يظل الشاعر الحقيقى فى أمته ضميرا يبكى آلامها، وينشد آمالها، فنراه مدفوعا بقصور حبه الذاتى إلى تسديد ضريبة هذا الحب؛ ضريبة يستشعرها شاعرنا وكأنها دين فى رقبته؛ وكم على شاعرنا تجاه وطنه من صلوات لا تنتهى، يقيمها ركعتين ركعتين؛ صلوات تلعن المستبدين والمنبطحين والمتاجرين والخونة، وهى فى الوقت نفسه تبكى الشهداء والمطحونين والبائسين. (1) فى قصيدته الرائعة (ركعتان مما على) يستهل ركعته الأولى بمفتتح مثير (كان صديق/ شاركنى نفحات الردة) مفتتح يطرح كثيرا من التساؤلات التى تتوهج بقوله (ثم استشهد مفتونا تحت سنابك فجر ما) هى ردة التمرد على طريقة أمل دنقل (المجد للشيطان معبود الرياح) التمرد الذى يجعل ردته نفحات، وموت صديقه شهادة، وسبيل شهادته فجر يرمز للحرية. وسرعان ما يأتينا بصورة مغايرة تتمثل فى الردة عن المبادئ (ولذا أكره كل صنوف الردة/ والمنبطحين لكى لا نستورد آلهة) هو يكره الانبطاح، كما يكره آلهة المنبطحين، فهل يمكننا ان نفهم الردة من خلال هذا السياق... الردة هى تغيير المبادئ التى تتغير بطرائق شتى، وشاعرنا يبرأ منها جميعا. شاعرنا مرتد لأنه مشرك فى إيمانه الذى لا يعرف التوحيد فى الحب، فهو يؤمن بحبيبته وببستانه وبقريته وبالتحرير(الميدان وقضية الحرية معا)، كما يؤمن بأشياء كثيرة يضمها حرف عطف بلا معطوف. شاعرنا أصابه الإحباط الذى قاده إلى اجترار ذكرياته، عله يفر بها من واقعه المقيت، ولذا نراه يستدعى الترعة والطفولة، لينطلق من خلالهما إلى اجترار ميراث ثقيل من الاستبداد المخادع، فكنا (فى ساقية النازيين ندور)، وكان المستبد فينا نبيا، نقبل منه كل شئ حتى الهزيمة (وحين كسرنا/ للنكسة بررنا كان الملهم مقطوعا عنه الوحى)، فالعيب لم يكن فى نبينا وإنما فى وحيه!! شاعرنا بنبوته يبشر برسالته ويعلنها مرارا لبلاده ( لا ترتدى)، ويقرر لعنتنا التى يشهد عليها التاريخ والأرض معا؛ اللعنة التى تتنزل لأننا نحب الاستبداد (تعلمنا أن نسمع عن صنم واحد/ من بوق واحد/ كنا شعبا وبرأس واحد)، ونحب المستبدين الذين ( باعونا لحدائق حيوانات العالم من أجل زعامتهم/ باسم الدين/ وباسم الحرية أحيانا)، نحن الذين لم نكلفهم أعباء معيشتنا (زهدنا وتصوفنا وتكسترنا فى الكستور) وإذا كنا قد عانينا من الاستبداد، فقد عانينا كذلك من قرينيه الفقر والذل، فهذا مات فى (فحت البحر) وذاك (أجير) مظلوم، والنتيجة فى أن ( كئوس دماء الفقراء تراها مترعة/ كى يشرب رب الشعب وباسم الشعب) وماذا عن الحلم؟؟ حلم شعبنا أن نرى أحفادنا يهتفون (تسقط آلهة شتى).. ماذا؟ أولم يحدث!! شاعرنا وببراعة شديدة يشعرنا أن حدث الثورة لم يحدث لأنه بلا نتائج إمعانا فى بث المرارة. وفى ركعة الشاعر الثانية ينطلق الشاعر من هزيمة الثورة، التى أصبح شبابها مجرد ذكرى ومتحف واحتجاج، أما الواقع فمرير (لا يخلو من وضع حذاء مقلوب فوق تواريخ الثوار) هزيمة الثورة هى موت بطئ لكل شئ (وأسماك النيل تؤكد هجرتها/ والأفدنة المملوءة بالمسك وبالصبر/ تراتيل حليب الفقراء تموت/ يلون كف الأطفال الحزن)، الآن (لا بيت بلا موتى) فأين شاعرنا من كل ذلك؟؟ يقول بلهجة رسولية حكيمة (من يغرس حزمة ضوء/ لا يدخل أرض الظلمة) (2) ويستمر شاعرنا فى نبرته الرسولية الصارمة فى قصيدة (كفن الملح) ، والتى يستهلها بمفتتح فاجع (كنبى مخذول أخبرنى النخل/ بأعوام أخزى سوف تجئ)... إنذار بالعذاب الشديد من نبى لم يكف يوما عن تنبيهاته (فانتبهوا/ فكلام الشعراء مرارة جرح/ وكلام الشعراء نخاسة بيع)... إنه العذاب الأليم (فمنكم من يسقط حتى كفيه المتسخين/ ومنكم من يسقط حتى البطن المتورم/ بالفتنة/ أو يسقط حتى يقتلع لسان متسخ بدم أو تأويل) (3) وبرغم كل انكسارات الشاعر التى تخلق جوا من التمرد، لكنه لم ينس فى قصيدته (السلام) أنه مسيح دعوته السلام، يكره الموت والرصاص (على أى شئ يثور الرصاص/ وفى أى شئ يموت الأنام) ، ويعيش محبا للجميع (أصلى لأجل الحيارى/ أصلى لأجل العصاه/ لأجل عواء الذئاب/ لأجل هديل الحمام) (4) والمأتم أصبح صورة يراها الشاعر فى ثورته المنكسرة، ففى قصيدته (حقائب الملابس الملونة) ينقلب عرس بلاده الثورى إلى مأتم (رأيت فى عيونك المطفأة/ أبوابك المفتحة/ ولعنة تصيب من يرى/ ومذبحة)... اللعنة أصبحت تصيب من يرى!! يرى ماذا؟؟ سرقة ثورته أم سحق الثوار أم وجه بلاده الملون الغضوب الذى أذله الشحوب؛ والحقيقة تتجلى فى قوله (لكنهم قد سرقوك فى ركوعنا/ تكبيرة الصلاة لم تكن بكافيه) ويستمر المأتم فى قصيدة (تهنئة بالعيد) والذى ينعى فيه شهداء لا تكفيهم وروده الحزينة (أنا خجل/ لأن الورد لا يكفى/ معى خمسون سوسنة) ويمتد مأتمه إلى النيل فى قصيدة (تصريح دفن)، نيله الذى هو (متهم بالترحال وموقوف من عدة أنظمة لا تقرأ/ فقه الطمى ولا انشودة تانا حين ولادته)، نيله الذى (اتسخت بشرته قبل رحيل معاطفه/ لم يترك عنوانا)، نيله الذى ( (بعد الثورة قيل تكور فى التحرير ومات/ وقيل بأن رصاصة قناص فوق العين مباشرة/ نزعت طمى الفقراء مصادفة) (5) وواقعه العربى يمتد باعثا حزنا دفينا فى قصائده، ففى قصيدته (من عود غزة يخرج النغم) ينبعث بكاؤه الحزين (تاريخنا باعت كلاب الحى/ أعظمه بنا)... بكاء مرارة الذل (أين الرجال أكلهم عند المقوقس ناكسون رءوسهم/ أجميعهم خدمُ)، وبكاء الحسرة (مثل العروبة فى الكتاب كحبة/ قد أنبتت من غير