للعام الثاني على التوالي تشهد الساحة الثقافية المصرية جدلا بشأن مسلسلات تلفزيونية رمضانية تناولت احداثا تاريخية فيما يؤشر هذا الجدل لأهمية الدراما التلفزيونية التي امست مدعوة لتقديم اعمال حول قناة السويس الجديدة بمعالجات تليق بمستوى هذا الحدث والهاماته ورمزيته في الضمير الوطني المصري واهميته كجزء من تاريخ وطن وذاكرة شعب. وفيما شهد العام الماضي جدلا حول "مسلسل" صديق العمر" فان الجدل تركز هذا العام حول المسلسل التلفزيوني "حارة اليهود" وهو جدل مازال مستمرا على نحو مالاحظ الدكتور وحيد عبد المجيد رئيس تحرير مجلة "السياسة الدولية"، بحسب وكالة أنباء "الشرق الأوسط". وذهب عبد المجيد الى ان هذا النوع من الجدل الذي يحاكم فيه مسلسل تلفزيوني "كما لو انه عمل وثائقي او توثيقي وليس عملا فنيا" سيتكرر "مادمنا نخلط بين التاريخ من حيث هو علم اجتماعي والدراما بصفتها عملا فنيا". واوضح وحيد عبد المجيد انه بخلاف المؤرخ او الباحث في التاريخ فالمطلوب من صانع الدراما التاريخية ان "يقدم عملا فنيا جميلا مستقى من التاريخ ولكنه قائم على رؤية ابداعية يلعب فيها الخيال دورا رئيسيا". واشاد الكاتب المسرحي بهيج اسماعيل ايضا بهذا العمل التلفزيوني معتبرا انه "مسلسل مدروس كتابة واخراجا وتمثيلا" فيما كان الكاتب والروائي يوسف القعيد من بين فريق من المثقفين المصريين ابدوا عدم ارتياح حيال مسلسل "حارة اليهود". وبينما رحب الدكتور مدحت العدل مؤلف هذا العمل الدرامي بالنقد دون تصيد الأخطاء مؤكدا على ان مايعنيه في المقام الأول هو "امتاع المشاهد" اتخذ الكاتب اسامة الألفي موقفا بالغ الحدة ضد هذا المسلسل التلفزيوني معتبرا انه يصب في خانة "تزوير التاريخ" وقال انه لايرى له هدفا او مغزى "يصب في صالح مصر وشعبها". وواقع الحال ان هناك نقادا اشاروا الى ان صدق رواية الحدث التاريخي لايكبل خيال المبدع او يحول دون ظهور عمل درامي تلفزيوني ناجح ويحظى بنسب مشاهدة عالية كما ان الصواب لايجانب هؤلاء الذين قالوا انه لاينبغي اختزال اي حدث تاريخي في البعد السياسي لأن هذا البعد محكوم في نهاية المطاف بمحددات ثقافية وشروط اقتصادية ومعطيات اجتماعية. وهذا الجدل الذي اثير في العام الماضي حول مسلسل تلفزيوني رمضاني تناول اهم شخصيتين في ثورة 23 يوليو وتجدد هذا العام حول مسلسل "حارة اليهود" انما يؤشر ايضا لأهمية الدراما التلفزيونية والحاجة لنقد تاريخي موضوعي . وكان مسلسل "صديق العمر" الذي ركز على العلاقة البالغة الخصوصية والأهمية بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر قد اثار تساؤلات بين العديد من المثقفين المصريين حول العلاقة بين الدراما وكتابة التاريخ وانعكاس العمل الدرامي على الوعي الجمعي. ووصف السيناريست والكاتب مصطفى محرم بعض المناقشات والتعليقات واللغط حول مسلسل "صديق العمر" "بالخروج عن المفاهيم النقدية السليمة" معتبرا ان بعض من انتقدوا هذا العمل يفتقرون للفهم او المعرفة الحقيقية بأصول الفن وأصول علم التاريخ معا. وحرص محرم على التمييز بين "العمل الفني" الخاضع للمقاييس الفنية " و"العمل التاريخي الوثائقي" موضحا ان مسلسل "صديق العمر" هو عمل فني لا وثيقة تاريخية واضاف ان "الحقيقة الفنية تختلف عن الحقيقة في الواقع. غير