي بها لا محالة للاندثار والفناء .

(2)
النظريات المعارضة لنظرية "شبنجلر"

ليس من شك أن المؤسسات العلمية والبحثية التي عادة ما توظفها الإدارات الأمريكية للقيام بدراسات وبحوث تعينها في رسم سياساتها الاستراتيجية على المستوى العالمي .. لا شك أنها اطلعت على نظرية شبنجلر في تفسير مسيرة الثقافات والحضارات الإنسانية ، والتي انتهت بتلك النظرة التشاؤمية التي تتنبأ بسقوط الحضارة الغربية وفنائها . وليس من شك - أيضاً - أنها اطلعت على النظريات الأخرى التي عارضت تلك النظرة التشاؤمية لما ستنتهي إليه الحضارة الغربية ، ووجدت فيها دعماً لتوجهات الإدارة الأمريكية نحو فرض قيم الحضارة الغربية الأخلاقية وأعرافها الاجتماعية على المجتمعات الأخرى .. حتى لو اقتضى الأمر استخدام القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية .

كما وجدت فيها تعضيداً لبعض كتابات الأمريكيين المعاصرين مثل كتاب "نهاية التاريخ" لفوكوياما ، وكتاب "صدام الحضارات" لصمويل همنتنجتون ، فضلاً عن التقارير والرؤى التي يكتبها المستشارون العاملون في تلك المؤسسات التي غالباً ما تفتقر إلى الأسانيد العلمية ، كما لا تخلو من التعسف في إصدار الأحكام وكتابة التوصيات التي عادة ما تعتمد عليها الإدارات الأمريكية في رسم سياستها الخارجية .

ويعتبر المفكر "آرنولد توينبي" Arnold Toymbee من أكثر المعارضين لنظرة شبنجلر التشاؤمية ، حيث يقرر أن الحضارات والثقافات الإنسانية تستطيع أن تجدّد حيويتها وتنهض من كبوتها على نحو ما ، حين تصل للمرحلة الأخيرة من دورتها وهي مرحلة الانحلال والفناء . وهو بذلك يتفق مع ما ذهب إليه بن خلدون في مقدمته الشهيرة حيث يقول بأن الحضارة الإنسانية - حين تصل في دورتها إلى طور الشيخوخة والاندثار - تستطيع أن تبدأ دورة جديدة تقوم على أنقاض الحضارة المنهارة ، وأن تمر بذات المراحل التي مرت بها .. وهكذا .

ويرى توينبي على خلاف شبنجلر ، أن بالإمكان إيقاف تدهور الحضارات الإنسانية عن طريق بعث القادة والمنقذين والمصلحين القادرين على خلق الاستجابات المناسبة ، ومواجهة التحديات التي تعوق تقدم الحضارة ، وذلك من خلال ما يسميه بمبدأ الارتداد والعودة Withdrawal and Return . . غير أن هذه الأقلية المبدعة يمكن أن تتحول - في نظره - لأقلية مسيطرة تفرض وجودها بالقوة حينما تصل الحضارة أوج عظمتها ، ما يعني أن قدرة الإبداع والخلق - وهي شرط التقدم عنده - لم تعد تتوافر في القادة ، الأمر الذي تبدأ عنده الحضارة بالتدهور والانحلال

وقد حاول العالم الأمريكي سوروكين Sorokin وعدد آخر من العلماء الأمريكيين الذين تناولوا هذا الموضوع بشكل أو بآخر ، وعلى رأسهم وليم أجبرن W.Ogburn صاحب نظرية التخلف الثقافيCultural Lag دحض هذه النظرة التشاؤمية لشبنجلر . فسوروكن الذي يعتبر من علماء الاجتماع ذوي النظرة التفاؤلية في تفسير مسيرة الحضارات والثقافات الإنسانية ، يرى أن الثقافة حين تصل إلى حالة الإغراق في المادية وتنتهي إلى الوهن والضعف ، تستطيع أن تجدد نفسها ولا تموت أبدا ، وذلك بالرجوع للقيم الروحية والفكرية والدينية التي تعيد للثقافة نشاطها وحيويتها عن طريق بعث القادة والمخلصين ، وتتحول من المظهر الحسي sensate من الثقافة إلى المظهر الفكري ideational .. وهكذا .

