شارك الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة -إيسيسكو-، في ندوة حول (النخب العربية الإسلامية : الدين والدولة) افتتحت مساء أمس في إطار موسم أصيلة الثقافي الدولي في نسخته الثامنة والثلاثين، بمدينة أصيلة شمالي المملكة المغربية. وألقى الدكتور التويجري كلمة في افتتاح الندوة لخص فيها الدراسة التي أعدها حول محور (الدين كتراث مشترك واحتكاره من لدن السياسة). وجاء في هذه الدراسة أن القضية المطروحة على بساط البحث، هي من القضايا الشائكة على صعيد العالم العربي الإسلامي، إنْ لم يكن على الصعيد العالمي، لأن احتكار الدين من لدن بعض الحركات السياسية، أو تلك التي تقول إنها تتحدث باسم الدين، وإقصاء الدين عن السياسة من قبل بعض التيارات السياسية والفكرية، هو الأمر الذي يشكل تحدّياً يواجه المجتمعات العربية الإسلامية خلال هذه المرحلة العصيبة التي تعيشها. وقال الدكتور التويجري إنه إذا كانت ثمة أسبابٌ كثيرة تؤدي إلى الالتباس في فهم مدلولات تعاليم الدين ومفردات نظم السياسة، مما يُوقع في الخلط وتنشأ عنه الأزمة، فإن تحديد المفاهيم وضبطَها، وتحرير المصطلحات وتأصيلَها، هما المدخل إلى الفهم السليم، وإلى التفاهم المُبْعد للاختلاف الذي يُفضي إلى الخلاف، وما يترتب عليه من مضاعفات تنعكس على الوئام الاجتماعي، وقد تكون لها آثارها المضرة على الاستقرار السياسي. وذكر أن التعدّد في المفاهيم الرائجة يُضيِّق من مساحة الفهم والتفاهم، وإذا كانت المفاهيم تنبع من الثقافة السائدة، وتستند إلى الخصوصيات الروحية والثقافية والقانونية، فإن التعامل مع المفهوم، وليكن (الدين)، أو (السياسة)، ينبغي أن يقوم على أساس من الاستيعاب العميق لتلك المضامين والبناء عليها. وبيَّن أن الإسلام لم يحدّد نمطاً معيناً للدولة لا يتجدد ولا يتطور، بل وضع المبادئ وأرسى الأسس ورسم المعالم وحدد الإطار وترك للمسلمين انتهاجَ ما يرونه ملائماً لواقعهم، ومناسباً لمستجدات حياتهم، ومستجيباً لقضايا عصرهم في ظلَ مقاصد الشريعة، ولم يأت بنموذج واحد للحكم وبأي شكل محددٍ للسياسة، وقال إن إضفاء الصفة الإسلامية على أي نوع من الحكم أو على السياسة، هو تجاوز لا أصل له، إذ ليس في معجم مفردات الثقافة الإسلامية، أو العلوم الشرعية، مصطلح (الحكم الإسلامي)، أو (السياسة الإسلامية)، أو حتى مصطلح (الدولة الإسلامية). ومضى قائلاً : « في تراثنا الفقهي والعلمي الغنيّ التليد، كمٌّ كبيرٌ من المؤلفات التي بحثت مفاهيم الحكم والسياسة من حيث العلاقة بين الدين والسياسة، تحت مسمى (السياسة الشرعية)، أو (الأحكام السلطانية)، وقد محّصت هذه المؤلفات المسائل المرتبطة بالحكم وبالسياسة العامة للدولة، مما خلّف لنا زاداً معرفياً غنياً جديراً بأن نعود إليه ونستلهمه ونستفيد منه في تأصيل العمل العام الهادف إلى إصلاح المجتمع وتقدمه وتطوره والنهوض به، أياً كانت المناهج المعتمدة فيه والطرق السالكة إليه ما لم تخرج عن سبيل الحق والعدل والفضيلة واحترام الكرامة الإنسانية». وبيَّن أنه على هذا الأساس، يُنظر إلى الجماعات والأحزاب والحركات والتنظيمات السياسية التي ينسبها أصحابُها إلى الإسلام، والتي لا يجوز أن يُنسب الإسلام إليها، ويحكم عليها بالشروط المعتمدة في المنهج الإسلامي القويم، ولمعرفة ما إذا كانت المقاصد المرعية هي خدمة المجتمع الإسلامي والنهوض به من النواحي كافة، وحفظ المصالح العامة والحقوق الإنسانية، وحماية الهوية الروحية والثقافية والتشريعية والحضارية، وإقامة العدل، بالضوابط المحكمة وبالوسائل الحكيمة، في غير ادعاء وشطط، أو تشدّد وتعسف، أو تطرف وغلوّ. وأوضح الدكتور التويجري أن مفهوم الحكم كما هو متداول اليوم ومعتمد في العلوم السياسية، ليس هو المقصود ب (الحكم الشرعي)، الذي هو مفرد أحكام، وهي الكليات العامة والقواعد الجامعة في الشرع