تجار الدماء سنابلا/ فى كل سنبلة هرمُ) وفى قصيدة (المشهد) تنبعث آلام القدس لترسم مشهد الوطن (حيث التخوين يجوب شوارعنا/ والتكفير على أرفف دكان عطارتنا) هو مشهد يسكنه التخوين والتكفير، مشهد رتيب بلا امل (من أعوام/ وحدى فى المقهى/ نفس النادل/ لا شئ تغير)، مشهد يتجدد (فى زمن الحكام الحاخامات الكهان القتلة)، مشهد يتهكم بمرارة ((لن تنسى أن تشكر بعض الدجالين وبعض الليبراليين/ وبعض العلمانيين وانصار جمال بأن صمتوا/ إذ صمتوا/ لتراق دماء القدس/ بلا هوس/ أو إعلان فى الصحف اليومية)، مشهد يجسد المرارة فى ذروتها فى قوله (ونذكر/ أن المشهد كل مساء/ برواية حفص عن عاصم) ويقوم بهجاء واقعه العربى فى قصيدة (إلى ابنتى) فرجال العروبة (أنصاف رجال/ لا يعرف واحدهم إلا قهر امرأة)، رجال واقعهم مريب (وما عاد من العرب سوى دجال يدعو لسقيفة دجال)، وقائدهم (يتاجر فى أقراط نساء مخيمنا القومى) أما قصيدته (مرثية) فقد كتبها إلى روح الكاتب الفنان السودانى محمد حسين بهنس الذى مات جوعا (على أرصفة البلد الأكال للحم بنيه)، مات (لكى يحيا/ أنصاف الشعراء وأبواق الجنرالات)، وموت الكاتب السودانى يذكره بموتنا (فى ظل الأنظمة الفاشية نذبح كل صباح/ لا فجر يطل/ ولا أشجار تظل/ ولا أحزان تقل/ يموت الضوء/ يموت الظل/ وكل الأحرار على عتبات الحرية موتى)، وغاب الأمان الذى فقدناه حتى فى أعيادنا (الأعياد هنا لا يأمن فيها غير الموت وطلقات الخرطوش/ وطلقة قناص للرأس)، فالموت وآلته هما الآمنان الوحيدان الآن!! (6) وقصائد الشاعر الرومانسية الذاتية تفيض روعة وبهاء، فقصيدته (وصل العارف) فاصل رومانسى يهدر بوصل صوفى يطير فى سماء الحلول والفناء (أنه يكفى قليل العشق كى افنى/ لميقات به البوح استحال نزوح من يهوى)، فلنعش حياةً فى حياة شاعرنا الهائم (وإذا رفعت الرمش عن عين الرضا فتخلقت/ لغة الحواس جميعها/ للمبتلى/ قد تنجلى لغة حياه/ وعظام آه/ وأنا معى)، ما أجمل حياة شاعرنا وما أجمل قوله (عجزت بلاد العشق أن تحوى دمى) ونلمح رومانسية الفقد فى قصيدة (أتمى جميلك) التى يقول فيها ( أزعم/ أنك شئ صغير خسرت/ وأن اشتياقى إليك رخيص/ وأنى اشتبهت/ وأنكر أنك بعضى وبعضى فقدت) ونلمح رومانسية متأججة فى قصيدة (نعم أنا) التى يقول فيها (صلى على جسدى زمانك كاملا/ وتبتلى/ وتوضئى من دمعك المحراق لا من/ ريق بهجته التى أعطاكِ) ونلمح رومانسية أصيلة من خلال قصيدته الكلاسيكية (إنا شهودك) التى يقول فيها (أنا ما بكيت لأن فقدك موجع بل للدعاء مدامع غمرُ) (7) تحياتنا إلى الشعر وإلى الوطن جميعا فى شخص الشاعر الرائع السعيد عبد الكريم وديوانه الجميل (ركعتان مما على)