أخذتنى صدمة «موجة الاستعلاء» التى تكشفت عند بعض السادة القضاة الذين يرون أن مهنة القضاء يجب أن تكون «مهنة مغلقة» على أبناء كبار طبقة الأغنياء والميسورين دون أبناء باقى الشعب من عمال وفلاحين وحرفيين وصغار موظفين، إلى أيام مهمة عشناها كمصريين عامى 2004 و2005 عندما أخذ نظام مبارك مبادرة زعم من خلالها أنه يتجاوب مع مطالب الإصلاح التى أخذت تأسر أغلبية المصريين ودفعتهم إلى القلق على مستقبل مصر وكان سؤال «مصر رايحة على فين» هو السؤال الجامع والأكثر تعبيراً عن قلق المصريين على بلادهم وهم يتابعون جهود النظام فى اتجاهين يرسخان احتكار السلطة وإغلاق كل أبواب تداولها، أولهما: يطالب بالتجديد لحسنى مبارك لولاية رئاسية جديدة، وثانيهما: يطالب بتوريث الحكم على نجله جمال مبارك. كانت تلك المبادرة هى تنظيم مكتبة الإسكندرية لمؤتمر حمل اسم «مؤتمر الإصلاح العربي». مجمل هذه التطورات والمخاوف على مصر ومستقبلها كانت الدافع وراء المجموعة التى أخذت على عاتقها مسئولية الإجابة عن سؤال: مصر إلى أين؟، وكانت المحصلة هى مجموعة الرؤى والأفكار التى شكلت «الحركة المصرية من أجل التغيير» (كفاية) والتى أكدت ضمن شعاراتها مقولة « لا للتمديد ولا للتوريث» ورفضت دعوة الإصلاح الباهتة ودعت إلى التغيير ثقة فى أن النظام هدَّم وبدَّد وأفسد كل شئ ولم يترك أى مجال للإصلاح وأن التغيير بات حتمياً وأنه يجب أن يكون تغييراً سياسياً ويبدأ من رأس النظام وهدفه وضع نهاية لاحتكار السلطة والثروة فى مصر. وللرد على مقولة أن «كفاية» تكتفى بالرفض فقط ورفع شعارات «لا» كانت المبادرة بطرح رؤية فكرية معمقة لمشروع التغيير الذى نريده، حملت اسم «مصر التى نريد.. نحو عقد اجتماعي- سياسى جديد لبناء مجتمع العدل والحرية»، كان لى شرف صياغتها. كان العدل الذى نريده هو العدل الشامل: العدل القانونى أى مساواة المصريين أمام القانون، وأن تشمل العدالة وتنتصر لكل المصريين، والعدل الاجتماعى بأن يكون لكل مكونات المجتمع المصرى نفس القدر من العدل أياً كانت الاختلافات الدينية (مسلم ومسيحي) والجنسية (رجل امرأة) والمناطقية (كل محافظات مصر) والعدل الاقتصادي، بمعنى أن تكون لكل المصريين حقوق متساوية فى الثروة الوطنية، أى التوزيع العادل للثروة الوطنية بين كل المصريين، وبناء مجتمع الفرص المتكافئة لكل المصريين دون أى تمييز، وأخيراً العدل السياسي، أى توزيع السلطة بشكل عادل بين كل المصريين وإنهاء كل أشكال احتكارها لمصلحة طبقة أو فئة أو عائلة، وأن يكون لكل المصريين نفس القدر من الحقوق السياسية، والطريق إلى ذلك هو ترسيخ مبدأ «التداول السلمى للسلطة» وتعميق حرية المشاركة السياسية. وكانت الحرية التى نريدها هى الحرية الكاملة، أو بالتحديد «الحرية العادلة» وتضم كل مناحى وأنواع الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية، وكان طريقنا إلى ضمان هذا كله هو تغيير الدستور وليس إصلاحه أو تعديله، كما كان يروج، بالدعوة إلى دستور ديمقراطي، ثقة منا بأن الدستور الديمقراطى هو الحد الفاصل بين الديمقراطية وغيرها، وهو الدستور الذى يضمن أن تكون السيادة للشعب والحاكمية للشعب وليس لحاكم أو ما شابه، والشعب هو مصدر السلطات يفوضها بإرادته الحرة ويستبدلها بإرادته الحرة، وأن يضمن المواطنة المتساوية بين المواطنين دون تمييز. كانت هذه رؤيتنا التى نريدها لمصر وطنا للحرية والعزة