الإسلامي، وكذلك هو الشأن مع مفهوم (السياسة)، التي هي فن حكم المجتمعات البشرية، أو كما عرّفها الفقيه الحنبلي أبو الوفاء عليّ بن عقيل : (ما يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول أو نزل به وحي). وقال : « ليس من ذلك أن الإسلام لا علاقة له بالسياسة، بالمدلول القانوني العام، فهذا مما لا يقول به عاقل، ولكن ما نؤكده في هذا السياق، هو أن الإسلام لم يأت بنظرية محدّدة في الحكم، وبمفهوم ضيّق للسياسة، وهو مما يتفق وكونه رسالةَ هدايةٍ ورحمةٍ للعالمين، لا يحدّها زمان أو مكان أو مجال». وأكد أن احتكار الدين من لدن السياسة، بالفهم المنغلق، هو تأويل ليس له من موجبات الصحة نصيبٌ، وأن إقصاء الدين عن السياسة تعسف لا مبرر له. فالدين يمثل في تعاليمه وأخلاقه، مكوناً أساساً من مكونات الحكم في الإسلام، وليس ذلك إقحاماً للدين في السياسة، أو احتكاراً لها، بمفهوم الاحتكار المتداول، لأن الدين هو الهداية الربانية للإنسانية، بما تقتضيه الهداية من رحمة وتربية وتوجيه وخُلقٍ ورسم للمسار الذي يسلكه الإنسان في الحياة، ليعيش في عزة وكرامة وحرية وعدالة. وقال إن الخلط في المفاهيم، وعدم تحرير المسائل الدينية والفكرية والسياسية التي هي مثار الجدل، يحجبان الحقائق، وقد يؤديان إلى تطاحن فكري، واحتراب ثقافي، يُفضيان في النهاية إلى أزمات سياسية، مشيراً إلى أن عددا من الجماعات والتنظيمات والأحزاب التي تحمل شعارات إسلامية، وتقدم نفسها للجمهور العريض في صورة الممثل للإسلام، يجانبها الحق في أمور كثيرة، فتحيد عن النهج القويم حين تنزل إلى ساحات العمل السياسي بمشروع تعتقد أنه إسلامي، فهي بذلك تمارس السياسة بغير أدواتها، وتُقحم الإسلام الحنيف في كثير مما لا يجب أن يُزجّ به فيه، وأن من يتصدَّى لهذه الجماعات والتنظيمات والأحزاب التي تعلن مرجعيتها الإسلامية، بالردّ وبالمعارضة وبالعداوة في أحايين كثيرة، يحيدون عن جادة الحق والعدل، حين يرمون الإسلام بما ليس فيه وهو منه براء، وحين يهاجمون الإسلام ويشهرون الحرب ضد ما يسمونه (الإسلام السياسي)، وهو مصطلح وصفه بأنه خاطئ، فالإسلام واحد لا يتجزأ ولا يُحمَّل ما لا يحتمل، فيتسببون في إثارة الفتنة وإضرام نار الصراع، فيحمى وطيس الاحتراب السياسي وتدخل المجتمعات في دوائر التجاذب والتصادم، فتضيع فرص النماء والبناء والتقدم إلى الأمام. وأشار إلى أنه إذا كان احتكار الدين للسياسة بالمعنى السلبي المتداول، لا يجوز وفق المنهج الإسلامي في الحكم، فإن إقصاء السياسة للدين تعصّبٌ مرفوضٌ وضيقُ أفقٍ مذموم، لأن في ذلك عدواناً على الدين بقدر ما فيه من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، موضحاً أن ما يجلب المنافع ويحمي المصالح ويحقق أشواق الإنسان إلى الحياة المستقرة التي توفر له الكرامة والحرية والعدالة، هو الاعتدال في الأمور كلها، والنظر إلى الدين باعتباره حقاً مُشتركاً لا يحقّ لأي فريق احتكاره، كما لا يحق لأي فريق ازدراؤه وإقصاؤه. وأن يحصل التوافق على المواءمة بين الديني والدنيوي، في معادلة تحفظ حقوق المواطنين، وتقيم العدل في المجتمع، وتصون هوّيته وخصوصياته الحضارية، في غير انغلاق وجمود، ولا انفلات وجحود. وخلص الدكتور عبد العزيز التويجري في ختام الدراسة التي قدمها إلى الندوة، إلى القول إنّ الإسلام لم يحدد نمطاً معيناً للدولة لا يتجدّد ولا يتطور، وإن من الضروري الأخذ بالتجارب السياسية والإدارية والتنظيمية التي ثبت نجاحها في تسيير شؤون الدول، وفي تحقيق العدل والمساواة وحفظ الحقوق وصيانة الكرامة الإنسانية، وتنزيهُ الإسلام بصفته وحياً إلهياً، عن ربطه دائماً بمتاهات السياسة ومناورات السياسيين التي هي اجتهادات بشرية متعدّدة، منها ما هو صائب، ومنها ما هو خائب، وذلك في إطار ما يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد.