لم تكن حماقة من جحا أن يحمل الحمار مع ابنه ويسيران به في الطرقات، بعد أن أرهقهما الناس عنتًا وتهجمًا ونقدًا أيًّا ما كان سلوكهما، فعندما ركبا الحمار في أول الأمر انتقدهما الناس ورأوا سلوكهما قسوة على الحمار الضعيف، وعندما ركب جحا، وسار ابنه إلى جواره انتقدهما الناس ورأوا جحا أنانيًّا، ومؤثرًا نفسه بالراحة عن ابنه الصغير، وعندما ركب الابن وسار جحا انتقدوهما لعقوق الولد وقلة احترامه لأبيه، وعندما سار معًا ولم يركبا الحمار انتقدوهما ورأوهما قليلي العقل؛ لأن لهما حمارًا ويسيران على أقدامهما فلا يركبانه... وهنا كان تصرف (جحا) صرخة احتجاج في وجه هذا الإسراف في النقد والاستعداد المسبق للتهجم، فحمل الحمار مع ابنه وسارا به في مشهد عبثي يتسق تماما مع عبثية موقف الناس منهما. لم تكن الحماقة من جحا في أن يحمل الحمار، ولكنها كانت في انشغاله بالناس، وبما سيقولون إِنْ تصرف على هذا النحو أو غيره. وما أشبه حال التيارات الإسلامية في مصر الآن بحال جحا في هذه النادرة التي توارثها المأثور الشعبي، فالتيارات المناقضة للفكرة الإسلامية وللمشروع السياسي الإسلامي من ليبرالية وعلمانية وقومية، تقف على أهبة الاستعداد والتربص لأي موقف أو مسلك لأي تيار من تيارات الإسلام السياسي، وقد شمرت عن سواعد جدها ونزلت إلى الساحة السياسية بثقل غير مسبوق في تاريخ الحياة السياسية في مصر. فالهجوم على التيارات الإسلامية جاهز وانتقادها أشبه بالوتر المشدود، ولا شيء سيصدر عن التيارات الإسلامية إلا وله وجه من النقد معلّب، ولا سبيل لأن يرخى وتر النقد المشدود حتى بانسحاب التيارات الإسلامية من الحياة السياسية. وإن أقرب الشواهد على ذلك هو موقف التيارات الإسلامية من ميدان التحرير فيما بعد جمعة الثامن عشر من نوفمبر الماضي... فقد دعا الإسلاميون إلى هذه الجمعة الحاشدة، فامتلأت جنبات الميدان بالمتظاهرين السلميين تعبيرا عن الاحتجاج العارم الذي لاقته وثيقة السلمي في الشارع السياسي المصري. وهنا قال أصحاب التيارات المدنية على اختلاف ألوانها: إن الإسلاميين يسعرضون عضلاتهم ليرهبوا التيارات المدنية والمجلس العسكري على السواء. ثم وقعت في اليوم التالي مجزرة شارع محمد محمود، فآثر الإسلاميون ألا يزيدوا نار الموقف الحرج اشتعالا بحشد الحشود، فقيل عنهم: إنهم قد خانوا الثورة وتركوا المتظاهرين ومصابي الثورة نهبًا لبلطجية الداخلية، وهكذا فأيًّا ما كان التصرف الذي سيكون عليه موقف الإسلاميين فهم مستهدفون بالانتقاد إلى حد التجريح والتخوين والاتهامات الجزافية بل العبثية المتناقضة، ففريق يقول عنهم: إنهم يستقوون بكثرتهم على المجلس العسكري، وفريق يقول: إنهم ممالئون للمجلس العسكري ومتواطئون ومتورطون معه في اتفاقات سرية غامضة!!. فالحذر كل الحذر هو ما يتوجب على الإسلاميين أن ينشغلوا كما انشغل جحا بالرد على هذه الانتقادات الجاهزة، لأنها لا نهاية لها، وستوقع المسيرة في دائرة مفرغة من الفعل ورد الفعل، وتصرف الهمم عن قضايا الواقع الاجتماعي والسياسي. وهذه هي حماقة جحا، وهذا هو الموقف العبثي الذي تقود إليه مهاترات النقد من جانب التيارات المدنية، والدفاع ضد هذه الانتقادات من جانب الإسلاميين. لهذا، فإن الأولى بالإسلاميين هو الانكباب على التطبيق العملي الواقعي الفعلي الحقيقي لمشروعهم النهضوي الإسلامي، هذا المشروع الذي أحدث زلزالًا في الحياة السياسية وهو لما يزل نظريًّا فكريًّا، فاستحوذ على ثقة وطمأنينة المواطن المصري المسلم هوية وثقافة وتراثًا، فمنحه تأييده في أولى الجولات الانتخابية في ظاهرة أربكت كل حسابات مراكز الأبحاث واستطلاعات الرأي. فلم يبق بعد ذلك إلا أن ينشغل أصحاب هذا المشروع الجليل بالهم الأهم، وهو سبر الفجوة وعبور الجسر بين أفق النظرية الفكري، وواقعها المعيش. لقد شهد القرنان الماضيان وفرة تصل إلى حد الفوضى من النظريات وتيارات الاجتماع السياسي، نظريات كانت براقة، وهي بعد مشاريع وأطروحات فكرية، ولكنها حين انصهرت في معترك الواقع؛ فقد تلاشت واضمحلت وتقزمت، ولم تبق منها إلا أصداء في جوف التاريخ. وليس هكذا الإسلام، لأن النظرية السياسية الإسلامية هي منهج الحياة الأصلح لكان زمان ومكان، هكذا هي حين ينظر إليها كبنيان فكري، وكنظرية معرفية في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعسكرية، وهذا ما أثبتته، هذه النظرية في وهلات التاريخ القليلة التي أتيح لها فيها أن تعمل في معترك الحياة؛ لتقف وهلات التاريخ المضيئة بضياء النظرية الإسلامية خير شاهد على مصداقية وجدارة الشريعة الإسلامية ومنهجها للحياة، وهو ما يجب أن يكون الشغل الشاغل لطلائع التيارات الإسلامية، وهي ترسي اللبنات الأولى في صرح التطبيق العملي للفكرة الإسلامية، فلا تتبدد طاقاتهم في جدل أشبه بالجدل البيزنطي العقيم، لأن رجال التيارات الإسلامية هم أعرف الناس بظلال الهدى العظيم في قول الله سبحانه: { قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ }. إنه خطاب المولى العظيم لكل صاحب مشروع حضاري ينطلق عن الجوهر الإسلامي أن يضرب صفحًا من الخوض في جدل لا يثمر، وأن يوجه همه وطاقته إلى العمل والفعل والإنجاز، وذلك هو ما بايع الشعب عليه الإسلاميين، ولم يبايعهم على الدخول في معارك جدلية تلفتهم عن الطريق كما فعل جحا عضو اتحاد كتاب مصر