ذلك أن جميع المجتمعات الإنسانية تتذبذب بين مظهرين للثقافة أولهما : المظهر الفكريIdeational ، وهو يمثل لديه الجانب الحسن goodness الذي ترتبط فيه اهتمامات الأفراد باعتبارات فكرية وبخاصة سيطرة الأفكار الدينية ، وثانيهما : المظهر الحسي Sensate وهو يمثل الجانب السيء Badness الذي يتميز بانصراف الأفراد عن المعايير الدينية وانكبابهم على كل ما هو حسي واهتمامهم بكل ما يحقق المنفعة المادية والذاتية لهم دون أي اعتبار آخر .

ويخلص سوروكن من نظريته إلى القول بأن جميع الثقافات والحضارات الإنسانية ، لا بد أن تخضع في مختلف مراحل تاريخها لهذا النمط من التغير ، حيث تجدّد نفسها باستمرار ، ولا تموت أبداً ، وهو - بهذا الموقف - إنما يخالف شبنجلر رأيه بأن الحضارة مصيرها الاندثار والفناء .

أما عالم الاجتماع الأمريكي وليم أوجبرن ، فيرى أن الثقافات والحضارات الإنسانية لا تندثر بفعل التقدم المادي ، ذلك أن التقدم التكنولوجي وتقدم الاختراعات هو المعيار الذي يقاس به تقدم الثقافات والحضارات الإنسانية . أما التخلف الثقافي الذي يحدث في المجتمعات الإنسانية ، فيأتي نتيجة الهوة التي غالباً ما تتشكل نتيجة سرعة استيعاب المجتمعات للجانب المادي من الثقافة Material Culture عنه للجانب المعنوي Non Material Culture . ويبدو أن آراء أوجبرن هذه والتي لا تخلو من النقد ، لا بد وأنها تلاقى استحساناً من مخططي الاستراتيجية الأمريكية ، اعتماداً على ما حققته وتحققه أمريكا من تقدم علمي وتكنولوجي هائل .

ثم تأتي أخيراً آراء بعض المفكرين الأمريكيين الذين حاولوا تفسير مسيرة التاريخ الإنساني، مثل مُؤلَّف "نهاية التاريخ" لفوكوياما الذي حاول فيه البرهنة على أن التاريخ الإنساني قد بلغ نهايته ، وكذلك مؤلف "صدام الحضارات" لصموئيل هنتنجتون الذي حاول فيه التأكيد على حتمية الصراع

بين الحضارات وبخاصة بين الحضارتين الغربية والإسلامية ، الأمر الذي جاء على هوى السياسات الأمريكية العدوانية التي تنتهجها إدارة الجمهوريين حيال العرب والإسلام والمسلمين تحت دعوى محاربة الإرهاب .

واستطراداً لما سبق نتساءل : إذا جاز لنا في هذا المقال حق الاستدلال على صدق هذه النظريات أو خطئها ، في ضوء المعطيات والوقائع التي تنتظم المجتمعات الإنسانية المعاصرة بمختلف انتماءاتها الثقافية والحضارية ، فهل سيعين ذلك في : معرفة مدى قلق الولايات المتحدة من فقد سيادتها على العالم خلال العقود الثلاثة القادمة على الأقل لصالح الجنس الأصفر ، بسبب التقدم المطرد الذي تحرزه الصين بخاصة وشعوب الجنس الأصفر الأخرى بعامة في شتى الميادين أولاً ، ثم في معرفة مدى مطابقة السياسات والمواقف التي تتخذها الولايات المتحدة من العرب والإسلام والمسلمين ، لما تقول به نظرية شبنجلر بشأن المصير المحتوم الذي ينتظر الثقافة الغربية التي جعلت أمريكا من نفسها الراعي لها والمدافع عنها ثانياً ؟ .

