"كم تراودنى نفسى أن أعيش مع الحيوانات ، فهى رابطة الجأش مطمئنة البال ، و إنى لأقف و أطيل النظر إليها ، فلا أراها قلقة حزينة على حالتها . و لا تستيقظ في الظلام و تنوح على خطاياها ، و لا تمرضنى بمناقشة واجبها نحو الرب ، و ليس بينها ساخط ، و لا من ابتلى بجنون اقتناء الأشياء ، ولا أحد من بينها يركع لأحد ، و لا لجنسه الذى عاش منذ ألوف السنين ، و ليس من بينها محترم و لا شقى في طول الأرض و عرضها ". والت وتمان بهذه المقولة بدأ الفيلسوف البريطانى الراحل برتراند راسل كتابه "انتصار السعادة" ، محاولا البحث عن الأسباب التي تشقى الناس ، و سبيل السعادة . و يقول راسل أن الناس في العالم الحديث ليسوا سعداء ، و يطمئنك بأنك لست استثنئاء في هذا الشقاء ، و إذا كنت سعيدا فكم عدد السعداء حولك ، فيقتبس من الشاعر بليك " ففي كل وجه ألقاه أجد إمارات ضعف و إمارات ويل و كرب " . لذا ستجد الشقاء في مواجهتك حيثما كنت ، و إن اختلفت أنواعه ، و أسباب هذه الأنواع متباينة يرجع بعظها للنظام الاجتماعى و البعض لعلم النفس الفردى . الشقاء الاجتماعى 1.الحروب و يقول راسل إننا في أمس الحاجة لاكتشاف نظام لوقف الحروب للحفاظ على الحضارة ، و لكن لا سبيل لذلك ما دام البشر أشقياء ، بحيث يبدو لهم الفناء المتبادل أقل بشاعة من مواصلة تحمل ضوء النهار . الفقر يرى راسل أن الفقر من أسباب الشقاء ، و لكنه يتساءل : ولكن ما جدوى إغناء جميع الناس ، إذا كان الأغنياء أنفسهم تعساء ؟ 3 .التربية القاسية التربية القاسية سيئة ، و لكن لا سبيل لتربية أخرى إذا كان القائمون عليها أنفسهم عبيدا للخوف و القسوة . شقاء الفرد يقول راسل أنه يستهدف بكتابه معالجة "شقاء الحياة اليومية" الذى يعانى منه معظم الناس ، و لا يتناول هنا المسببات الخارجية للشقاء ، بل المسببات النفسية الداخلية للفرد . و أرجع هذا الشقاء إلى النظرة الخاطئة إلى العالم ، و إلى الأخلاقيات الخاطئة ، و عادات الحياة الخاطئة التي تفضى لتقويض السعادة . و ضرب مثالا بسيرته الذاتية وهو الذى كان ترنيمته المفضلة في الطفولة "تعبت من الأض و أثقلتنى الخطايا " ، و في سن الخامسة كان يشعر كأنه عاش 70 عاما ، و في المراهقة كره الحياة و كان دائم الرغبة في الانتحار ، و لكن بعد ذلك أصبح شخصا سعيدا يستمتع بحياته . و السبب وراء ذلك أنه اكتشف ما أشهى و أهم الأشياء عنده ، و تناقص انشغاله بنفسه و تعلم تدريجيا أن ينشغل بالعالم و المعرفة و الأفراد المقربون منه ، و على الرغم من أن الحروب قد تنغص العالم ، و المعرفة أحيانا تكون صعبة ، و الأصدقاء قد يموتون ، لكن تلك الأمور لا تدمر الحياة بقدر "التحامل على النفس" و"التقزز من الذات" . و أعطى أكثر الأمثلة شيوعا في الاستغراق في النفس و ما يجلبه من تعاسة . جلد الذات و قد أسماه راسل بأ "الخاطئ " و لا يقصد هنا أنه مرتكب للخطايا ، فكل ابن آدم خطاء ، و لكنه الإنسان الذى يجلد ذاته و يحملها فوق طاقتها ، و يشعر بالذنب إن استمتع حتى بملذات الحياة ، فيرفض ذاته و يسخط عليها . و قد يكون إحساسه بالأثم دفينا في اللاوعى ، و لكن مع ذلك يعد كفيلا لينزع النكهة من كل شئ في حياته ، و يعزو ذلك لما تزرعه المعتقدات الباكرة في نفس الإنسان . النرجسية كل نجاح جدى في الحياة يتوقف على شئ من الاهتمام الصادق الأصيل بالمادة التي يتعلق بها العمل ، و مأساة السياسى الناجح هى الاستعادة التدريجية بالنرجسية عن الاهتمام بالمجتمع . و المرء الذى كل همه أن يعجب به العالم ليس من المرجح أن يحقق هدفه هذا ، و إن نجح فلن يكون سعيدا كل السعادة ، لأن الغريزة البشرية لا يمكن أبدا أن تكون تامة التركز في ذاتها . جنون العظمة حب القوة لا بد أن تصطدم آجلا أم عاجلا بالعقبات ، و السعى وراء القوة بشكل مفرط لا يجلب السعادة و المثال على ذلك الغزى الأعظم اسكندر الأكبر ، و الساعى وراء الامبراطورية نابليون ، و اكتشاف ذلك قد يحمى صاحبه من الجنون ، و لكن إذا كان أصيب بداء العظمة بالفعل فقد يسجن أو يعدم من يذكرونه بهذا ! و هكذا تمضى صنوف الكبت السياسى و النفسى جنبا إلى جنب ، و حيثما يوجد كبت لا توجد سعادة . و برغم أن أسباب الشقاء النفسى كثيرة و لكن يبقى العامل المشترك بينها هو الإنسان الذى حرم في صغره من الاكتفاء السوى في شئ ما ، فيمضى حياته يعلى من هذا النقص في ذاته و يسعى لإشباعه و يعظمه على كافة الأشياء مما يجعل حياته أحادية الجانب . و عندما يصل الشخص لحالة الإحباط ، فلا ينشد أى شكل من اشكال الاكتفاء ، بل ينشد التدمير و النسيان ، و يدمن الملذات ومنها السكر الذى يعد انتحار وقتى و السعادة التي يجلبها سلبية وإيقاف مؤقت للشقاء . و إنما يسعى لذلك " لجعل الحياة محتملة بأن يغدو أقل حياة مما كان " . و الغريب أن هناك أناس يختارون الشقاء على السعادة ، و لكن عددهم قليل ، في سبيل الأعداد التى لا حصر لها ممن ينشدون السعادة .