ان محرم اقحم في هذا الجدل رأيه السياسي في الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بقوله في جريدة الأهرام :"انا اعتقد ان جمال عبد الناصر كان يخطيء كثيرا ويصيب قليلا وهذا من ابرز سمات الشخصية التراجيدية حيث ان المحصلة النهائية لم تكن في صالح عبد الناصر ولكن للأسف كانت في مصلحة اعداء مصر". وفيما كان مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر الوزير السابق سامي شرف ضمن من انتقدوا هذا المسلسل وعدد مآخذه عليه فان مصطفى محرم انبرى للهجوم عليه قائلا :"وقد شجع هذا اللغو سكرتيرا كان يعمل مع عبد الناصر ان يدقق من ناحية قربه من الزعيم في بعض تفاصيل حياته حتى كاد يصل به الأمر الى ماكان يأكله عبد الناصر وماكان يرتديه من ثياب وماكان ينطق به في جلساته من اقوال بشكل يثير الضحك عند الذين يدركون الفرق بين الفن والتاريخ". وكان الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة قد ذكر مؤخرا في سياق تعليقه على جدل اثير حول ثورة 23 يوليو في ذكراها الثالثة والستين ان الأحداث الكبرى في تاريخ الانسانية كانت دائما محل خلاف وصراع ولكن هذا كله لاينقص من قدرها او يقلل من اهميتها مؤكدا على ان ثورة يوليو ستبقى "حدثا كبيرا ومؤثرا في ذاكرة المصريين حتى وان اختلف البعض عليها في المواقف والآراء". ومنذ سنوات كتب فاروق جويدة سلسلة مقالات في جريدة الأهرام تحت عنوان :"من يكتب تاريخ ثورة يوليو" فيما اعتبر ان تاريخ هذه الثورة يخضع حتى الآن للكثير من الأهواء لافتا لخطورة اختفاء الوثائق الخاصة بالثورة واحداثها الكبرى. وفي المقابل لفت الكاتب احمد الجمال لضرورة احترام القائمين على النص لوقائع التاريخ المعروفة وماوصفه "بالظرف الموضوعي زمانا واطرافا" فيما سلم هذا الكاتب المعروف باتجاهه الناصري "بأنه ليس لأحد الحق في ادعاء الامساك بأختام الوطنية ودمغات الموضوعية" ". وانما الأمر-حسب احمد الجمال- يتعلق بالمادة التاريخية بمصادرها ومراجعها والقدرة على التعامل مع تلك المادة كما انه امر قدرة على التعامل مع هذه المادة وفق القواعد المنهجية المستقرة في علم النقد التاريخي ناهيك عن قواعد وادوات علمية تعرفها اكاديميات ومعاهد الفنون . واذا كان ثمة ابداع لرائد يتمرد على تلك القواعد والأدوات ويأتي بجديد غير مسبوق -فان ذلك كما يقول احمد الجمال وهو دارس للتاريخ- يأتي بعد احترام البديهيات في مجال علم التاريخ وعلوم السيناريو والاخراج ومن ثم فان خرق هذه البديهيات او تجاوزها يفصح عن "ان للعمل هدفا اخر غير اجلاء الحقيقة وتعظيم الموضوعية". وطال النقد ايضا في العام الماضي مسلسل "سرايا عابدين" بسبب ماوصف بالأخطاء التاريخية الفادحة وذهب الباحث والمؤرخ ماجد فرج الى ان هذا المسلسل "كله اكاذيب" نتيجة لما وصفه في مقابلة تلفزيونية"بجهل المؤلفة بتاريخ مصر" . وقال الدبلوماسي والبرلماني السابق الدكتور مصطفى الفقي"راق لي تعريف متميز لمفهوم الثقافة حددها بأنها الوعي بالتاريخ" معتبرا ان المطلوب "تنقية التاريخ من شوائبه سواء كانت اساطير او اكاذيب او اهواء شخصية". ويحرض الفقي المفكرين والمثقفين والمؤرخين واساتذة علم السياسة "لكي نعيد قراءة التاريخ المصري من جديد" لافتا الى ان "شعبية عبد الناصر الكاسحة تضعه في