(3)
هل المواجهة بين أمريكا والصين حتمية

لعل أكثر ما شد اهتمام السياسيين الأمريكيين عقب انتهاء المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني هو تبديل القيادة الصينية بزعامة "تسي من" ، وبخاصة أن التقدم المذهل الذي حققته الصين في العقدين الماضيين على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلاقات الدولية ، ينفي أي احتمال قيام معارضة مؤثرة على القيادة الصينية التي جرى استبدالها .

وقد جاءت الإجابة على ذلك سريعة على لسان عدد من المحللين السياسيين ، الذين يرون أن ما حدث كان استجابة طبيعية وطوعية من القيادة السابقة لمطلب تجديد دم القيادة الصينية وتحديثها لتواكب التطورات السريعة التي تجتاح النظام العالمي أحادي القطب ، الذي تحاول الولايات المتحدة من خلال زعامته السيطرة على الاقتصاد العالمي والهيمنة على العالم . ويدللون على ذلك بتأكيد القيادة الجديدة على بقاء الحزب الشيوعي ، كقوة قيادية وتشريعية ورقابية وتنفيذية تتمتع بصلاحية اتخاذ القرار على كل المستويات .

وهذا لا يعني أن الشيوعية - في نظر القيادة الصينية الجديدة - تظل هدفاً غائياً وأيديولوجية لا تُمس ، وإنما هي وسيلة لضبط إيقاع الاستقرار في المجتمع أثناء توجهه نحو تحقيق أعلى معدلات للتنمية ، وبناء قوة عسكرية تمكنها من الوقوف بندية أمام القوى العالمية الفاعلة ، وبخاصة الولايات المتحدة .

ويرون كذلك ، أن القيادة الصينية السابقة قد استفادت من التجربة التي مرت بها روسيا الاتحادية والجمهوريات التي كانت تنضوي معها تحت لواء الاتحاد السوفييتي السابق ، وبخاصة بعد الانهيار الاقتصادي والاجتماعي المروع الذي أصابها نتيجة التحول المفاجئ من النظام الاشتراكي إلى الأخذ بنظام السوق .

فقد رفضت أن تنساق وراء الشعارات التي كانت تصدر عن الدوائر الغربية وبخاصة الأمريكية منها .. تدعو لتغيير الأوضاع في الصين دفعة واحدة ، أسوة بما حدث في جمهوريات الاتحاد السوفييتي المنحل ودول أوروبا الشرقية ، دون مراعاة للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية الخاصة التي تتميز بها الصين ، فضلاً عن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تحتاج لمستوى عال من التقنين والضبط حتى يتم محاصرتها ووضع الحلول المناسبة لها .

والواقع أن القيادات الصينية استطاعت خلال العقدين الماضيين أن تجعل من ارتفاع عدد سكانها عاملاً أساسياً لتحقيق معدلات عالية من النمو ، حيث استطاعت توظيف الطاقة البشرية في تحقيق معدلات نمو عالية بلغت في إحدى السنوات أكثر من 12% . كذلك نجحت في استثمار موارد الصين الطبيعة بصورة جعلتها في منأى عن الاحتكار الأجنبي ، كما استغلت رخص اليد العاملة فيها في تأمين القدرة التنافسية للمنتجات الصينية وإغراق العالم بها .

زد على ذلك أن نجاحها في تفعيل العقيدة السائدة بين الصينيين منذ قيام دولتهم ، من أن الخطر الذي كان وما زال يحدق بالصين ، إنما يأتي من التطلعات الأمريكية للسيطرة على دول شرق وجنوب شرق آسيا التي يقطنها الجنس الأصفر ، ما يعتبر حافزاً ثابتاً وفاعلاً لتماسك الشعب الصيني ووقوفه أمام التيارات التي تستهدف خلخلة نظامه .

أما على صعيد السياسة الخارجية ، فقد استطاعت القيادة الصينية أن تستوعب جيداً المتغيرات التي طرأت على الساحة الدولية ، وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانحسار المد الشيوعي في العالم .. لذلك نرى الصين في هذه المرحلة ، وكأنها تهادن القطب الأوحد الذي يفغر فاه ليبتلع العالم ، في الوقت الذي تحاول فيه إقامة شبكة واسعة من العلاقات مع العالم الخارجي .

وهنا نعود فنقول : إن ما ذهب إليه شبنجلر من أن حضارة الجنس الأصفر هي الوريث القادم للحضارة الغربية ، يبدو أنه يتمتع بقدر كبير من الموضوعية ، ذلك أن المقومات المادية والفكرية التي تتوافر لدى الصين بوجه خاص ، تؤهلها للقيام بهذا الدور . فضلاً عن أن أي محاولة لوأد هذا الدور في المرحلة الراهنة محكوم عليها بالفشل ، ذلك أن الصين تخطت ما يمكن أن نسميه - إجرائياً - بنقطة الضعف القاتل ، كما تتمتع بقوى اقتصادية وعسكرية ومعنوية تكفل صمودها ونجاحها في صد تلك المحاولات والخروج منها سليمة معافاة .

وأغلب الظن أن هاجس أمريكا من تنامي قدرة الصين الاقتصادية والعسكرية بصورة تصبح معها قادرة على منافستها في قيادة العالم ، أصبح الشغل الشاغل للسياسة الأمريكية الراهنة . ذلك أن هذا الهاجس قد يصبح دافعاً حاسماً لقيام الولايات المتحدة بعمليات عسكرية ضد الدول المحيطة بالصين ، بهدف احتوائها والحد من خطورة اتساع نفوذها على المستوى الإقليمي على الأقل ، وهذا ما حاولت تحقيقه من خلال حربها في أفغانستان .

كما يمكن اعتبار هذا الهاجس من نتائج الإغراق في المادية التي يعيشها المجتمع الأمريكي المعاصر ، وابتعاده المتزايد عن الجوانب الفكرية والروحية والدينية التي نادت بها النظريات المعارضة لنظرة شبنجلر . وحتى إذا أخذ مخططو الاستراتيجية الأمريكية بالنظريات التي تقول بأن تدخل العنصر البشري يعين في تقدم المجتمعات ، فما الذي يضمن أن يتم تدخل أمريكا الحالي في شئون العالم على الوجه السليم ، ولا يأتي بنتائج عكسية ؟ .

والدليل الحي على ذلك ، تلك الحملة الهوجاء التي تشنها أمريكا حالياً على العراق . فهي وإن كانت تستهدف السيطرة على منابع النفط في المنطقة بهدف تأمين تدفقه إليها ، غير أن السؤال الذي يفرض نفسه على أصحاب القرار في البيت الأبيض الذين يصرون على تجاهله هو : ما الذي يضمن نجاح هذا التدخل الصارخ في تحقيق هذا الهدف ؟ .

ثم وهذا هو الأهم : ماذا عن النتائج التي يمكن أن تنجم عن غزو العراق سواء نجح هذا الغزو أو فشل ، وما تأثيراتها - التي لا بد وأن تكون مروّعة - على المنطقة والعالم ، بل وعلى أمريكا ذاتها الغارقة في وحل المادية المفرطة التي ألغت أي وجود للقيم الروحية والدينية والفكرية التي يعتبرها أصحاب النظريات المتفائلة ، شرطاً لتجديد حيوية وشباب الحضارة الغربية التي تمر الآن بمرحلة الشيخوخة والاحتضار ، انتظاراً لموتها المحتوم على ما يقول شبنجلر .

