مهرجان القاهرة يؤسس ثورة ثقافية بعد خيبات "الربيع" الشهاوي يهيم ب"أبوالإشارات" الباحث عن الفردوس أبناء إيطاليا قد لا يعلمون شيئا عن فظاعات آبائهم الكوني لمحيط : لا تناقض بين بدائية الصحراء ومدنية أوروبا روايات اليوم منشورات تزيد غربتنا .. وأبحث عن أعمالي المصادرة الكوني : كيف نتسامح مع من سفك الدم ونصب نفسه ربا ؟ التقنية تبث الأكاذيب باسم حرية الإبداع عبدالمجيد والبعلي : المهرجان دليل قوة المجتمع المدني النمنم : تسقط الأيديولوجيا ويحيا الإنسان هو الباحث عن المكان الضائع بصحراء الإنسان العربي، تصدى للطاغية القذافي وتعرض للنفي مبكرا عن وطنه، عمل بالصحافة والدبلوماسية واختار الكتابة مستقرا وحلق بأقطار شتى وشهد قيام امبراطوريات وسقوط أخرى، لكنه تعلم أن ضالته المنشودة لن يجدها إلا هنا (يشير لقلبه)! إبراهيم الكوني علامة الأدب الليبي المعاصر الذي ترجمت رواياته للغات العالم، يعترف بأن الغرب هو من قرأه وتجاهله قومه ! كتب ملاحم التاريخ الليبي التي سعت ثورة الفاتح لمحوها، واعتنق الأسطورة في كل حكاياته فهو ابن صحراء الطوارق الملهمة، وسعى للانتصار للمهمشين ومنهم الأمازيغ، كما تمكن من استنطاق الحقيقة من ذرات الرمال عبر روائعه "المجوس" و"التبر" و"الورم" وغيرها من الأعمال. وقد حل الكوني مساء أمس ضيفا على شرف مهرجان القاهرة الأدبي، والذي دشن أنشطة دورته الثانية ببيت السحيمي العريق بشارع المعز، بحضور وزير الثقافة ومبدعين عالميين وعرب والعشرات من عشاق الأدب بمصر . المهرجان يرأسه الكاتب الكبير إبراهيم عبدالجيد والذي أكد أن نجاح الدورة الأولى للمهرجان واستمراره رسالة لدور المجتمع المدني بالتغيير . ويأتي المهرجان بدعم من وزارة الثقافة ومؤسسة الأهرام ومعاهد سويسرا والدانمارك والتشيك وألمانيا بمصر . وقد شارك بظهوره متطوعين ثقافيين بمصر . محمد البعلي مدير المهرجان عبر عن سعادته بزيادة الدول الممثلة هذا العام حيث بلغت 15 دولة، وزيادة جلسات الأدب والفنون وكذا المشاركين من كل الجنسيات. كما تطرق للقضايا التي يثيرها المهرجان هذا العام حول الرقابة وحرية الإبداع والترجمة وأدب النشء والكتابة كفعل مقاومة الكوني .. مريد الحقيقة في كلمته التي حملت آفاقا صوفية وأدبية رفيعة، تحدث الشاعر المصري البارز أحمد الشهاوي عن ضيف شرف المهرجان إبراهيم الكوني، واصفا إياه بالمريد الذي كان له من اسمه نصيب، فروحه لا يسعها وطن سوى الكون. وقال الشهاوي مدير أولى لقاءات المهرجان أنهم يدشنون ثورة ثقافية بعد الفشل الذي منيت به ثورات الربيع العربي . وتحدث عن الكوني قائلا أن يستنطق باطن الصحراء الكبرى، وهو أبوالإشارات الساعي لكشف سر الأبدية، منذور لنداء ما كان بعيدا، يحمل معرفته فوق ظهره كعادة أصحاب الرسالات . الكوني - كما يشير الشهاوي- يكتب بلغة دينية يصوغ بها هواجسه ووسوساته ، وهو ابن شرعي للفلسفة وأسئلتها. يحيا بالرمز ويصمت بالحرف. هو صاحب متن يمشي بروحه اللامحدودة ويبحث عن فردوسه المفقود . وشذرات الكوني محملة بالنبوءة ، وإبداعه يضرب قوانين الكتابة التقليدية ، وهو يؤكد أن الصحراء لا المدينة هي أم السرد وسر إلهامه بفطريتها وطبيعتها وبحارها الرملية الشاسعة وليلها الناطق بالحقيقة الخالدة . يؤكد الشهاوي أن الكوني لم يقرأ عربيا كما يجب منذ صدور رائعته "المجوس" بل ومنذ مصادرة أولى رواياته بليبيا حين وقف بوجه القذافي ووصفه بطاغية، وحين انقطع عن الكتابة عشر سنوات وعاد بنهاية الثمانينات ليمنح الملايين عطاءاته الغزيرة التي وصلت لثلاث روايات في العام! وتمتاز أعمال الكوني بالبحث عن الحرية المنشودة لم لا وصاحبها حكيم "الألم" و"القلم" الذي أنصت لخفة الكائن العابر وكان قلبه هو قبلته وحمل صحراءه في جوفه حتى انتحت اللغة وصلت على سجادة يمينه . يؤكد الشهاوي أن الكوني تعلم طويلا قبل أن يتقن لغة الحديث لنفسه مؤمنا أن الحضارة المفقودة لن تزول ما بقي الإنسان .. وحتى حين اعتزل العالم كان ذلك لا لشيء إلا لأنه أحبه! وقد كشف الشهاوي عن استعداد مصر لطباعة عدد كبير من أعمال الكوني لسد فراغ القراءة عند القاريء العربي والمصري . وأكد أن الكوني لا يزال يبحث عن عشرات الأعمال المفقودة خلال رحلته من بلاده لأصقاع العالم، وشبهها بقارة كاملة مفقودة ومعظمها أعمال كانت قد تمت مصادرتها . وأكد الشهاوي أن الكوني كان صاحب فكرة الجائزة العربية الإفريقية للآداب التي حولها القذافي باسمه . وبختام كلمته يقول الشاعر : في الكتابة هناك أهل باطن وأهل باطل .. وإبراهيم باع الدنيا لقاء حرف. حكاء ليبيا يعترف حملت كلمة الأديب الكبير إبراهيم الكوني محبة كبيرة لمصر التي آوت شعبه في محنته منذ القرن الثامن عشر إبان الحكم القرملي ، ثم العدوان الإيطالي وأخيرا الهبة الوحشية للمتطرفين والحلفاء على الليبيين العزل بعد الربيع العربي. يقول الكوني : الليبيون لم يعبروا البحر وراء حطام الدنيا، ووجدوا بمصر الأمان المنشود . وأضاف : لا حرية بدون أمان . وهنا علق وزير الثقافة المصري مؤكدا أنه بدون أمان سنصل لما وصلت إليه العراق وسوريا وما يعانيه الليبيون اليوم، ودعا لسقوط الأيديولوجيات الضيقة التي قامت عليها دول كإسرائيل وإيران أكبر قوتين تفننتا بإشعال النيران بالمنطقة، كما يسعد "العالم الحر" في إشارة لأمريكا وأوروبا بما آل إليه الربيع العربي بعد سقوط دول بأكملها . ودعا النمنم لأن يظل الدين بمكانته السامية وأن تترك السياسة لأهلها وقال : تسقط الأيديولوجيا ويحيا الإنسان . ويري ابراهيم الكوني ان شقاء الإنسان العربي مبعثه التركيز العميق بالأيديولوجيا والسياسة وكلاهما زائف ومدمر . والإنسان الغربي لا يولي هذه المسائل إلا عاشر أولوياته . وقد أثبتت التجربة فشل أيديولوجيات اليسار واليمين ، وهناك مرارة عانى منها هو شخصيا مع رافعي رايات القومية العربية، ومرارة أعمق مع أصحاب تيارات الإسلام السياسي الساعين بشراسة للسلطة . والكوني لا ينادي فحسب بفصل الدين عن العمل السياسي المباشر، ولكن فصله عن العمل الثقافي أيضا بعد ما يسود من تأويلات ضيقة وتفسيرات عقيمة للدين تخنق حرية الفكر والإبداع جناحا النهوض بأي مجتمع وحضارة . ودعا الكوني لأن ننظر لحياتنا كصفقة وقتية زائلة، فالموت صاحب الكلمة النهائية، ومن لم يمر بتجربة فقد الحياة فلن يدرك معاناها ومعنى السعادة التي نعرفها دوما بعد فوات الأوان . والأدب فعل مقاوم حتما وواجب لكل إنسان، كما يعبر "الكوني" ، فمقاومة الشر رأس كل واجب . ويعتبر الكوني نفسه إنسان كل الديانات، بمعنى استلهامه الحكمة من كل الميثولوجيات القديمة وليس الرسالات السماوية فحسب، وقد أبدى إعجابا كبيرا بالحكم الدينية الهندية القديمة لامتيازها بالفطرة والعمق . وهو يرى أن الأدب يخلد صاحبه وهو لن يكون أدبا إلا إذا كان مقاوما، ف"لمن تقرع الأجراس" لهيمنجواي أبلغ من كل مشاركاته ضد الفاشية بإسبانيا . والأديب يسير دوما بعكس الفكر المغلق والأيديولوجيات التي تتصور امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا يعلمها إلا الله، ونصيب الإنسان منها السعي . يتساءل الكوني : كيف نتسامح مع من ينصبون أنفسهم أربابا ويسفكون الدماء ؟! لقد نسي البشر الحب وتحول اللاهوت لبوق قتل وسفك دماء بعيدا عن روح الديانات التي تحض على التسامح والحب . وللأسف تحولت التقنية الحديثة لأبواق بث المعلومات الكاذبة باسم حرية الابداع علينا الإسراع بالعودة لبراءة البشرية والحلم والإيمان بجمال فيه خلاص عالمنا . على بساط المعاني دار نقاش موسع بين الحضور والأديب الكوني ضيف مهرجان القاهرة، وقد أجاب على أحد تساؤلات "محيط" حول تحدي تناقض عالمي الصحراء والمدنية بحياة الكوني، ونفى ذلك مؤكدا أنه ظل يبحث عن الإنسان أينما كان .. المهم أن تخاطب روحك وقلبك.. والمكان ليس ما نسكنه ولكن ما يسكننا . وقد ظل وطنه يحتل جزء كبيرا من كيانه بينما هو يعيش بأوروبا . يضيف : ليس هناك تناقضا بتجربتي الإبداعية، ومنذ بداياتي قررت تحطيم مقولة جورج لوكاش بأن الرواية عمل مديني عمراني، أي ينتجه أبناء المدن، وتجربتي مع الكتابة تؤكد أن الإنسان هو اللغز وليس العمران. وعن روايته "فرسان الأحلام القتيلة" أكد الكوني أنها تبعث برسالة مفادها أن الطغاة صنفان ؛ أحدهما غبي يقتل المعارضين، والآخر أدهى يقتل أحلامهم ولا يلوث يديه بالدماء . وردا على تساؤل أحد الحضور قال الكوني : أسعى لتحويل الواقع لأسطورة ، أي أسطرة الواقع وليس العكس، وهو مذهب انتهجه كافكا ومن بعده ماركيز، فبه طاقات لا محدودة، ويمكن لإنسان أن يكون حشرة يعيش عالمها! وعن أعماله التاريخية أكد الكوني أن ثورة الفاتح للقذافي سعت لإهدار كل ما سبقها من تاريخ ليبي عريق حتى تاريخ مقاومة الاستعمار نفسه وتاريخ أسر حكمت ليبيا وشذت عن الحكم العثماني للمنطقة كأسرة القرمنلي والحكم الملكي ونحو ذلك . وعن الروح الشعرية بالنص النثري، يرى الكوني أن الرواية لا تستحق اسمها بغير موسيقى تتردد بين الحروف وإيقاع نثري منضبط، وأن الحقيقة ان الرواية جنس يجمع كل الأجناس السابقة عليه كالشعر والقصة ولهذا يهرب إليها المبدعون . أما عن اتقانه لتسع لغات، وكتابته للأدب بأكثر من لغة من بينها، فيرى الكوني أنها كانت مجازفة كبرى ولكنه نجح بها لحبه للتجديد ولأنه كتب بلغات امتثلها بالفعل بداخله وهذا شرط الكتابة بلغة غير لغتك ، ولكنه ظل وفيا للعربية التي هي لغة مقدسة عنده . وأكد الكوني أن الصحراء ليست جغرافيا وتاريخ نكتب عنه ولكنه عالم يجب الإلمام بخفاياه قبل خوض الكتابة الروائية عنه. وأخبر عن موسوعة كان قد أعدها حول تأثير أهل الصحراء بحضارة مصر القديمة . سأله الشاعر جبار ياسين : هل تفسدنا الرواية بعد أن أفسدتنا السياسة ؟ وأجاب الكوني بأن روايات اليوم تزيد غربة الإنسان بخوضها الشديد بالمسائل اليومية السياسية وهي روايات يسميها بالتقارير . وعن اضطهاده يقول : اضطهدني القوميون والإخوان، والحقيقة أن العرب يتجاهلون كل ما هو غير عربي، وهذه عنصرية غير مبررة وضارة . وبينما كان الكوني يهم بالرد على متسائلة إيطالية حول خفوت النهضة العربية، أجاب الشهاوي بأن الأجيال الحالية لا تعلم الفظائع التي ارتكبها آباؤهم بحق الشعب الليبي وهم مازالوا يعانون منها حتى الآن ، وللأسف سيرتهم ليست عطرة ولن تكون على هذه الأرض. واستدرك الكوني : الأيديولوجيات كما ذكرت عطلت مشروع النهضة منذ الأربعينات وظهور القومية العربية بنزعتها الشوفينية التي ترى الأفضلية بالعرق وليس الثقافة، وهذا جعل الأقليات مهمشة. وقد عانى شخصيا من اضطهاد القوميين والإخوان واضطر للهجرة . وأكد الكوني أن شعوبنا العربية تحاكم الشخص بمواقفه الخاصة وليس بنصه، وعلى استعداد لقتله قبل أن تقرأ له . وربما لذلك يصبح الكاتب عظيما بعد موته، حين يصير نصه حول البطل!