بعد عدة مجموعات قصصية، ورباعيته عن مدينة المحلة الكبرى، تأتي رواية "العجوزان" للكاتب المصري جار النبي الحلو تتويجا لمسيرة نصف قرن من الكتابة، والدأب بمهارة وهدوء على استئناس السرد، وتخليصه من نثر الحياة، ليصير شعرا وإن لم يدّع النص ذلك. رواية "العجوزان" التي صدرت في سلسلة "روايات الهلال" (يناير 2016) تلخص في صفحات قليلة ومشاهد محكمة لا زوائد فيها، حالة إنسانية خاصة، علاقة صداقة ممتدة بين عجوزين، شهد كلاهما كيف يتقدم زميله، زميل الدراسة والصبا، في السن، وصولا إلى جوانب من أيام ثورة 25 يناير، بدون هتافات ولا كلام كبير، فقط الآثار الإنسانية والنفسية لعجوزين في مدينة صناعية يراقبان العالم وهو يتغير من حولهم. عجوزان ينبض قلباهما بمحبة العالم: "لما أخذنا راحتنا في القعدة جاء الحارس يلوح لنا بالعيب، فقلت له عيب أنت، ألا ترى شيبتي، ألا تعرف من أنا؟ ارتبك الحارس وأخذ سيجارة واعتذر. هي حدثتني عن ابنها الذي فشل في الحصول على شهادة، وزوجها الذي تزوره في السجن مرتين في السنة، وحين فشلت في إشعال سيجارة من الولاعة اقتربت مني ومنعت الهواء، وتحسست أصابعي صدرها المترهل، وما أن رجعنا حتى سبقتها ودخلت البيت وأنا أعرف أنك تتابعني وسيأكلك الفضول، فقد رأيتك وأنت تدخل كشك الموسيقى وأنا و"ياسمين" نتضاحك تحت ساعة الشركة" رواية قفزة، وكاتب نافذ كرأسِ سهم!، فلا يكتفي جار النبي الحلو بما يقع له من الوقائع المكنوزة بالدلالات والرؤى، ولا يقنع بما روّضهُ من حيلِ السردِ وتفانينه المدهشة، ولا حتى بخياره الأصيل، في أن تكون القراءة ممتعة وشائقة ومتبصرة. لا يقنع بهذا كله؛ لقد جعلته الكتابة يغوص عميقا في عالمه الخاص، ويستمع طويلا إلى أناس متباينين في هذا العالم، فأصبح يصوغ شخصياته من الدم واللحم لا من الورق والحبر. جعلته الكتابة ساحرا يستنهض مدنا من النسيان، وها هو يقفز بروايته "العجوزان" إلى أفق آخر من السحر والعذوبة، إذ يقدم في روايته "تبصرا نفسيا" مدهشا لأخلاط من البشر، عبر ديالوج سردي من نوع جديد بين عجوزين يلدان العالم ويراقبنه في آن!