(4)
موقف أمريكا من التحدي القادم من الصين

من غير المنطقي أن يطالب أحد أمريكا بأن تظل ترقب الموقف في الصين عن كثب دون أن تفعل شيئاً . لكن خيارات الفعل أمامها ، في حالة الصين ، تكاد تكون معدومة .. إلاً من خيار واحد وهو الانتظار قسراً ، حتى تكشف السنين وربما العقود القادمة عن حقيقة القوة الكامنة في التنين الأصفر ، الذي فاجأ العالم بصحوته وتسارع خطواته نحو تبوأ مكانه في صدارة العالم . وحتى تتكشف الأمور على النحو الذي تريده أمريكا ، نجدها تُجدّ في اتخاذ إجراءات ترى فيها وقاية من الأخطار القادمة من شرق آسيا ، لعل من أهمها :

1- الإصرار على التواجد في المناطق التي تمكنها من الوقوف عن كثب على ما يجري في الصين ، وإنشاء قواعد عسكرية تدعم هذا التواجد . وهذا ما حدث بالفعل في حرب أفغانستان ، وما يمكن أن يحدث مستقبلاً في مناطق أخرى محيطة أو قريبة من الصين .

2- محاولة مد النفوذ الأمريكي لدول آسيا الوسطى ، سعياً وراء إقامة حزام أمريكي حول الصين ، يتيح للأمريكيين فرصة منعها من مد نفوذها نحو تلك البلدان .

3- حرص أمريكا على تغطية حاجتها من النفط خلال العقدين القادمين اللذين سيشهدان زيادة مطردة في كمية النفط التي تستوردها من الخارج تصل لحوالي 25% من مجمل استهلاكها السنوي ، وحاجتها للحفاظ على الدخول الهائلة لصناعة السلاح الأمريكية .. ونهم اقتصادها الشديد لوجود أسواق ضخمة تستوعب منتجاتها .. كل ذلك يدفعها للعمل على إيجاد صيغة من شأنها أن تحفظ التوازن بين حتمية التصدي الأمريكي للتنين الأصفر من ناحية ، وبين حاجة أمريكا للسوق الصينية باعتبارها سوقاً استهلاكية واعدة لا يستطيع الاقتصاد الأمريكي الاستغناء عنها من ناحية أخرى .

4- إيجاد صيغة للحد من قدرة الصين ودول شرق وجنوب شرق آسيا التنافسية ، والتصدي لمحاولاتها إغراق الأسواق العالمية بمنجاتها ، بما في ذلك السوق الأمريكية .

ومهما يكن من أمر ، فإن ثمة تساؤل هام عما إذا كانت أمريكا سوف تلجأ لخيار الحرب ، إذا ما فشلت في احتواء تطلعات التنين الأصفر . وهذا أمر يصعب حسمه ، سواء من منظور النظريات التي تفسر مراحل تغير الثقافات والحضارات الإنسانية في صورة دائرية أو في صور أخرى . وهذا ينطبق أيضاً على النظريات ، أو لنقل المقولات التي ينادي بها مفكرون أمريكيون معاصرون ، مثل مقولة فوكوياما في "نهاية التاريخ" ، ومقولة هنتنجتون في "صراع الحضارات" . ذلك أن الارتقاء بآراء هنتنجتون لمستوى النظرية ، يعني الأخذ - بصورة أو بأخرى - بحتمية الصراع بين الحضارة الأمريكية والثقافة الصينية المعاصرة ، وهذا ما يُشك في حدوثه في المستقبل المنظور على الأقل .

ولا يقلل من صدق هذا التوقع ، القول بأن الحرب التي تشنها أمريكا الآن على العرب والإسلام والمسلمين ، تعتبر مظهراً من مظاهر صراع الحضارات الذي قال به همنتنجتون في مؤلفه المذكور . ذلك أن ما من نظرية قديمة أو حديثة ، تستطيع أن تفسر السياسات التي تقوم إدارة بوش على تنفيذها تجاه العالم بعامة ، واتجاه العالم العربي والإسلامي بخاصة غير الرغبة في السيطرة على منابع النفط فيها .

فالأسباب والمبررات التي تستند إليها تلك السياسات الاعتباطية التي تحركها غطرسة القوة والمصالح الذاتية لأباطرة شركات النفط وصناعة السلاح الأمريكية ، لا يمكن انتظامها في سياق نظرية علمية سليمة .

