يبدو التصارع بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي، في تركيا، بمثابة نموذج للصراعات الخطأ في المكان والزمان الخطأ، والتي لا تفيد الطرفين وتستهلك طاقتهما وتدمر الإنجازات التي حققاها للديمقراطية وللشعوب التركية. فمن جهة، وللإنصاف، فإن أي عهد لم يقدم لأكراد تركيا ما قدمه لهم حزب العدالة والتنمية، بزعامة رجب طيب أردوغان (من موقعه سابقا في رئاسة الحكومة وحاليا كرئيس الجمهورية)، رغم كل المآخذ عليه، بخصوص الشبهات المتعلقة بسعيه للتفرد، والذهاب للنظام الرئاسي، ومحاولته تطويع النظام الديمقراطي البرلماني، كما بخصوص نزعته "الإسلاموية". ومن جهتهم فإن الأكراد في تركيا حققوا في هذا العهد مكتسبات كبيرة وغير مسبوقة، بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي الذي يتزعمه صلاح الدين دميرداش، رغم أن هذا الحزب مازال يحافظ على صلاته بحزب العمال الكردستاني وتشكيلاته المسلحة في جبال قنديل، التي تعتبر في تركيا بمثابة جماعة إرهابية. في هذا الإطار فإن المسؤولية تقع على عاتق أردوغان، الذي يتسرع في استعداء أكراد تركيا، وإخراج حزب الشعوب الكردي من إطار الديمقراطية، من خلال إثارة دعوات قضائية ضد بعض نوابه في البرلمان، في ما يمكن اعتباره سياسة قصيرة النفس، تحوم حولها شبهات تجيير ذلك لصالح تنظيم انتخابات مبكرة، تعيد حزب العدالة والتنمية إلى الأكثرية التي تمكنه من تعديل الدستور، وتاليا التحول نحو النظام الرئاسي. واضح من ذلك أن طريقة عمل أردوغان لا تفيد حزب العدالة والتنمية، بل إنها تضر به وبشعبيته كما تبين من الانتخابات السابقة، ناهيك أن ذلك يضعف من مسار الديمقراطية في تركيا، ما يفيد خصوم الطرفين من القوميين المتعصبين، لاسيما أن تركيا شهدت نفس هذه الممارسات في عهود سابقة ضد التيار الإسلامي. والمعنى أن إضعاف الأكراد، وتاليا إضعاف الديمقراطية التركية، لن تصب في صالح حزب العدالة والتنمية ولا في صالح التيار الإسلامي مستقبلا. أما ما يؤخذ على حزب الشعوب الديمقراطي، فيتلخص في مبالغتهم بالمكاسب التي حققوها بعد النجاح في الانتخابات البرلمانية، إذ أن هذا الفوز يفترض بهم البناء عليه في تعزيز مكانتهم بين الشعوب التركية، بدل الذهاب نحو الخلط بين قضاياهم وقضايا الأكراد في أماكن أخرى، ولاسيما قضية الأكراد في سوريا. فمع كل الاحترام لوحدة القضية الكردية فإن التعاطي الأحادي ولاعتبارات التعصب مع قضية الأكراد في سوريا، لن تلقى تفهما في الدوائر التركية الحاكمة، ولا من أوساط المعارضة السورية، ولا حتى لدى قطاعات من الأكراد في سوريا أو في العراق. ناهيك أن هذا الموقف يعزز الشبهات بشأن علاقة حزب الشعوب بحزب العمال الكردستاني. طبعا يستحق الأكراد كل التعاطف معهم، فقضيتهم شرعية وعادلة، وهم ذهبوا ضحية التوازنات والمساومات الدولية والإقليمية في الحربيْن الأولى والثانية، مثلهم مثل الفلسطينيين، بل ربما أن قضية الأكراد أكثر تعقيدا من ذلك، بسبب توزعهم على أربعة بلدان كبيرة وفيها حساسيات كثيرة، ناهيك عن إنكار واقع الأكراد كشعب، في حين يعتبر الفلسطينيون جزءا من أمة عربية كبيرة. بيد أن هذه التعقيدات تفرض على أكراد تركيا تحديدا إدراك ضرورة المواءمة بين تطلعاتهم القومية المشروعة، وكيفية استثمار وتكييف كفاحهم في دفع التحولات الديمقراطية في تركيا. وضمنه الحسم في إلقاء السلاح، والقطع مع تراث حزب العمال الكردستاني، لاسيما بعد المراجعات التي قام بها زعيمه عبدالله أوجلان، بما يفتح على تسوية تاريخية في تركيا لصالح الأكراد. وهذا يتطلب أيضا، تشجيع أكراد سوريا على الانخراط في عملية التغيير السياسي في بلدهم، بما في ذلك دفع القوة السياسية الأكبر لهم (الاتحاد الديموقراطي) للقطع مع النظام، والانخراط في مسار الثورة السورية، رغم كل التحفظات على خطاباتها ومساراتها. أكراد تركيا، والأكراد عموما، معنيون بعدم الدخول في مغامرات قد تبدد الإنجازات التي حققوها في أكثر من بلد، لاسيما أن هذا ليس زمن تجلي القومية الكردية، في عالم يذهب نحو التجمعات الكبيرة ونحو دولة المواطنين المتساوين والأحرار. كما أنهم معنيون بالحذر من الدخول في لعبة التوظيفات الإقليمية، لأن هذا أكثر ما يضر بالحركات الوطنية، وقضاياها العادلة والمشروعة، سيما مع السكوت عن حال أكراد إيران. إسألوا الفلسطينيين عن ذلك. نقلا عن " العرب " اللندنية