برغم عوائق اللغة ، لكن هذا لم يمنع عشاق المسرح من حضور العرض الأمريكى " خواريز" المشارك بمهرجان القاهرة الدولى للمسرح المعاصر و التجريبى ، للتعرف على نوع جديد من المسرح غير منتشر فى مصر ، و هو " المسرح الوثائقى" . لقد جسد العرض إمكانيات كبيرة تمثيلية وموسيقية وتكنولوجية معتمدا على مادة ثرية تاريخية وإنسانية فى سبيل تعريف الناس بمحنة " سيوداد خواريز " المدينة الحدودية التى عرفت ببوابة الشمال و التى تقع على الحدود بين أمريكا و المكسيك ، و التى أطلق عليها عام 2007 " عاصمة القتل فى العالم " ، بينما جارتها على الحدود " إلباسو – تكساس " تعد واحدة من " آمن المدن الأمريكية ". وتركز المسرحية على سؤالين أساسيان هما ، ماذا حدث لخواريز المدينة الجميلة الهادئة التى كانت تعرف ب " مصنع المستقبل " ؟ و كيف يحيا الناس فى وسط كل هذا العنف والفساد ؟ ، و للإجابة على ذلك قام " مسرح متيو " بسلسلة من التحقيقات والمقابلات على مدار عامين كاملين مع أهالى خواريز ، قادها مخرج الفرقة "روبن بولندو" الذى ولد فى خواريز قبل أن ينتقل لأمريكا من أجل الدراسة . بدأ العرض بفيديو عائلى للمخرج وهو صغير يحيا فى خواريز ، وكيف يصفها بالمدينة الهادئة الجميلة ، وذلك قبل أن تتعرض المدينة لتحولات قاسية خلال ثلاثون عاما غيروا وجه خواريز ، تبعتها عناوين صحفية ومانشيتات وتحليلات تتحدث عن العنف فى خواريز وعدد القتلى فيها وارتفاع أعداد المختفين بها ، وظاهرة قتل النساء ، وعصابات المخدرات التى تسيطر على المدينة ، والشرطة الفاسدة التى يعتبرها أهل خواريز لا تقل خطرا عن العصابات ، و النظام الذى لا يحرك ساكنا لمواجهة العنف فى المدينة الحدودية . انقسم العرض المسرحى لأربع فصول " مقدمة " و " الذاكرة" و " العنف" و " التغيير" ، فى المقدمة عرفنا العرض بخواريز بدءا من موقعها على الخريطة التى تلونت باللون الأسود تعبيرا عن واقعها المرير ، مرورا بتاريخها ، وصولا إلى التطورات التى عايشتها خلال العقود الماضية حتى وصلت إلى ما هى عليه اقتصاديا و سياسيا واجتماعيا والذى شاهدناه خلال الفصول . وكان العرض ينتقل ما بين الإنسانى والتقريرى بسلاسة ، فنشهد الممثلون يقرأون علينا بعض الحقائق عن المدينة ، مختلطة بالحكايات الإنسانية لأهلها بأصواتهم ولغتهم الأصلية فى الخلفية ، ونجد الممثل يمرر الميكرفون خلال جسده وكأن أصواتهم تنبعث من داخله ، وكأنهم يتجسدوا من خلاله أمامنا ليروى لنا واقع مدينتهم . والفيديو العائلى للمخرج الذى يصاحبنا خلال العرض ليرينا الوجه الآخر للمدينة ، و تلك الحدود التى كانت يوما مفتوحة بين البلدين ، و يقف عليها مع أخوته البنات ليلهو على النهر الجليدى ، قبل أن يتعرف على معنى "الحدود" لأول مرة ، عندما وجد الشرطة تقبض على عائلة تحاول العبور . كما تعرض المسرحية لمأساة هؤلاء الذين عبروا الحدود تجاه الحلم الأمريكى ، ولكنهم برغم قدرتهم على العبور من حدود أجسادهم و أبواب بيوتهم ، و لكنهم سيظلوا دوما " الحدوديون" الذين لا تعترف بهم أمريكا و تطالبهم بالعودة من حيث أتوا ، و الذين يشعرون بالنبذ حتى من بلدهم الأم المكسيك . بين المعلومات التاريخية الجامدة والحكايات الإنسانية التى تذيب القلب ، قرر الفريق أن يصعدوا بالعرض لبعد آخر ، ليضيفوا لمسات سحرية على العرض بالغناء جعلته أشبه بالعرض الموسيقى ، كما استخدموا تقنيات الجرافيك وخيال الظل . واستطاعوا أن يجسدوا مأساة حروب العصابات فى خواريز والتى راح ضحيتها الآلاف وكأنها حلبة مصارعة ، ليلبس الممثلون الأقنعة التى يرتدوها المصارعون فى حلبة المصارعة ، ويعلن أحد الممثلين بصوت جهورى وكأنه مذيع رياضى متمكن عن بدء المعركة ، لنشهد على الشاشة زعماء العصابات الأربع المعروفين بخواريز ، و نرى مشاهد وثائقية تنقلنا لأرض المعركة حيث الدماء فى كل مكان والأبرياء هم الضحية. ويعرضوا علينا حكاية حقيقية تلو الأخرى من قلب خواريز ، حيث الطفل الذى قتل فى حرب الشوارع ، وترك مقعده خاليا بالمدرسة ، والأب الذى مات كمدا حزنا على اختطاف ابنته ، وزوجته التى لم تتحمل خسارته ، وظلت تحادثه على الفيس بوك وكأنه مازال معها " أحبك ..أفتقدك ..أين أنت" ، حتى ظن الآخرون أنها جنت ، هكذا هو الحب الغامر . وعن تلك المرأة "ديانا" التى لقبت ب "صيادة السائقين" التى قتلت سائقى أتوبيس ، لترسل برسالة تحذيرية للسائقين الذين يغتصبون الفتيات و يقتلونهم فى خواريز ، حيث أعلى نسبة لقتل النساء . وهناك ذلك الرجل الذى اختطفته العصابات من أمام بوابة منزله حيث وقف حارس الأمن مذعورا غير قادرا على فعل شئ ، تلك اللحظات الطويلة المرعبة التى مرت عليه ،وهو الرجل الذى لا ينسى التفاصيل ، وعليه الآن أن يعايشها كل مرة فى عقله ، وهو يحاول أن يماطل من أجل لحظات أخرى قد ينكتب له فيها الحياة . و الأم التى واجهت الرئيس فليبى كالدرون رئيس المكسيك الأسبق الذى برر قتل الجيش لأبنائها المراهقين ، قائلا عنهم أنهم مجرمين فى حدث عام ، لترد عليه أنهم فقط أطفال . كما هاجمت المسرحية الأمريكيون الذى يشترون المخدرات الملوثة بالدماء المكسيكية ، وتحملهم مسئولية إذكاء حروب العصابات التى تشتعل على الحدود ، وهاجمت معاهدة النافتا للتجارة الحرة التى عقدته أمريكا مع كنداوالمكسيك وكانت فيها المستفيد الأكبر ، حيث دخل المستثمرون لخواريز ، ولكن ظل فقراؤها على حالهم . المسرحية تنتهى بطاقة أمل مع هبوب بعض رياح التغيير على خواريز ، حيث يتردد صوت أحد الناجين فى مدينة خواريز قائلا : برغم كل ذلك كلنا أمل، على الأقل لا نشعر بالمرارة ، أليس هذا جيدا؟ .