ثم وهذا هو الأهم ، كيف يمكن ذلك والعالم كله يتساءل : هل سيد البيت الأبيض معتوه "أهبل" كما وصفته مديرة مكتب الرئيس الكندي كريتيان .. أم أنه "شبيه" في تصرفاته بالزعيم النازي هتلر على ما قالت وزيرة العدل في حكومة شرودر الألمانية .. أم أنه "مجرم حرب" كما وصفه الأفعانيون والفلسطينيون وغداً العراقيون والبقية تأتي .. أم أن سياسته تمثل "خطراً" على السلام العالمي والأمم المتحدة كما وصفها الزعيم الإفريقي نلسون مانديلا - حتى يعلنها حرباً صليبية على العرب والإسلام والمسلمين بدعوى محاربة الإرهاب ؟ .

(5)
السياسة الأمريكية .. نحو العرب والعالم

ليس من شك أن الولايات المتحدة حققت تقدماً هائلاً في شتى الميادين ، ما دفع بقياداتها للاعتقاد بأنها أهل لتولي زعامة العالم وقيادته والانفراد في اتخاذ القرارات الهامة بشأنه ، وأن العمل على تحقيق هذا الهدف واجب مقدس ينبغي تنفيذه ، حتى لو استوجب الأمر استخدام القوة المسلحة . وهذا يذكرنا بنظرية سوروكن التي تقول بأن القادة والمصلحين الذين يأخذون بزمام المبادرة لتجديد حيوية الحضارة والتخلص من جمودها ، قد يتحولون في لحظة ما لقوة متسلطة تأتي بنتائج عكسية لما أوتوا من أجله .

حقاً أن من واجب أي مجتمع أن يعمل على تحقيق المستوى الذي يرتضيه لحياته ، غير أن ما هو حق أيضاً أن يتم ذلك من خلال تقويم موضوعي لإمكانات المحيط المادي والفكري الذي يعيش فيه المجتمع وتمتد جذوره إليه .. وهذا ما تقول به النظريات الاجتماعية التي تعنى بدراسة الجوانب الديناميكية والاستاتيكية في الثقافات والحضارات الإنسانية . فهل ما تقوم به الولايات المتحدة الآن من أعمال تعسفية بحق العديد من شعوب العالم وتأييدها للطغاة المستبدين من أمثال شارون والصهاينة وغيرهم ، يدخل في هذه الإطار ؟ .

صحيح أن المجتمع الأمريكي قد حقق من التقدم ما لم تحققه مجتمعات أخرى ، وصحيح أنه يستحق بذلك مكانة خاصة بين دول العالم ، غير أن ما هو صحيح أيضاً أن السياسات المتعسفة التي تحاول الإدارة الأمريكية الحالية فرضها على العالم ، وعزوف رجالها عن الاستماع لكائن من كان حين يتخذون قرارات تُهم المجتمع الدولي - من شأنه أن يثير تساؤلات حول أحقية تزعم أمريكا للعالم والتفرد بقيادته ، وهي على هذا الحال من الغطرسة والاستعلاء .

والأدلة على ذلك كثيرة .. يكفي أن نذكر منها على سبيل المثال ، موقفها المتحيز لإسرائيل الذي أوقع وما زال يوقع أبلغ الضرر في القضية الفلسطينية ، وفي حق الشعب الفلسطيني في استخدام كافة الوسائل المتاحة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي . كما نذكر موقفها من العراق ، الذي تهدده صباح مساء بالغزو ، إذا لم يتخلص من أسلحة الدمار الشامل ، التي ينكر العراق أصلاً وجودها بحوزته ، بينما تقف على النقيض من ذلك حين يأتي الحديث عن السلاح النووي الإسرائيلي .