والكرامة، وأحسسنا بالفشل عندما استطاع حسنى مبارك أن يفرض نفسه رئيساً لمصر بولاية جديدة بدأت عام 2005، وبعدها بدأ مشوار جديد من الدعوة إلى حتمية التغيير وضرورته. وعندما فجر الشعب ثورته فى 25 يناير اعتقدنا أن مصر بشعبها العظيم تفوقت على كل النخب وحركات الاحتجاج الاجتماعية، وأن أمل التغيير تحول إلى ثورة، لكن الثورة اختطفت، وانتكست دعوة التغيير بنجاح الإخوان فى التفرد بالسلطة والنكوص بكل وعود الحكم بمشروع وطنى جامع يمثل كل المصريين. وجاءت ثورة 30 يونيو لتصحح المسار، لكن تصحيح المسار لم يكتمل بدليل ما أشرنا إليه من أن دعوة التمييز بين المواطنين باتت متبجحة، وأنها ليست مجرد دعوة قضاة فقط ولكنها دعوة ممتدة فى قطاعات أخرى شديدة الأهمية فى الدولة، وهناك من يحاولون تحويل التمييز من استثناء بغيض إلى «قاعدة افتخار واستعلاء»، والأدهى أن هذه الدعوة لها ما يدعمها من قوانين ولوائح تتعارض كلية مع قيم ومبادئ وأهداف الدستور الجديد. هذا التعارض الذى لا يجد من يردعه يكشف لنا عن حقيقية مؤلمة هى أن الدستور وقيمه ومبادئه فى حاجة إلى جهود هائلة كى تتحول إلى يقين ووعى عند المصريين وإلى قواعد قانونية وتشريعات يصل صداها إلى القضاء ورجاله، وإلى كل المواقع العليا فى السلطة وعلى الأخص الأجهزة الرقابية التى تقع عليها مسئولية مراقبة أداء كل مؤسسات وأجهزة الدولة خاصة مؤسسة القضاء ووزارة الداخلية لأنهما الأولى بالتشبع بالقيم السياسية العليا الواردة فى الدستور خاصة ما يتعلق بحرية وكرامة المصريين، ونبذ كل صور وأشكال التمييز، وحماية كل أشكال الفساد وحماية المال العام. فمسئولية إنهاء أو على الأقل تضييق الفجوة بين ما يتضمنه الدستور من قيم ومبادئ وبين الواقع الفعلى الذى يمارس لن تحدث إلا بأن تبدأ ثورة الإصلاح القيمى أولاً داخل المؤسسات الثلاث: مؤسسات الرقابة خاصة الرقابة الإدارية والجهاز المركزى للمحاسبات، ومؤسسة القضاء ووزارة الداخلية، وهذا بالتحديد هو الجهاد الأكبر الذى علينا أن نقوم به. فإذا لم تتطهر هذه المؤسسات الثلاث من داخلها، وإذا لم تكن القيم السياسية والاجتماعية الواردة فى الدستور والتى طالب الشعب بها قيماً حاكمة لأداء هذه المؤسسات مع نفسها أولاً ومع جمهور المصريين ثانياً فإن الفجوة سوف تتفاقم داخل المجتمع، لأن اتساع هذه الفجوة سيفرض القيم البديلة خاصة الاستبداد والفساد والمحسوبية والاستهانة بالقانون والاستعلاء عليه من مؤسسات وظيفتها الأولى هى تنفيذ القانون والانحياز له والدفاع عنه، كما أن عدم الإسراع بإلغاء كل القوانين التى ترسخ قيم الاستبداد والفساد والتمييز والاستعلاء على القوانين وعلى الشعب سيؤدى إلى انتكاسات هائلة فى مقدورها أن تعيد المصريين إلى واقعهم الأليم الذى ساد مصر ابتداءً من عام 2004 عندما كان المصريون يتساءلون: مصر رايحة على فيين»؟!! وهم الآن عادوا ليتساءلوا مجددا: «مصر رايحة على فين وهم فى ظل معاناتهم من استعلاء بعض السادة أصحاب النفوذ الذين يحاولون تمرير مقولات عنصرية تقول إن القيم والمبادئ والأخلاق توّرث ولا تكتسب، وأن الفقير أو الجاهل يجب أن يبقى فقيرا وجاهلاً ولا يطمع أبداً فى الارتقاء. وهذا كله معناه أننا يجب أن نبقى فى مصر أسرى لنظرية: السادة والعبيد، هم السادة ونحن جميعاً العبيد، وهذا لن يحدث أبداً مادمنا بقينا نحلم بالعزة والكرامة. نقلا عن " الاهرام" المصرية