كانت حياة الناقد الكبير والكاتب السياسى، صاحب الهمة الدكتور محمد مندور أشبه بثورة دائمة، لم يسقها دماً ودموعاً، كعادة الثورات الحمراء، أو حتى تلك التى تزعم بياضها، بل رواها من مداد قلمه، وعلو طموحه، ورغبته العارمة فى أن يجد بلده فى مصاف الأمم المتقدمة فى كل شىء. لهذا عاش «مندور» حياة مفعمة بالفعل الثورى فى شتى صوره، ثورة فى السياسة، وأخرى فى النقد، وثالثة لكسر الصمت والتواطؤ، ورابعة ضد حاله التعليمى، وخامسة تمرداً على الوظيفة الحكومية. وفى السياسة عايش مندور أحداث ثورة 1919 وهو ناعم الأظافر فى قريته، فلما شب عن الطوق وصار فى المرحلة الثانوية بطنطا، تزعم إضراباً للطلاب ومظاهرات غاضبة أواخر سنة 1924 رفضاً للاحتلال الإنجليزى، وحكومة زيوار باشا التى جاءت على حساب حكومة سعد زغلول بعد مقتل السردار السير لى ستاك. وفى عام 1945 رفض «مندور» محاولة إسماعيل صدقى باشا استمالته بتعيينه سفيراً فى سويسرا مقابل أن يقلع عن نقد مشروع معاهدة صدقى بيفن فى مقالاته الملتهبة، ولم يخف من اتهامه مع مائتى كاتب وصحفى باعتناق الشيوعية لتخويفهم وتركيعهم، على رأسهم سلامة موسى وعبدالرحمن الشرقاوى ونعمان عاشور وعبدالعظيم أنيس، وقال يومها قولته القوية رداً على عرض صدقى: «إنى أفضل الانتحار على مثل هذه الخيانة الوطنية». وكان ثمن رفضه هذا أن تم القبض عليه، ليمكث فى السجن ستة وأربعين يوماً، ويقول هو عن ليلة القبض عليه: «فاجأنى البوليس فى بيتى بدورياته وعساكره وضباطه، فأزعجوا زوجتى وأطفالى إزعاجاً شديداً، ثم ساقونى معهم إلى المحافظة رغم أنهم لم يجدوا فى منزلى أى كتاب أو ورقة تشير إلى أننى شيوعى قريب أو بعيد». ولما قام الضباط ب«الحركة المباركة» كما سموها، فى 23 يوليو 1952 كان «مندور» ينظر إليها بامتنان حول «العدل الاجتماعى» وحذر حيال «الديمقراطية» وإن لم يخالف وصف أستاذه طه حسين لها بأنها «ثورة» وهو ما حاول عبدالناصر تحقيقه بإجراءات أدت إلى تغيير اجتماعى ملموس. ويبدو أن مندور قد سابق الزمن كى يقول رأيه ويبدى مخاوفه فألف كتيباً بعنوان: «الديمقراطية السياسية» صدر فى 17 ديسمبر 1952، طالب فيه بتعزيز سيادة الأمة، وألا تظل حبراً على ورق، ويكون هذا التعزيز المرتجى عبر الإصلاح الدستورى، وتعميق المشاركة السياسية، وإطلاق الحريات العامة، والحفاظ على حقوق الإنسان، ووجود أخلاق سياسية سليمة، وأظهر تحيزه للتغيير الجذرى، وهو الفعل الثورى الحقيقى، إذ يقول: «كان المفهوم أن يؤدى طرد الملك من مصر إلى أن تعود السيادة إلى الأمة ولكن الحركة وقفت حتى اليوم عند الأشخاص، فهى قد عزلت شخص الملك ولكنها لم تعزل النظام الملكى وهى تركز جهدها اليوم فى تطهير أجهزة الدولة من بعض الأشخاص ولكنها لم تطهر تلك الأجهزة من القيود والثغرات المخيفة القائمة فى الدستور وفى القوانين والنظم المتراكمة من العهود المتفرقة». (ونكمل غداً إن شاء الله تعالى) نقلا عن " الوطن " المصرية