أضف إلى ذلك أن أمريكا - في محاولتها الحفاظ على تفوقها الاقتصادي - تلجأ لأساليب تعسفية مثل محاولة فرض العولمة في كل شيء حتى في القيم الثقافية على المجتمعات الأخرى ، والاستيلاء على منابع النفط فيها ، فضلاً عن فرض العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي لا مبرر لها سوى أنها تخدم المصالح الأمريكية على البلدان التي تعارض سياساتها . فمن أجل تحقيق هذا التفوق ، نراها تنتهج عدداً من الطرق لبسط سيطرتها على المناطق التي تمتلك المحرك الأول للاقتصاد العالمي ونعني به النفط من أهمها :

- استخدام القوة الطاغية التي تمتلكها في فرض سيطرتها المادية على دول الخليج العربي التي تختزن في باطنها أكثر من 60% من احتياط النفط العالمي ، وتدعيم القواعد العسكرية القائمة وإقامة قواعد جديدة لها على أرضها ، استعداداً لتنفيذ مخططاتها لاجتياح العراق وغيره من دول المنطقة العربية .

- إقامة تحالفات مع الدول التي تتقاطع مصالحها مع المصالح الأمريكية في المنطقة وهي إسرائيل وتركيا .

- محاولة تغيير القيم الدينية والأخلاقية السائدة في مجتمعات المنطقة باتجاه إيجاد قيم بديلة تتفق مع أهداف أمريكا في فرض الثقافة الغربية عليها وضمان تبعيتها لها .

- محاولة تغيير الأنظمة التي باتت في نظر الإدارة الأمريكية غير قادرة على مسايرة المخططات الأمريكية في المنطقة ودعمها ، والتي لم تعد تحظى من شعوبها على الثقة والاحترام بسبب تبعيتها لتوجهات السياسة الأمريكية في المنطقة العربية . وليس من شك ، أن هذا التدخل لن يقتصر على منطقة الخليج فحسب ، وإنما قد يتعداه ليصل إلى دول آسيا الوسطى وبحر قزوين الذي يختزن في قاعه مخزوناً هائلاً من النفط ، ناهيك عن توجهات الإدارة الأمريكية الحالية لضرب العديد من الدول العربية والإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب ، في حين أن هذا التدخل ينبغ - في حقيقة الأمر - من حقد دفين يبيّته التحالف غير المقدس بين الأصولية المسيحية والأصولية اليهودية ضد العرب والإسلام والمسلمين ، والذي يتبنى بوش تنفيذه بحماس شديد .

والواقع أن تفسير هذه الممارسات في ضوء النظريات السابقة التي حاولت تفسير المراحل التي تمر بها الحضارات والثقافات الإنسانية في تبدلها من حال إلى حال ، هو أمر بالغ الصعوبة . ذلك أن وتيرة الحياة في المجتمعات الإنسانية المعاصرة ، وبخاصة عقب الحرب العالمية الثانية ، وكذلك التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي تحقق ، وثورة الاتصالات التي فاقت في تقدمها كل تصور ، وتطور وسائل النقل الجوي والبري والبحري .. كل ذلك يجعل من الصعب تفسير سلوك الإدارة الأمريكية الذي تحركه فقط أطماع أباطرة شركات النفط وصناعة السلاح الأمريكية ومصالح الشركات والرساميل ومجموعات الضغط اليهودية ووسائل الإعلام الصهيونية .. ليس حفاظاً على مقومات الحضارة الغربية التي فقدت معظم مقوماتها المعنوية والفكرية والروحية بسبب إغراقها في مستنقع المادية المفرطة ، وإنما لصالح الرفاهية المادية للمجتمع الأمريكي ليس إلا .

صحيح أن هناك نظريات تقول بإمكانية أو وجوب تدخل العنصر البشري لإحداث تغييرات في المجتمعات الإنسانية كما ذكرنا ، ولكن .. تحت شروط محددة وقواعد محكومة وفي حدود معينة . أما ما يقوم به بوش الآن من تدخل عسكري في مجتمعات أخرى ، فمن غير الصحيح أن نعتقد بأن هناك نظرية ما ، تستطيع أن تفسر هذا السلوك لصالح الحضارة الغربية أو أي حضارة أخرى .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.