المقدمة بين صفحات تاريخنا المعاصر" فيما رأى استاذ العلوم السياسية الدكتور محمد السيد سليم ان "دور اهل الفن في الارتقاء بالذوق العام بل وبالاخلاق وبتاريخ وتراث مصر" يدخل في "باب المسئولية الاجتماعية". وتحدث سليم في هذا السياق عن "الاعتداء الفاضح على تاريخ مصر في الأعمال الفنية التي تتناول موضوعات تاريخية بما يرسخ في اذهان الأجيال معلومات تاريخية غير صحيحة ويشوه شخصيات اسهمت في بناء مصر". واذ تستعد مصر الآن لحدث مفصلي في تاريخها فان الدراما التلفزيونية لابد وان تواكب هذا الحدث الذي سينقل ارض الكنانة من حالة إلى حالة جديدة لشعب ثار من اجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية واستقلال الارادة الوطنية. ومن نافلة القول اننا بحاجة لدراما تلفزيونية مختلفة عن اعمال وصفت بأنها "قد شوهت التاريخ وافسدت ذاكرة الأجيال الجديدة" ناهيك عن اعمال تنضح بمظاهر الانفلات الاخلاقي ولاتعبر عن جوهر وحقيقة الشخصية المصرية حتى ان مثقفا مصريا مثل الدكتور محمد السيد سليم ذهب الى ان الفن المصري بلغ مرحلة "الجنوح الاجتماعي الأخلاقي الشامل" كما تجلى في المسلسلات التلفزيونية لشهر رمضان . واذا كان المصريون يتطلعون للحدث التاريخي المرتقب يوم السادس من شهر اغسطس الجاري عندما تفتتح قناة السويس الجديدة فلاريب ان قناة السويس تشكل مادة درامية بالغة الثراء وقصة مشوقة حقا بالمعنى الفني والأدبي منذ ان افتتحت القناة لأول مرة في السابع عشر من شهر نوفمبر عام 1869 بحضور نحو ستة آلاف مدعو من مشاهير العصر والشخصيات العالمية وعلى رأسهم الامبراطورة اوجيني زوجة امبراطور فرنسا نابليون الثالث وامبراطور النمسا وملك المجر والكاتب النرويجي الأشهر هنريك ابسن. ولئن كانت الأوبرا المصرية تستعد لتقديم عروضها الفنية في حفل افتتاح قناة السويس الجديدة على ايقاعات "مارش النصر" وابداعات الموسيقار عمر خيرت فان الدراما المصرية مدعوة لتقديم ابداعاتها عن هذا الحدث الكبير عبر اعمال على الشاشتين الكبيرة والصغيرة فيما الصور تتلاحق في دراما قناة السويس مابين حفل افتتاحها الأول وحفل افتتاحها الثاني ومابين القرن ال19 والقرن ال21 حيث تعبر طبيعة الاحتفالات عن طابع كل عصر وثقافته. وكما لاحظ البعض عن حق فان قناة السويس عبر تاريخها المديد تعبر ايضا عن دراما الصراعات العالمية والتطورات على صعيد العلاقات الدولية بقدر ماعبرت عن عبقرية موقع مصر والارادة الوطنية للمصريين وكلها صفحات "حافلة بالالهامات الثقافية والدرامية" وتوفر مادة ثرية لأعمال تلفزيونية تليق بحدث افتتاح قناة السويس الجديدة . نعم نحن بحاجة لاستلهام الأحداث التاريخية كحدث افتتاح قناة السويس الجديدة لتتحول بقدرة كاتب الدراما الى مواقف وشخصيات في سياق رؤية ابداعية وطنية تعزز ادراك الأجيال الجديدة والصاعدة بالتاريخ المجيد لهذا الوطن وتضحيات الآباء والأجداد بقدر ماتخدم المستقبل وترسخ الثقة بالذات المصرية. في تلك اللحظات لابد من وضوح الرؤية لتبقى مصر دوما منارة للابداع والجمال..الوطن الذي شهد ثورتين عظيمتين في ثلاث سنوات ويستعد لافتتاح قناة السويس الجديدة يتطلب دراما تعبر عن اللحظة المصرية والهامات القناة..دراما عن الانسان المصري الذي يقدم للدنيا امثولة مصرية لاتموت.